نفس بلادة الحس وبطء التفكير وموت الضمير, نفس ملامح الوجه وطريقة الكلام وتعبيرات الجسد, نفس البيانات والتصريحات, نفس الكذب والخداع والمناورة, حالة توحد كاملة مع مبارك الطاغية الأب والطاغية المعلم والطاغية الأستاذ. ها نحن أمام تلاميذ مبارك وأبنائه وأحفاده وأحبابه نخوض في ثورة مصرية ثانية حيث ثبت أن الثورة الأولى لم تستأصل السرطان بل استأصلت جزء بسيط منه واستفحل الجزء المتبقي وتوحش حتى ليكاد يكون أكثر فتكا من سابقه. ومرت الشهور بعد الثورة ليكتشف المصريون أن الثورة المضادة تسيطر على مقاليد الأمور, وأن الفلول أصبحوا أصولا, وأن الثوار خلف القضبان, وأن مصابي الثورة وأهالي الشهداء يسحلون في الشوارع والميادين.
شيء ملفت للنظر أن الطغاة لا يتعلمون من سابقيهم وقد كانوا ربما أكثر طغيانا ومع هذا سقطوا على أيدي الثوار, وهذا ما يجعل الطغاة التاليين (التلاميذ) يقعون في نفس الحفرة ويعيدون نفس الأخطاء ويرتكبون نفس الحماقات ويظهرون نفس الغطرسة والتعالي والعناد, ويتساءل الناس: ألا يتعلمون؟... ألا يقرؤون؟.... ألا يفهمون؟
وتأتي الإجابة العملية من مسرح الأحداث الثورية: الطغاة لا يقرؤون ولا يكتبون ولا يفهمون, بل هم يتحركون بغرائز بدائية جذورها الرغبة في التملك وحب الخلود, وهذه الغرائز البدائية تعمي أعينهم تماما فلا يرون كيف سقط آباؤهم الطغاة أمام أعينهم فيعيدون دورات الطغيان مرة بعد أخرى ويلقون نفس المصير. فحسني مبارك شهد مصرع السادات ولم يتعلم, وعايش نهاية صدام حسين ولم يتعلم, ورأى سقوط زين العابدين بن على ولم يتعظ إلى أن سقط مثلهم. ومعمر القذافي شهد سقوط هؤلاء جميعا ولم يتعلم حتى سقط هو وأولاده, وعلى عبد الله صالح وبشار الأسد شهدا كل ما سبق ولم يتعلما ولم يفهما, وهانحن في مصر نرى أبناء مبارك وذيوله وقد شهدوا سقوط أكثر من طاغية ولم يتعلموا ولم يفهموا, وظنوا أن استخدام القوة المفرطة وعدد كبير من القنابل المسيلة للدموع من النوع شديد الخطورة مع استخدام النيران الحية والخرطوش, كل ذلك يمكن أن يرعب الثوار فيتنازلوا عن ثورتهم الثانية, بينما يهنأ الطغاة بثمار الثورة الأولى.
والطغاة بهذا السلوك يتعاملون مع الثوار وكأنهم مجرمين أو بلطجية أو خارجون عن القانون فيستعملون معهم أسلوب الردع بالقوة والشدة المفرطة فيخضعون أو يتراجعون, وهذا خطأ فادح إذ هو عكس قوانين الثورة وعكس تركيبة الثوار, فالثورة نبات يرتوي بدم الشهداء ويتنفس من أرواحهم, والثوار يتميزون بشيئين أساسيين وهما: أن الثائر لديه قضية عادلة يؤمن بها وأنه لا يثق بالسلطة القائمة ويعتبرها غير شرعية, ومن هنا فكلما سال دم الشهداء أو أزهقت أرواحهم كلما كبرت الثورة وترعرعت, وكلما زاد البطش بالثائر كلما زادت قناعاته بعدالة قضيته وزاد يقينه بعدم مشروعية السلطة القائمة واتسع الشرخ بينه وبينها.
إذا فهمنا هذه التركيبة النفسية للثوار, نفهم كيف تكبر الثورة وتترعرع بفعل الطغاة الذين لا يفهمون ولا يتعلمون, وبهذا يصبح الطغاة هم أنفسهم مفجري الثورات ومشعليها, فغرائزهم البدائية وعمى أبصارهم وبلادة عقولهم وبطشهم وتعاليهم وعنادهم وبطء استجابتهم, كل ذلك يشكل وقودا متجددا للثورة يضمن استمرارها.
والثائر يبدأ في أول طريقه محبطا وغاضبا ولكنه يدرك الفرق الشاسع بين قوته البسيطة وقوة الطاغية الهائلة, ولكن اندفاعه الثوري يتجاوز في لحظة ضيق وإحباط حسابات القوى وكأنه نوع من الاندفاع في جوف الخطر للوصول إما للأمان أو للموت, ولكن بعد قليل من الفعل الثوري يبدأ التحول في ميزان القوى على المستوى النفسي, إذ يستشعر الثائر بعد كسر حاجز الخوف أنه أصبح بإرادته وعزيمته أقوى من الطاغية, ويبدأ الطاغية في الشعور بالقلق إذ تزداد مع الوقت رقعة الثورة ويزداد عدد الثوار ويتجرأ عليه من كان يحسبهم عبيدا خاضعين له, ولكن الطاغية يحاول الحفاظ على توازنه من خلال دفاع الإنكار وهو آلية نفسية يستخدمها الإنسان ليخفي عن نفسه مالا يحب أن يراه فيهون من أمر الثورة والثائرين ولا يراهم إلا قلة مندسة أو مجموعة من المتآمرين أو جرذان يتعاطون حبوب هلوسة أو مجموعة قليلة تحركها أصابع خارجية, وهذا كله يمثله قول فرعون "إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ". وبناءا على ذلك الإنكار من جانب الطاغية يضطرب إدراكه للأمور ويستمر في المكابرة والعناد إلى أن يصل إلى نقطة اللاعودة حين لا يصبح أمامه مخارج آمنة فيتجه نحو النهاية المحتومة.
والثائر كلما واجهته آلة الطغيان بالقمع الوحشي يرتفع سقف مطالبه فهو ربما يخرج في البداية مطالبا ببعض الإصلاحات الجزئية, ولكنه يكتشف أثناء المواجهة حجم الفساد والطغيان والسرطان المستفحل ويكتشف توحش السلطة التي ثار في وجهها ويكتشف مدى خداعها وكذبها فتتصاعد مطالبه حتى تصل إلى المطالبة باجتثاث السرطان جراحيا بالكامل, ثم يكتشف أن ثمة خلايا سرطانية متبقية حتى بعد الاجتثاث الجراحي للسلطة وأن هناك ضرورة للاستمرار في العلاج الكيماوي والإشعاعي لتلك الخلايا السرطانية المتغلغلة في جسد الوطن والتي تربت في أحضان الفساد السابق.
والثائر لديه مخزون هائل من الإحباط المتراكم والغضب, ومخزونه الشخصي متصل بالمخزون الجمعي الأكبر, ولهذا تتصل آبار الغضب وتشكل دفعا هائلا للفعل الثوري لا تقف أمامه أي قوة مهما كان جبروتها, ولهذا يقال دائما أن إرادة الشعوب لا تقهر. والغضب يبدأ فرديا من شعور الفرد بالظلم والقهر والحرمان من حاجاته الأساسية, ثم يتطور إلى غضب فئوي أو طائفي ثم يتطور إلى غضب جمعي ثائر يتوجه بدافع البحث عن الاحتياجات المسلوبة من عيش وحرية وكرامة إنسانية وعدالة اجتماعية, ويقابل هذا الغضب الجمعي الشعبي الثائر غضب سلطوي جائر يحرك جحافل القوة الشرطية أو القوة العسكرية لقمع الغضب الثائر, ولما كان الغضب السلطوي جائر بالضرورة وموجه نحو مصالح الدكتاتور الشخصية فهو يتسم بالعدوان في أقصى صوره ولا تحكمه قواعد أخلاقية فيذهب إلى أبعد مدى في الخسة والطغيان والإدعاء والكذب والمراوغة فيشعل الغضب الثائر ويؤكد له عدالة وحتمية ثورته.
وفي الغضب الجمعي الثائر يتجمع الناس ويتوحدون وتظهر صفة الجمعية في الحشود الثائرة فتقل درجة الخوف أو تنعدم وتزيد حدة الغضب ويرتفع مستوى الجرأة والجسارة, وتنقلب موازين القوى في صالح الغضب الشعبي الثائر والهادر, في حين يبدأ الغضب السلطوي الجائر في الانكسار والانشطار حين يكتشف القطيع المحيط بالطاغية أن النهاية قد اقتربت فيسعى بغريزة القطيع للحفاظ على حياته فيهرب أو يتحول ليصل الأمر في النهاية بالطاغية أن يهرب ويختبئ في حفرة (كصدام) أو في ماسورة مجاري (كالقذافي) أو في مستشفى (كمبارك) أو في منفى إجباري (كزين العابدين بن علي).
والثائر يسعى للتغيير والتحريك والتطوير أمام سلطة تتمسك بالثابت القديم المتجمد والمتعفن, ولهذا ينتصر الثائر في النهاية لأنه يسير في اتجاه قانون الحياة الطبيعي, أما السلطة المستبدة فهي تسير ضد قانون الحياة حيث تحكمها قوانين المصالح الشخصية الضيقة وتحاول ضبط إيقاع الحياة على دقات قلبها البطيئة. وهذا يجعل الثائر يستشعر حالة من التسامي والرقي ويحيا حالة من الوجد والطمأنينة والحماس والأمل على الرغم مما يحيط به من مخاطر, لذلك يكون أطول نفسا وأكثر صمودا من الطاغية.
والثورة بالمفهوم الوجودي هي عملية تطهير وإصلاح ذاتي للمجتمع حين يصل إلى حالة من الاستعصاء التاريخي وحالة من الفساد تهدد بقاءه, أي أن الثورة تأتي حفاظا على وجود المجتمع واستمراره, والخائفين من الثورة لو استشرفوا مصيرهم بدون الثورة لأصابهم رعب هائل لأن استمرار منظومة الطغيان والفساد يستدعي نتائج كارثية أخطر بكثير من بعض مخاطر الثورة أو أعراضها الجانبية, فالثورة مثل أي دواء لها أعراض جانبية ربما تكون مقلقة, ولكن مع هذا يلجأ إليها الناس كما يلجئون إلى الدواء حين يستحيل شفاء المرض بدونه.
واقرأ أيضاً:
ماذا فعل عصام شرف بالثورة المصرية/ ماذا لو تمكّن مسيلمة الكذّاب؟/ رؤية طبيب نفسي لخطاب السيد المشير/ لماذا عادت الثورة من جديد؟