مقدمة:
هناك قواعد أساسية من الضرورة الانتباه إليها عند الحديث عن الصحة النفسية والأمراض النفسية حيث تختلف في صياغتها وطرق معالجتها عن الأمراض العضوية. على سبيل المثال عندما يشتكي إنسان من الاكتئاب أو القلق فهو ليس بالضرورة يعاني من مرض نفسي وإنما شكواه قد تكون لها أسبابها الاجتماعية، العائلية، الوظيفية وغيرها. على ضوء ذلك لابد من الانتباه إلى النماذج المتعددة أدناه عند تقييم شكوى أي مريض وعلاجه.
هناك العديد من النماذج التي تم دراستها وتطبيقها في مجال الصحة النفسية. يمكن تصنيف هذه النماذج إلى أربعة نماذج كما هي مدونة أدناه. لكن في نهاية الأمر لابد من جمع هذه النماذج في نموذج متكامل من أجل صياغة علمية للحالة وشكوى الفرد.
النموذج الاجتماعي Social Model:
يتصدر هذا النموذج الحركة الطبية النفسية المعروفة بالطب النفسي الاجتماعي Social Psychiatry وفي إطار هذا النموذج يمكن تفسير الحالة النفسية للناس بأنها نتيجة ظروف اجتماعية قاهرة، أو أن الظروف الأخيرة تلعب دورها في عدم استجابة المريض للعلاج.
تم دراسة العديد من الظروف الاجتماعية وتأثيرها على الصحة النفسية على مستوى الفرد والمجموعات الفردية، وخاصة في مجال أمراض الاكتئاب والقلق. من العوامل الاجتماعية السلبية التي قد تؤدي إلى أمراض نفسية:
١- البطالة.
٢- الفقر.
٣- غياب علاقة شخصية صحية.
٤- وجود ثلاثة أطفال أو أكثر دون سن الحادية عشر في الأسرة.
٥- غياب فرص تعليم.
هنالك كذلك العديد من الظروف الاجتماعية القاهرة التي تم دراستها ولكن العامل الذي تم ملاحظة تكراره في جميع أنحاء المعمورة هو غياب علاقة شخصية صحية وايجابية. إذ تبين بأن هذا العامل طالما يؤدي إلى الاكتئاب وعلى العكس من ذلك ترى بأن الإنسان الذي يعيش ضمن علاقة شخصية صحية وإيجابية تتميز بالحب والتعاون قلما يشتكي من الاكتئاب وكأنه قد تم تحصينه بلقاح ضد الكثير من الأمراض النفسية.
رغم أن الظروف الاجتماعية القاهرة تلعب دورها في القلق والاكتئاب، ترى بعض الأمراض يكثر ظهورها في الطبقات الوسطى من المجتمع وبالذات أمراض التغذية وتحديداً القهم العصبي Anorexia Nervosa فرغم أن هذا المرض ليس حصراً على الطبقات الوسطى، ولكنه يتميز بعلاقات متشنجة بين الفتاة التي تصبح مولعة بفقدان الوزن، والوالدين بسبب ظروف اجتماعية وفردية متعددة. هناك على سبيل المثال ظاهرة غياب الأب وانشغاله بعمله والاشتباك بين الأم وابنتها.
يمكن تلخيص النموذج الاجتماعي بأن الظروف الاجتماعية قد تكون السبب الأول والأخير أحياناً لشكوى الإنسان من انفعالات وعواطف Emotional Complaints مثل القلق، الحزن، والاكتئاب. كذلك قد تلعب دورها في عدم استجابة المريض للعلاج.
النموذج النفسي الدينامي Psychodynamic Model
هناك عدة نظريات تتعلق بهذا النموذج، تتلخص بأن الإنسان يشكو من أعراض Symptoms اضطراب نفسي من جراء عقد عصابية Neurotic Conflicts لم تسنح له الفرصة بتجاوزها. ومتى ما تم تجاوز هذه العقد يتخلص الفرد من الأعراض النفسية التي يشكو منها.
وقد ساهمت المدرسة النفسية الدينامية بتطوير علم النفس والطب النفسي وإلى بداية الثمانينيات من القرن الماضي كانت تتبوأ مركز الصدارة في هذا المجال. رغم الانتقادات التي توجه لها اليوم، فإن هناك الكثير من النظريات والأفكار التي لابد من الإلمام بها لدراسة الحالة المرضية أو استيعاب الأعراض الطبية النفسية.
وتتلخص النظرية القديمة بأن هناك عقدا نفسية تم كبتها في العقل الباطن وتستمر في التأثير على المريض في فترات متكررة من حياته. هذا النموذج لا يزال يستعمله الكثير في العلاج النفسي الدينامي القصير Brief Psychodynamic Psychotherapy أما التحليل النفسي Psychoanalysis فإن دوره في العلاج النفسي بدأ يلفظ أنفاسه الأخيرة.
أما الأهم من ذلك هذه الأيام فيتركز على ضرورة استيعاب نظريات آليات الدفاع النفسي Defence Mechanisms التي خضعت لدراسات علمية عديدة ويمكن قياسها سريرياً. ويلجأ الإنسان إلى هذه الآليات في مواجهة كل ما / أو من يتعرض له يومياً ويمكن للمعالج التخمين وتعريف الآلية من خلال دراسة حديث الفرد أو تصرفاته. وتتميز هذه الآاليات بما يلي:
١- غير شعورية.
٢- قد تكون صحية أو مرضية وبالتالي تؤدي إلى سلوك غير طبيعي.
٣- وظيفتها الأولى والأخيرة هي حماية الذات أو النفس من القلق والفشل.
لتوضيح الأمر علمياً يمكن تقسيم هذه الآليات اعتماداً على درجتها الصحية أو طبيعتها. يمكن تقسيمها اعتماداً على طبيعتها إلى ما يلي:
١- آليات التوجه نحو الآخرين Turning Against Others.
٢- آليات الإسقاط (إلقاء اللوم على الآخرين) Projective Defences .
٣- الأليات التثقيفية أو المبدئية Intellectualization .
٤- آليات التوجه نحو النفس Turning Against Self.
٥- آليات الكبت Repressive Defences .
إن الإنسان عندما يواجه ما يتصوره جرحاً لكرامته أو انتقادا ينتقص من مكانته تراه لا شعورياً قد يهاجم الآخرين، أو يلقي اللوم عليهم، أو يحاول استعمال معلومات ثقافية خاطئة، أو يلقي اللوم على نفسه، وأخيراً قد يكبت الأمر في داخله.
أما النموذج الأفضل فهو تقسيم آليات الدفاع النفسية إلى أربعة مستويات كما يلي:
١- آليات بالغة مثل التسامي Sublimation والمرح Humour والتغاضي Suppression عن أفعال الآخرين.
٢- آليات عصابية يكثر استعمالها في أمراض عصابية مثل القلق والاكتئاب والوسواس القهري. هناك العديد من الآليات مثل الانعزال Isolation وتكوين رد الفعل Reaction Formation في الوسواس القهري.
٣- آليات غير بالغة وأشهرها الانفلاق أو الانشقاق Splitting والتي يكثر استعمالها في الشخصية الحدية.
٤- آليات ذهانية مثل إنكار الواقع وتحوير الواقع Denial and Distortion of Reality.
في حالة وجود عقد عصابية لم يتجاوزها الإنسان أو في حالة تنظيم شخصيته واستعمال آليات دفاع نفسية دون البالغة يبدأ الإنسان بالشكوى من أعراض Symptoms المرض النفسي المتعددة من اكتئاب، قلق، وسواس، شك وغيرها بين الحين والآخر عند مواجهته أزمات وإن كانت غير مصيرية.
هناك أيضاً أزمات نفسية معينة تلعب دورها في بعض الأمراض النفسية منها:
١- تعرض الطفل للاعتداء أو الإساءة الجنسية Sexual Abuse .
٢- فقدان أحد الوالدين قبل عمر المراهقة.
الأزمة الأولى طالما تلعب دورها في تدمير شخصية الإنسان وإصابته باضطرابات الشخصية الحدية بينما الأزمة الثانية كثيرة الملاحظة في بعض حالات الاكتئاب.
يوضح الرسم أعلاه لجوء الإنسان لاستعمال آليات دفاع غير بالغة عند المرض أو الأزمات. على العكس من ذلك يكون اتجاه آليات الدفاع إلى الأعلى في غياب الأزمات والأمراض النفسية.
النموذج "الفكري" المعرفي السلوكي Cognitive Behavioural :
قاعدة هذا النموذج تتلخص بأن مشاكل الصحة النفسية عند الإنسان يمكن تفسيرها بطريقة تفكيره وبالتالي سلوكه. بدأ هذا النموذج يطغى على طرق العلاج النفسي منذ أكثر من ثلاثين عاماً وتحور وتشعب وكثر استعماله في جميع الأمراض النفسية وخاصة في القلق والكآبة. يضاف إلى ذلك ظهور برامج إليكترونية تساعد الإنسان في تغيير نمط تفكيره واستبدال الأفكار السلبية بأخرى إيجابية. كذلك تم دمج أساليب العلاج السلوكية المعرفية مع طرق العلاج الدينامية. باختصار يمكن تفسير سلوك الإنسان من خلال دراسة:
٠ أفكار أوتوماتيكية Automatic Thoughts تغلب على تفكيره عند الأزمات.
٠ المخططات المعرفية "الفكرية" للإنسان Cognitive Schemas.
في هذا النموذج يمكن الجزم بأن الإنسان قد طرأ عليه تغيير Change في السلوك وهذا بدوره يفسر علته. ومتى ما تغلب الإنسان على هذا السلوك والأفكار السلبية نجح في الشفاء من علته.
بعيداً عن الكآبة والقلق ترى سلوك الانسان قد يطرأ عليه تغيير ملحوظ من جراء الإفراط في استعمال الكحول وكافة أنواع المخدرات والعقاقير المهدئة. هذا السلوك بحد ذاته يصبح مأساة الفرد ومأساة من يحيط به. عند ذاك لا فائدة من دراسة وعلاج ما دفع الإنسان إلى مثل هذا السلوك ولكن يجب مساعدته للخروج من هذا الفخ الذي وقع به. بعبارة أخرى السلوك بحد ذاته هو المرض ولا بد من استعمال النموذج السلوكي لتجاوزه.
يمكن تفحص التغيير الذي يحدث عند الإنسان بعد دخوله في حلقة مفرغة من مخطط معرفي سلبي في إطاره ومحتواه وأفكار أوتوماتيكية تزيد من القلق والاكتئاب. لابد من مساعدة المريض لاستيعاب هذا المخطط البسيط وتذكيره دوماً بضرورة الخروج من هذه الحلقة المفرغة.
النموذج الطبي:
قاعدة النموذج الطبي تتلخص بأن سبب الأمراض النفسية وأعراضها اضطرابات عضوية في الدماغ. أما مصدر هذه الاضطرابات فيعود إلى حدوث عدم توازن في فعالية أو تركيز الناقلات العصبية الكيميائية Chemical Neurotransmitters رغم التطور الذي حدث في دراسة الناقلات العصبية الكيميائية. لا يزال علاج الأمراض النفسية يتركز على تحوير عمل ثلاث ناقلات عصبية وهي:
١- الدوبامين Dopamine في الأمراض الذهانية.
٢- النورأدرينالين Noradrenaline في أمراض المزاج والاكتئاب.
٣- السيروتنين Serotonin في أمراض المزاج والاكتئاب.
في حالة دخول الإنسان مرحلة النموذج الطبي فيمكن الجزم بأنه قد وصل إلى مرحلة من التفكك Disintegration النفسي والعضوي والشخصي، وأصبح المرض يمثل خطورة على حياته وسلامة الآخرين. على ضوء ذلك لابد من توقيف هذه العملية باستعمال العقاقير أو اللجوء إلى وسائل طبية مثل علاج الرجة الكهربائية والجراحة العصبية.
يتم تصنيف الأمراض النفسية وتشخيصها اعتماداً على وجود عدد معين من الأعراض وبالرجوع إلى تصنيف دولي للأمراض متفق عليه.
إن النموذج الطبي للأمراض النفسية بمفرده له الكثير من نقاده وأعدائه في جميع أنحاء العالم منذ بداية القرن العشرين وحتى يومنا هذا. إلى الآن ترى المؤتمرات الدولية الأمراض النفسية تسمح لبعض الغلاة من أعداء الطب النفسي للوقوف على منابرها للحديث عن الجوانب السلبية لهذا النموذج. كذلك يجب التأكيد أن بعض النقاد هم على مستوى عالٍ من الفكر ومدعومين بمؤسسات اجتماعية ودينية غنية، وهم بالمرصاد أحياناً لمن ينتقدهم بشدة ويستعمل القبيح من الكلام.
النموذج المتكامل:
يتميز الطب النفسي عن غيره من الفروع الطبية والعلمية بتعرضه لضغوط سياسية وفكرية كان لها التأثير الإيجابي وليس السلبي على تطور خدمات الصحة النفسية، كان اكتشاف العقاقير المضادة للذهان بداية لقفل جدران العديد من المصحات النفسية التي كان المرضى يقضون فيها سنوات حياتهم بعيداً عن المجتمع. وقد تأثر الطب النفسي بالحركة الطلابية الإيطالية في الستينيات وكانت بداية لنقل الخدمات الطبية النفسية إلى وسط المجتمع. قد يجهل الكثير كذلك بأن الرئيس الأمريكي الراحل جون كنيدي لعب دوره في تطوير الخدمات الصحية الاجتماعية وبالذات في مجال مرضى الصعوبات التعليمية Learning Disabilities .
ما يهمنا في هذا المجال هو التركيز على استعمال نموذج متكامل عند دراسة أي حالة مرضية نفسية. بدون التفحص في جميع النماذج أعلاه لا يمكن صياغة وتشخيص الحالة بصورة مرضية والأهم من ذلك معالجة الحالة.
يمكن تطبيق النموذج أدناه في جميع الحالات المرضية لتفسير أسباب المرض، وتشخيص الحالة، وتوفير العلاج. لتبسيط النموذج المتكامل يمكن أن نتصور أن الأمراض الطبية النفسية ما هي إلا انهيار الروح المعنوية Demoralisation للفرد. وتمر هذه العملية بالمراحل التالية:
انقر لتشاهد صورة أكبر
يمكن تفحص هذا النموذج في الاكتئاب على سبيل المثال وليس الحصر
الظروف الاجتماعية مثل البطالة والفقر تؤدي إلى اضطرابات عاطفية. مع وجود أزمات نفسية تتحول الاضطرابات العاطفية إلى أعراض نفسية. بعد مدة من الزمن يتغير سلوك الإنسان حتى يدخل مرحلة التفكك الشخصي وحتى العضوي من اضطرابات في النوم والتفكير حتى في الانتحار. لعلاج المريض لا يكفي أن يتم بتجهيزه بعقاقير فقط بل يجب مساعدته من الخروج من الدائرة المفرغة للأفكار السلبية ثم توعيته عن وسائل دفاعه الدينامية ومن ثم الانتباه إلى ظروفه الاجتماعية. هنا تكمن مسؤولية المجتمع أو الأصح الدولة بحماية مواطنيها من الفقر والبؤس والبطالة حيث لا مجال إلى صحة نفسية متكاملة دون الانتباه إلى الظروف الاقتصادية والسكنية والاجتماعية للمجتمع.
وأتطرق إن شاء الله إلى دراسة وتطبيق النموذج المتكامل عند مراجعة كافة الأمراض النفسية.
واقرأ أيضًا على مجانين:
أسباب الأمراض النفسية / من أسباب الاكتئاب مشاركة / اختلال الإنية و/أو تبدل الواقع: الأسباب / صراع في الدماغ: الحيل الدفاعية / الحيل الدفاعية (6/6)