مقدمة
ليس هناك من مرض عصبي يتعرض للتشويه والخرافات مثل مرض الصرع. لا يقتصر هذا التشويه على المجتمع العربي فحسب وإنما له تاريخه عبر جميع الحضارات والأديان، السماوية وغير السماوية, سواء في شرق المعمورة أو غربها.
تطور العلم في مجال بحوث الصرع وفي المستقبل القريب وليس البعيد سيتغير تعريفه إلى أنه مجرد عرض لا غير لأمراض عصبية وغير عصبية. السبب في ذلك يعود إلى أن أسباب مرض الصرع التي مصدرها الدماغ بدأت تنكشف الواحدة بعد الأخرى. قبل عقدين من الزمن كان الأطباء يتحدثون على أن الغالبية العظمى من أسباب الصرع مجهولة أما اليوم فالعكس هو الحديث والصحيح كذلك.
هناك أسطورة أو بالأحرى خرافة إن صح التعبير تقول بأن الصرع مصدره الجن أو الشيطان. يتصور البعض أن هذه الخرافة مقتصرة على المسلمين وأهل الأديان المحلية الإفريقية. هذا غير صحيح، فهذه الخرافة كانت شائعة في أهل جميع الأديان السماوية ولكنها بدأت تتلاشى وتختفي في العالم المتحضر. لا أزال أذكر إلى اليوم مريضاً مصاباً بصرع الفص الصدغي Temporal Lobe Epilepsy الصعب العلاج، وبعد تغيير علاجه استناداً إلى أسس علمية تمت السيطرة على نوباته الصرعية. صادف في نفس الوقت أن والدته استشارت ما يسمى عالم روحاني وهو بصراحة عالم دجال وبعد جلسة واحدة أصرت الوالدة الفاضلة بأن الفضل الأول والأخير لاستجابته للعلاج كان إخراج الأرواح الشريرة أو الجن من جسده. رغم ذلك لم تتجرأ على وقف العلاج وهذا هو الأهم. بعد تلك التجربة في بداية التسعينيات لم أمر بحالة مثل هذه ولا حدثني أحد من المرضى المصابين بالصرع في مثل هذا الأمر رغم لقاءاتي المتكررة مع الجمعيات الخيرية المساندة لمرضى الصرع.
لا أذكر منظراً بشعاً مثل مشهد لصبي مصاب بالصرع يتم ضربه بالعصى من قبل دجال لإخراج الجن من جسده. تم عرض هذا المشهد البشع على قناة فضائية عربية قبل عدة أعوام وكان محور الحديث لمدة نصف ساعة مع الدجال وأعوانه حول هذا العلاج الوحشي وبدون أي انتقاد. فقدت ثقتي بالإعلام وبتلك القناة بالذات.
قبل عدة أيام استفسرت إحدى الأخوات عبر صفحة الفيس بوك لموقع مجانين حول خرافة الشيطان ومرضى الصرع، واستفسرت عن صحة المقولة بأن60% من مرضى الصرع لديهم قرين من الجن في داخلهم وهو سبب المرض. إن مثل هذا الكلام الذي يشيع له تجار الدجل والخرافات لابد من التصدي له وبكل شدة من قبل جميع الأطراف المعنية بعلاج الصرع من أطباء أمراض عصيبة، أمراض نفسية، ورجال الدولة والسياسة وبالأخص رجال الدين الإسلامي.
الموقع الطبي لمرض الصرع
مرض الصرع كان ولا يزال من الأمراض التي يعنى بها ويشرف على علاجها أخصائي الأمراض العصبية Neurologist . ويتميز مرض الصرع عن بقية الأمراض العصبية بكثرة المضاعفات الطب النفسية وبعد الثمانينيات من الألفية الماضية بدأ بعضٌ من أخصائيّ الطب النفسي بالتخصص في تشخيص وعلاج أمراض الصرع. يطلق اليوم تعبير أخصائي مرض الصرع Epileptologist على أي طبيب له الخبرة في العناية بمرضى الصرع بعد قضائه فترة تدريب في معهد مختص بعلاج وبحوث أمراض الصرع. كذلك هناك من الجراحين الذي أصبح مختصاً بجراحة أمراض الصرع من جراحي الجهاز العصبي Neurosurgeon .
في السنوات العشر الماضية بدأ التمريض يعني أيضاً بمرض الصرع وبدأت الخدمات الصحية توفر ممرضات اختصاصها في مرض الصرع وتُلقب بممرضة صرع Epilepsy Nurse . تعني الممرضة بمراجعة استجابة المريض للعلاج، الأعراض الجانبية للعلاج، والمشاكل النفسية والاجتماعية للمرض وعلاجه. البعض من الممرضات يتم تدريبهن وتعطى الصلاحية بتغيير جرعة العلاج بعد استشارة الطبيب المعالج.
هناك مؤسسات اجتماعية خيرية تعني بمشاكل مرضى الصرع في جميع بلدان العالم. تتولى هذه المؤسسات والجمعيات إصدار المنشورات التعليمية وتوعية الناس في المجتمع حول المرض. ومن أهم ما تقوم به هذه الجمعيات توعية طلاب المدارس الابتدائية حول المرض وضمان عدم تهميش الطلاب المصابين بالصرع والقضاء على وصمة عار المرض اجتماعيا.
تم غلق المصحات الخاصة بمرضى الصرع والتي كانت تسمى بمستعمرات الصرع Epilepsy Colonies وأصبح علاج المرضى يتم في المجتمع. وتوفر جميع المستشفيات التعليمية عيادة خاصة للإشراف على تشخيص وعلاج المرضى المصابين بالصرع وتعنى ليس بالجوانب الطبية فقط بل الاجتماعية والنفسية كذلك.
الموقع الطب نفسي للصرع
يمكن القول وبدون حرج بأن جميع الأمراض النفسية أكثر شيوعاً في المرضى المصابين بأمراض الصرع مقارنة ببقية الأمراض العضوية والعصبية. كذلك فإن الإلمام بمرض الصرع يساعد الطبيب النفسي في دراسة جميع العوامل العضوية والنفسية والاجتماعية التي تتفاعل بعضها البعض في المرض النفسي.
يضاف إلى ذلك أن العقاقير المستعملة في علاج أمراض الصرع شائعة الاستعمال اليوم في علاج الأمراض النفسية وبالأخص في اضطرابات المزاج الثناقطبي. كان الكاربامازابين Carbamazepine أو ما يعرف أحياناً بالتكريتول Tegretol أول عقار يدخل منافساً للثيوم Lithium في علاج اضطرابات الثناقطبي رغم أن الأدلة العلمية غير مكتملة ووافية للغاية. بعدها دخل الفالبرويت Valproate أو ما يعرف أحياناً بالديباكوت Depakote في علاج نوبة الهوس الحاد Acute Mania وأصبح العلاج المفضل. أما دور اللامتروجين Lamotrigine في علاج الاكتئاب الثنقطبي فهوا شائع بعض الشيء. كذلك هناك البريكابالين Pregabalin في علاج القلق وخاصة في الحالة الشديدة. كل هذه الأمور تحتاج إلى مراجعة للأدلة العلمية بتفصيل أكثر.
الخلاصة:
لقد حان الوقت للقضاء على خرافة علاقة الجن بالصرع اجتماعيا وعلمياً ودينياً. هناك ما لا يقل عن شخص واحد في كل 130 شخصا مصابٌ بمرض الصرع في أي بلد من بلاد العالم وبعبارة أخرى هناك ما لا يقل عن نصف مليون مواطناً مصرياً مصاب به مما يستوجب تظافر الجهود من مختلف الاختصاصات الطبية والنفسية والاجتماعية لعلاج هذا المرض والنهوض بمستوى الخدمات المقدمة للمواطنين.
هناك ارتباط قوي بين الصرع والأمراض النفسية مما يستوجب ربما توفير حقل خاص للصرع على موقع مجانين.
واقرأ أيضاً:
إنه داء الصرع؟! ربما / قصور معرفي وربما صرع الفص الصدغي / وساوس أم صرع أم صعوبة تعلم؟ / صرع الفص الصدغي / تأتأة وبؤرة صرعية وعقاقير كثيرة