مقدمة
إن الغاية الأولى والأخيرة من هذا المقال هي التطرق إلى الارتباك الدائم الذي يواجه الطب النفسي في تشخيص الأمراض النفسية المزمنة ومسارها الطولاني وبالتحديد ما نسميه باضطراب الوسواس القهري. كان هذا الاضطراب قلما يشغل الخدمات الصحية النفسية سابقاً، ولكن تشخيصه في العشرين سنة الماضية انتشر بصورة وبائية....... الدراسة التعليمية لمشكلة مرضية Problem Based Learning في المقال تتعلق بحالة مزمنة تمتد إلى فترة عشرين عاماً لمريض مصاب بالوسواس القهري Obsessive Compulsive Disorder هذه الحالة توضح مسيرة هذا الاضطراب وعلاجه والنظريات المتعددة المستعملة في تفسيره...... هناك إشارة في المقال أيضاً إلى سلوك وأفكار دينية تتصف بالغلو تتعلق بهذه الحالة وتوضح الصعوبة التي تواجه الطب النفسي أحيانا في اختيار الإطار المناسب لوضع محتويات الأفكار التي يصرح بها مستخدمو الصحة النفسية. من جراء ذلك فإن الإشارة إلى الدين في المقال عفوية ويود كاتب السطور توجيه اعتذاره لعدم قدرته حذف الإشارة الدينية ولكنه يعلن تقديره لجميع الأديان السماوية وغير السماوية.
حالة مرضية:
شاب في بداية العشرين من العمر ولد وترعرع في وسط إنكلتراً. لم تظهر عليه أعراض مرضية حتى بداية عمر المراهقة وأصبح مولعاً بتنظيم غرفته في البيت وممارسة طقوس متعددة لتنظيف يديه وجسده. تم تشخيص حالة الوسواس القهري ولكنه رغم ذلك لم يستجب للعلاج بصورة كاملة.
تأثر تحصيله العلمي بسبب البطء الشديد في دراسته وسلوكه، وانتهى في عزلة من أصحابه يعيش في رهاب دائم بأن أفكاره الوسواسية ستؤدي إلى كارثة إنسانية.
كان يتنقل شهرياً من وسط إنكلترا للعلاج النفسي ولمدة ثلاثة أعوام يصاحبه أحياناً زميل له في الدراسة . لم يتأخر عن موعده أبداً رغم أن الرحلة من البيت إلى مركز العلاج تستغرق 3 ساعات.
تحدث في كل جلسة من جلساته عن قرب ظهور عدو المسيح وعلامته هي تكرار رقم 666 في كل مكان وخاصة في أي باركود Barcode تم لصقه على سلعة للبيع. هذه العلامة لعدو المسيح يمكن استنتاجها بطريقة كتابة كلمة الله بالعربية وبسم الله المشتق رسمها من أحرف لاتينية. تعلم المريض هذه الحقائق الدامغة عن طريق دراسة أسبوعية للتوراة لكشف الأسرار. وتعلم منها أن محمدا (ص) هو رسول رب الشر واسمه الله (عز وجل). رغم كل ذلك كان الفتى على درجة عالية من الخلق والتربية.
كان مصاباً بالوسواس القهري غير أن الأفكار التي يتحدث عنها رجحت تشخيص الشيزوفرانيا في رأي الأغلبية. كانت حالته على درجة من التعقيد ولكن كان هناك إجماعاً بأن حديثه مجرد فكرة وهامية حين تم عرض حالته في الجولة التعليمية الكبيرة Grand Round التي تشمل جميع الاختصاصات الطبية. تحسنت حالته بعلاج لا يزال يتناوله يشمل مضادا للاكتئاب ومضادا للذهان. ولكن الأعراض الوسواسية للمريض لعبت ولا تزال تلعب دورها بعد مرور أكثر من 20 عاماً وانتهى أمره في بيت لوحده مع رعاية اجتماعية بعد وفاة الأم وشيخوخة الأب. لا يزال يتعاطى نفس العقاقير. لكنه وضع جانباً خرافة 666 ولم تعد تشغل تفكيره.
عودة إلى الوسواس القهري:
تكمن إشكالية اضطراب الوسواس القهري في تنوع النظريات المختلفة التي ظهرت عبر أكثر من قرن من الزمان لتفسيره، ومن جراء ذلك يواجه الكثير صعوبة في استيعاب مفهوم هذا المرض وتمييزه عن الاضطرابات النفسية الأخرى.
هناك عدة مصطلحات لهذا الاضطراب عبر التاريخ وهي:
1- الهوس الأحادي المنطقي Reasoning Monomania استعمله سكيورال Esquirol في عام 1838.
2- جنون الريب Madness of Doubt استعمله فالريت Farlet في عام 1866.
3- الهذيان العاطفي Emotional Delirium استعمله موريل Morel في عام 1886 .
4- واستقر الأمر بعدها على مصطلح العصاب الوسواسي Obsessional Neurosis الذي أطلقه فرويد على الاضطراب ولا يزال هذا المصطلح شائع الاستعمال حتى يومنا هذا ولكن بصفة غير رسمية. إن مصطلح اضطراب الوسواس القهري Obsessive Compulsive Disorder الرسمي مشتق من مصطلح العصاب الوسواسي، ولكن هل هو حقاً وسواس قهري كما نشير إليه في اللغة العربية؟.
يتميز اضطراب الوسواس القهري بتكرار الأفكار الوسواسية والسلوكيات القهرية. كلمة وسواس في الإنكليزية مشتقة أصلاً، حالها حال جميع المصطلحات، من اللغة اللاتينية الأم ومن كلمة Obsidere هذه الكلمة الأخيرة تعني لتحاصر To Besiege بعبارة أخرى ما نسميه الوسواس هو حصار والحصار هو حصار أفكار أو صور أو دوافع في دماغ الإسان تتميز بثلاثة صفات:
۰ مستمرة ومتكررة.
۰ اقتحامية.
۰ غير متناسبة مع قيم الفرد.
من جراء ذلك يبدأ الإنسان بالشعور بالقلق ويحاول صراع الأفكار وتتولد حلقة مفرغة من قلق ومقاومة وينتهي الأمر باللجوء إلى سلوكيات للتخلص من الأفكار، أما الأفكار التي يكثر ملاحظتها في هذا الاضطراب فهي:
۰ التلوث بالجراثيم عند مصافحة الغير أو لمس بعض الأشياء.
۰ الشكوك المتعلقة بفعالية ضمانيه مثل غلق الأبواب وإطفاء الغاز.
۰ دوافع عدوانية مثل القلق من الاعتداء على الغير أو الخوف من أن يكون الفرد قد صدم أحدا بدون قصد أثناء السياقة.
۰ تصورات جنسية.
أما النصف الثاني من اضطراب الوسواس القهري فهو السلوك الإجباري والمختصر بالقهري. الكلمة مشتقة من اللاتينية Compellere وبالإنكليزية To Compel الكلمة الأخيرة هي أقرب على إجبار الفرد لعمل شيء ما. بما أن السلوك الذي يتبع الأفكار يؤدي إلى التخلص من القلق فهو ليس قهرياً وإلا ما كان المريض سيلجأ إليه. على ضوء ذلك يمكن القول بأن ما نسميه بالوسواس القهري هو حصار معرفي (يشمل الصور والحوافز والأفكار) وسلوك إجباري. بعبارة أخرى يمكن أن نسمي هذا الاضطراب باضطراب الحصار الفكري والسلوك الإجباري. إن المصطلح الأخير يتوازى مع أعراض الاضطراب ويبعد المريض عن التفكير بأن حالته جزء من الوسواس الرهيب الذي لا يقوى على مواجهته.
من هذه النقطة بالضبط سأستعمل مصطلح اضطراب الحصار المعرفي والسلوك الإجباري. بما أن السلوك الإجباري لا يمكن حدوثه منطقياً بدون الحصار المعرفي، وحتى إن أنكر الفرد ذلك، فإن مصطلح اضطراب الحصار المعرفي لوحده سيتم استعماله في بقية المقال.
فئات اضطراب الحصار المعرفي:
في الممارسة السريرية يمكن تصنيف المرضى إلى خمسة فئات ولكنهم يتنقلون من فئة إلى أخرى بين الحين والآخر:
1- فئة الغسل Washers : طقوس النظافة مصدرها حصار معرفي خوفاً من التلوث وعدم الطهارة. هناك الخوف من انتقال أمراض فيروسية مثل الإيدز، وكذلك تكرار الوضوء عند البعض.
2- فئة التحقيق والمراجعة Checkers : الحصار المعرفي فيهم يتعلق بالخوف من عمل خطأ ما في حياتهم اليومية وأثناء اتصالاتهم الاجتماعية. من جراء ذلك يستحدثون الطقوس اللازمة للتحقيق والمراجعة غير أنها تفقد فعاليتها مع الوقت ويتم استحداث طقوس إضافية.
3- فئة الاجترار Ruminators : يحصل الحصار المعرفي عن طريق الشكوك وعدم القابلية على اتخاذ القرار، وعلى ضوء ذلك تكون طقوسهم قليلة أو لا وجود لها. يمكن القول بأن هذه المجموعة تؤكد بأن الجانب السلوكي الإجباري ليس جزء لا يتجزأ من اضطراب الحصار المعرفي، وعدم الإشارة إليه في المصطلح ربما أكثر دقة.
4- فئة الخزن Hoarders : هذه الفئة قلما تتخلص من حاجيات لديها خوفاً من أن تفقد شيئاً في غاية الأهمية. تتشارك هذه الفئة مع المرضى المصابين بجرح الفص الجبهي حيث يكثر ملاحظة هذا السلوك في بعض الحالات. من غير الصواب استعمال مصطلح الحصار المعرفي في مرضى اضطراب الفص الجبهي. هذه الملاحظة السريرية المعروفة تؤكد أيضاً بأن السلوك الإجباري أو القهري لا يعني بالضرورة وجود حصار معرفي، ولا يمكن الاعتماد عليه في تشخيص الاضطراب.
5- فئة البطء أو متلازمة حصار البطء Obsessional Slowness Syndrome : هذه الفئة تتميز في سعيها إلى تنظيم وتنسيق البيئة إلى درجة الكمال ولكنهم لا يصلون إلى أهدافهم مهما كانت الجهود ومن جراء ذلك يضيع وقتهم ووقت من ينتظرهم.
إن وجود أو انتقال المريض إلى فئة البطء لا يبشر بخير وينذر بعدم الاستجابة للعلاج، وخاصة عند الذكور في عمر المراهقة.
الشيزوفرانيا والحصار المعرفي
۰ بالإضافة إلى الارتباك في تقييم إطار الأفكار أحياناً فإن المسار الطولاني لاضطراب الحصار المعرفي يثير الجدل وهو ليس أقل تدميراً للمريض من أمراض ذهانية في بعض الحالات. يصبح الإنسان مصاباً بشلل أو تصلب فكري وسلوكي من جراء البطء وفقدان الوقت. يضيع المصاب بهذا الاضطراب أكثر من ساعة يومياً من جراء الحصار المعرفي وهناك من يضيع 8 – 10 ساعات يومياً. من جراء ذلك ترى البعض منهم لا يقوى على ترك بيته والعيش مستقلاً لوحده. لا يصعب التحري عن أعراض سلبية في الأفراد ومن جراء التدهور في الآداء المهني والاجتماعي قد ينتهي الأمر بتشخيص اضطراب الشيزوفرانيا المزمن.
۰ رغم أن أعراض الحصار المعرفي موجودة في 12% من المرضى المصابين بالشيزوفرانيا، ولكن هذا لا يعني أن وجود الحصار المعرفي يلمح باحتمال الإصابة بالشيزوفرانيا. على العكس من ذلك فإن الحصار المعرفي كان يعتبره البعض تلقيحاً ضد الشيزوفرانيا.
يتم تصنيف المرضى إلى مجموعتين:
1- مجموعة تتميز باستبصار جيد للحالة المرضية.
2- مجموعة تتميز بغياب الاستبصار في معتقداتهم وسلوكهم.
هذا التصنيف (المجموعة الثانية) يحدث ارتباكاً في التشخيص أحياناً ويتم لصق تشخيص اضطراب ذهاني في بعض المرضى استناداً إلى الغرابة في محتوى الأفكار كما حدث في الحالة أعلاه. كان ولع المريض بأفكار متطرفة وشاذة سبباً في رجحان تشخيص الاضطراب الوهامي والشيزوفرانيا فيه. لكن بعد أكثر من عشرين عاماً لم يكن هذا الولع بالرقم 666 له وجود في تفكير المريض. لتوضيح هذه الفكرة لا بأس من التطرق إلى هذا الولع بخرافة 666 في الكثير من الغلاة في الغرب وعلى رأسهم السيد وليد شعيبات الذي لا يزال يتحدث عن هذه الخرافة حتى يومنا هذا ولديه مئات الآلاف من المشاهدين والمناصرين. وليد شعيبات فلسطيني الأصل غادر الأرض المحتلة ويعيش في أمريكا. بمكان القارئ الاطلاع على أفكاره على الإنترنت.
۰ هناك نقطة تثير الجدل حول تطور الفكرة في ذهن الإنسان. الفكرة يمكن حصرها في إطارات أربعة:
1- فكرة طبيعية Normal Idea .
2- فكرة حصارية Obsessive Idea .
3- فكرة مبالغة Overvalued Idea أو مبالغ في تقييمها.
4- فكرة وهامية Delusional Idea .
الفكرة الطبيعية هي فكرة متعادلة وحيادية في تأثيرها على الأنسان. متى ما بدأت هذه الفكرة اكتساب صفات الفكرة الحصارية أعلاه يتم وضعها في هذا الإطار. كان الطب النفسي يعتمد على مقاومة الإنسان للفكرة لتعريف الحصار المعرفي ولكن هذه المقاومة قد تنتهي بعد عدة سنوات ومع غياب الاستبصار قد يتم وضع الفكرة في إطار المبالغة والوهام. بعبارة أخرى:
1- الفكرة الطبيعية قد تتحول إلى حصار معرفي.
2- الجدل هو إن كانت الفكرة حصارية في إطارها هل يمكن أن تتحول إلى وهامية.
لتوضيح هذا يمكن التطرق إلى حالة مرضية:
سيدة في بداية العقد الثالث من العمر تم استئصال الأمعاء الغليظة برمتها بسبب التهابا الأمعاء المزمن. بعد عام من العملية الجراحية أصيبت بحصار معرفي وتخشى الجلوس على مقعد خشية أن تتلوث بحيامن رجل كان جالساً عليه قبلها. كانت الفكرة تتميز بكل صفات أفكار الحصار المعرفي. بعد ثلاثة أعوام اختفت مقاومتها وأصبحت واثقة من احتمال حدوث هذا الأمر، وتعمل فحص الحمل يومياً.
هذه الحالة توضح الارتباك الذي يحصل أحياناً في وضع الأفكار في إطار معين وتحولها من إطار إلى آخر. الفكرة الطبيعية قد تتحول إلى حصارية والمبالغة إلى وهامية ولكن تحول الحصارية إلى مبالغة أو وهامية قد يكون موضع نقاش. من الجائز أن الإنسان يحاول مقاومة عملية ذهانية ومن جراء ذلك قد يولد الحصار المعرفي أحياناً ولكن لفترة زمنية محددة.
هناك محاولة لدرج نوع من الشيزوفرانيا تحت اسم الشيزوحصاري Schizo-obsessive Disorder ولكن الدراسات الميدانية لدرج هذا المصطلح غير مقنعة.
ويتبع........: الحصار المعرفي من الوسواس إلى الفص الجبهي2
واقرأ أيضًا:
هل اضطراب الوسواس القهري اضطرابٌ نادر؟ / الاستبصار واضطرابُ الوسواس القهريّ / علاج الوسواس OCDSD فقهي معرفي ديني Religious CBT