تتميز السياسات الخارجية لجمهورية الصين الشعبية بالهدوء والتروي، وخوض معارك السياسة في ميدان العمل الدبلوماسي وحده بنفس طويل وصبور، وعدم الانزلاق أو التعجل في علاج الملفات الشائكة الموضوعة على أجندة المجتمع الدولي بجوانبها المختلفة بما فيها الجانب الاقتصادي. فمواقف الصين السياسية وفلسفتها الدبلوماسية لا تحتاج لتدقيق أو تمحيص حتى نكتشف فحواها القائم على البراغماتيا العالية التي تجمع بين المصالح وبين منطق الدبلوماسية لحل أزمات العالم بدلاً من منطق الحروب والتطاحن والتدمير.
وقد لخص دبلوماسي صيني مرموق فلسفة الدبلوماسية الصينية بكلمات معبرة في رده على البعض ممن يعتقدون بأن الموقف الصيني «لا يثبت ويهتز ويتبدل ويتغير»، ساخراً من سوء فهم هؤلاء لمواقف الصين لجهلهم بالسياسة والقيم والأخلاق على حد تعبيره، وقد قال لمحاوره الفرنسي في باريس قبل عام مضى «إن الفرق بين موقفي بلدينا، هو فرق ثقافي. فأنتم تعتمدون على الجراحة القطعية بكل أمر، بينما بلدي الصين تعتمد طريقة علاج الوخز بالإبر».
سمات الدبلوماسية الصينية
انطلاقاً من ذلك، وعند وضع السياسات الصينية ومواقف بكين من الأزمات العالمية تحت مبضع التشريح، يمكن القول إن السياسات الخارجية لجمهورية الصين الشعبية تتميز بثوابت عامة، تحكمها المصالح الوطنية الاستراتيجية الصينية أولاً. كما تَحكمها سِمة الانشداد لإرث العلاقات بين الصين وأصدقائها في مختلف أصقاع العالم ومنها بلدان العالم العربي ثانياً. كما تَحكمها رؤية استراتيجية تقوم على المصالح المشتركة مع بلدان العالم ثالثاً. كذلك تحكمها بديهيات دبلوماسية فحواها أن الصين لا تسمح بأن يمارس عليها ضغوط سياسية أو غير سياسية من أي مصدر كان رابعاً.
وتلك السِمات أو الثوابت مكّنت بكين من تجنب الانزلاق في متاهات الدبلوماسية الدولية التي تسارعت مفاعيلها في سياق أزمات كبرى هزت العالم خلال العقدين الماضيين وما زال بعضها مشتعلاً من ملف العراق إلى ملف إيران النووي وما بينهما وما بعدهما، ومَكنتها في الوقت نفسه من التمييز بين الغث والثمين والإصرار على الحلول السياسية.
فالصين من الدول الأعضاء الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي، وتتبنى سياسة براغماتية مع عموم بلدان العالم وبالأخص منها جميع الدول العربية. وقد دعت الأمم المتحدة مراراً إلى إصلاح نظامها الداخلي وأوليات عمل مؤسساتها، لكي تكون قادرة على وقف سياسات العنف المشتعلة في أكثر من مكان في العالم، والعمل على حل المشكلات القائمة بالطرق السلمية التي ترفع مكانتها كمنظمة دولية معنية بالسلم والأمن العالمي.
وفي الجانب الآخر من الرؤية الدبلوماسية للسياسة الخارجية الصينية، فإن بكين ومع حرصها (المعلن والحقيقي) على تعزيز وتوثيق علاقاتها الاستراتيجية بالولايات المتحدة الأميركية، تُدرك ودون أدنى شك بأن صراعها الحقيقي المخفي تحت الطاولة هو مع الولايات المتحدة بشكل رئيسي، التي لا تريد سماع صوتٍ عالمي موازٍ أو نداً سياسياً أو اقتصادياً لها على حد سواء على امتداد المعمورة بأسرها. فالصين التي تقود اقتصاداً مزدهراً، وتشكّل في الوقت نفسه نداً قوياً للولايات المتحدة بالمعنى الكلي للقوة والقدرة، حيث تجري ثورة هادئة في المناطق النائية من الصين بعد أن باتت مناطق شرق الصين الواقعة على بحر الصين مناطق متطورة جداً بالمقارنة مع مناطق الداخل والغرب الصيني.
وهنا لابد من الاشارة بأن النمو المتسارع في عموم الصين مدعوماً بإصلاحات اقتصادية دفع بالصين لتصبح عملاقاً اقتصادياً يمتلك ثاني أكبر اقتصاد في العالم في الوقت الحاضر، واضعة في سياساتها وخططها وبرامجها ومنطقها مسألة الاستمرار في النمو العام ونمو الدخل القومي، إضافة لمنطق الإتقان والمهارة والتفوق، بحرفية بناء سور الصين العظيم.
فالتجربة الصينية في بناء الاقتصاد والمجتمع والتطور الصناعي باتت فريدة ومثلاً يحتذى من قبل باقي دول العالم. والصين لم تنجز ثورتها الاقتصادية وتجربتها الفريدة بمعونة من أحد كما هو حال مشروع مارشال في أوروبا بعد الحرب العاملية الثانية، بل أنجزتها بجهود أبناء الصين، رغم ما كابدته من ضغوط وحصار في عقود ماضية قبل دخولها لعضوية الأمم المتحدة عام 1975.
وعليه، فإن الجمر المتقد تحت الرماد بين بكين وواشنطن، يغلي على ضوء المنافسة الاقتصادية الصينية لدور الولايات المتحدة الاقتصادي على مستوى العالم، وتحديداً مع امتلاك بكين لمخزن هائل جداً من العملات الصعبة القادرة على إنقاذ نصف العالم ومنطقة اليورو (دول الاتحاد الأوروبي) من أزماتها الاقتصادية المتراكمة ومنها أزمات الرساميل المالية. فالصين وفرت فائضاً في الميزانية العامة للبلاد لا يتوافر في أي بلد آخر من بلدان العالم وهو ما يعطيها دفقاً متزايداً من القوة والحضور والتأثير.
فالصين تتحرك على طريق التقدم الاقتصادي كمن يتسلق جبال عالية وشاهقة بثقة وثبات، بينما تتراجع الولايات المتحدة الأميركية من قمة المجد الذي وصلت إليه بفعل سلوك إدارتها في الميدان الدولي وتجاه مختلف الأزمات العالمية، وفي القلب منها القضية الفلسطينية التي تُشكّل لُب الصراعات في الشرق الأوسط.
عدا عن ذلك، فإن الصين تواجه عملياً تحدياً آخر له علاقة بالدور الأميركي في منطقة الشرق الأقصى وبحر الصين، فالقواعد العسكرية الأميركية المنتشرة في اليابان والفليبين وكوريا الجنوبية والعديد من الجزر والدول في المحيط الهندي وبحر الصين وجزيرة فورموزا (تايوان)، وكذلك الأسطول السابع المستوطن في المحيطين الهندي والهادي لأكثر من نصف قرن من الزمن، لا يثير سوى قلق بكين التي تجد نفسها مُعرضةً لمخاطر العسكرة المتزايدة للمنطقة إياها، وإدامة الانقسام فيها، وتشجيع حالة الانشطار التي أدت لفصل تايوان عن الوطن الأم في مواجهة مساعيها الرامية لإعادة توحيد الوطن الصيني كاملاً.
الهجوم الثقافي
وهنا علينا أن لا نُهمل باقي الجوانب في ميدان العلاقات الصينية الأميركية، فأحد أوجه الصراع بين بكين وواشنطن، يتبدى في الهجوم العنيف من الثقافة الغربية بميادينها الفكرية والثقافية على الصين على حد تعبير الرئيس الصيني (هوجين تاو) الذي أضاف بأن القوى الدولية المعادية (ويقصد الولايات المتحدة بشكل رئيسي) تكثف المؤامرة الاستراتيجية لتغريب الصين وتقسيمها وتفكيكها على المدى الطويل.
وقد ردت بكين وترد الآن على محاولات الاختراق الثقافي والتغريب بواسطة تطوير واستثمار وتشغيل أجيال جديدة من وسائل الإعلام المتطورة التي تبث بعدد من اللغات العالمية، وعبر زيادة التبادل الثقافي والمنح الطلابية مع بلدان مختلفة في المعمورة منها بعض البلدان العربية وإيران على سبيل المثال، حيث باتت أعداد الطلاب الأجانب في الجامعات الصينية تقارب نحو نصف مليون طالب يدرسون في مختلف الاختصاصات العلمية والأدبية، وآداب اللغة الصينية.
وعلى سبيل المثال، أعلنت بكين قبل عدة أعوام عن عزمها إنفاق مليارات الدولارات لتطوير وسائل إعلام عالمية عملاقة لتنافس كبرى المنابر العالمية، فيما استثمرت نحو ثمانية مليارات ونصف المليار دولار أميركي في أعمال الدعاية الخارجية بما في ذلك تنشيط عمل وكالة (شينخوا) الرسمية للأخبار وصحيفة (الشعب) اليومية ومطبوعاتها الواسعة في مختلف أقاليم ومدن الصين ومواقعها الإلكترونية باللغات المختلفة ومنها اللغة العربية، التي تحظى بموقع خاص بها يعرض صفحات جريدة الشعب اليومية التي تصدر في بكين، ويمكن تصفحه في العالم العربي وفي جميع أنحاء العالم.
وفي المقابل، فإن بعض الارتباكات ما زالت تسجل على أداء الصين بالجانب المتعلق بالمسألة الثقافية والدعاية والإعلام، وهو ما يفترض قيام السلطات المعنية بإيجاد الحلول الناجعة لتلك المشاكل عبر توسيع دائرة حرية العمل الثقافي المدروس، وتفادي استغلال الخارج لأي حدث صيني داخلي يتعلق بهذا الأمر كما حدث أكثر من مرة.
وبالنتيجة، فإن الصين التي حققت قفزات هائلة في نموها الاقتصادي ورفع مداخيلها ودخلها القومي، وفي تثبيت حضورها السياسي، باتت اليوم أكثر من أي وقت مضى هدفاً لموجات العداء من قبل الولايات المتحدة، فيما تقابل بكين السلوك الأميركي إياه بمزيد من الحكمة والاقتدار عبر زيادة دورها الاقتصادي وتطورها المُنتج، وعبر توسيع دائرة تحالفاتها الدولية خصوصاً مع جمهورية روسيا الاتحادية، ومع مجموعة دول البريكس (الهند وروسيا وجنوب إفريقيا والبرازيل) وهي منظومة دولية تُمثل الدول الأكثر قدرة والأكثر فعالية والأكبر حجماً ووزناً وقوة من باقي المنظمات والتكتلات الدولية.
أخيراً، إن الصين التي تحظى بمقومات الدولة العظمى، تَملكُ إرثاً وحضارةً وتاريخاً موغلا في القدم وفي تاريخ الحضارة البشرية. تدق الأبواب الآن بقوة وهي تعود حاملة شمعة التاريخ التي تنير طريقها لتصبح ولو بعد حين واحدة من الدول الكبرى التي تستطيع مُنازلة الولايات المتحدة وفرملة سياسات العولمة الابتلاعية لصالح سياسات تشاركية دولية بناءة بعيدة عن منطق الاستحواذ والابتلاع.
واقرأ أيضاً:
إسرائيل وحرب السايبر
مخيم اليرموك ودلالاته الرمزية
ناجي علوش المثقف والنخبة والناس
دروس وعبر مأساة اليرموك
فلسطين ومناخ التحولات العربية
قرارات مرسي.. إنهاء لحكم العسكرتاريا
مفارقات الداخل الإسرائيلي
انتفاضة الفقر وكابوس الفساد الزاحف