إن لم نخرج من عالمنا القديم، فسوف ندفن فيه. إرهاصات العالم القديم بدأت بثورات العصر الحجري الحديث الزراعية في مصر والصين والهند وما بين النهرين، والتي تم تكريس وتسجيل ثقافاتها الوثنية الإقليمية في زمن التاريخ الكتابي للحضارات القديمة المعهودة؛ حتى جاءت الأديان الموحدة الثلاثة تتويجا، حيث أنهت العالم القديم بالعصر الوسيط.
ثقافة اليهود خلاف "اليهودية" وثقافة المسيحيين خلاف "المسيحية" وثقافة العرب خلاف "الإسلام". وأنا كمسلم تعلمت، على كبر، كيف أتجنب النصابين المثقفين الذين يسعون لإرباكي إذا تكلمت قادحا الثقافة العربية العقيمة، ناصحين بالحذر وزاعمين أنني إنما أتورط في قدح "الإسلام" ذاته. لقد جهر ابن خلدون مصرا أن دولة العرب ممثلة في مضر قد انتهت وعاد بدوها من حيث جاؤوا، إلى الفيافي والقفار؛ ولم يعني قوله عودة "الإسلام" إلى غار حراء. الأديان الثلاثة صارت تراثا عالميا، صارت معلما يحدد مدى تقدم البشر عبر آلاف السنين. بدءا من ظهور الإنسان مجرد كائن حي، يمسك الحجر كالقردة؛ إلى إنسان صاحب ثقافة عالمية بدائية وميزته كنوع عن باقي حيوانات البرية. ظهر إنسان صاحب ثقافات إقليمية مكنته من بناء حضارات شمخت قديما، إلى إنسان تميز نوعه في نهاية العالم القديم بظهور الأديان الموحدة.
تأمل واقع المنطقة، بحدود عامة يمكن رسمها لتضم جزيرة العرب بامتدادها الطبيعي الأسيوي في أرياف العراق (العراق والشام حتى البحر)؛ وجناحها الأفريقي والذي يشمل مصر وشمال أفريقيا جنوبا حتى السودان. هذه الجغرافيا كانت دائما تمثل لضمير الفرد منا وطنا ما، ولدت فوجدت المنطقة وطنا وعرينا؛ "أيقونة" عيش وعذاب مقدر تماما مثل "صليب" المسيح. صارت المنطقة رمزا لحياة وألآم ناسها. هذا المغزى الأيقوني خفي على الاستعمار القديم، حين تشرد في أرجاء المنطقة يركض هنا وهناك يحلم بسعادة؛ كتلك التي نالها في الدنيا الجديدة. دون أن يفطن إلى فرق بين أمريكا التي كانت خواءا ومنطقتنا التي تعج بمستنقعات ثقافة العالم القديم.
جغرافيا المنطقة تحولت بسلوك البشر إلى تاريخ، وحدته في العصر الوسيط وزمته أرومة لسان واحد، فصيرته هوية ذات ونوعية ثقافة لمن عاش ومات فوق أرضها. القرآن الكريم قدم مثالا لهذا الزم والتوحيد حين تحدث بحميمية سواء صداقة أو عداوة؛ عن ثقافات تواجدت وتفاعلت بعمق: ثقافة اليهود وثقافة النصارى وثقافة مصر القديمة. بينما أشار مجرد إشارة عابرة نسبيا إلى الفرس والروم.
كل من أنجز ثقافة في صميم المنطقة تعلم العربية، مثل ابن المقفع والغزالي؛ بحيث صار لدينا حاجز لغوى بجانب الحواجز الجغرافية. توجد لدينا ثلاث حواجز جغرافية: مضيق باب المندب فصل طبيعيا بالجغرافيا بين المنطقة وعمق أفريقيا، وفشل العرب في قهره بالثقافة، بدءا من الهجرة الأولى للمسلمين. مضيق جبل طارق، ورغم تمكن العرب الأوائل من إنشاء دولة الأندلس خلفه، فهو لايمثل إمتدادا طبيعيا للمنطقة، ونلاحظ أن هانيبال قد حاول قبلا وبنى مدينة قرطاجنة على الساحل قرب فرنسا، فمحيت بينما مازال اسم قرطاج التونسى ظاهرا. بقى مضيق البسفور والذي فشل العرب في عبوره، بل ونما في الأناضول حاجزا ثقافيا لغويا تمثل في الترك، كأنما لمزيد تحديد لمنطقتنا؛ تماما مثل الحاجز الثقافي اللغوي المتمثل في فارس.
ضم الجامعة العربية لدول ما زالت تتعلم الأبجدية العربية كتطلع سياسى، يضر بالشخصية الثقافية التي احتاجت ألاف السنين لتتبلور ونحن معرضون في هذا الصدد لخطرين: التآكل من الخارج أو التآكل من الداخل. هناك نوع آخر من التآكل الخارجى والتآكل الداخلى. مثلا أندونيسيا وماليزيا بهما أكبر عدد من المسلمين، لكن أيضا بهما أكبر تراث ثقافي خرافي قديم معاش يرجع إلى أزمان الخرافات الأسطورية، هذا العقل الخرافي المهدد بالعلم؛ يضطر لاستمداد شحنات وجدانية من المرجعية الدينية والتي بدت لهم جديدة وهي الإسلام. كذلك الحال في كل مكان يعج بالثقافة القديمة الخرافية مثل الصين والهند. لمقاومة العلم الحداثي المهدد لخرافة العالم القديم لجأ أنصار الثقافات القديمة إلى الترحيب بالأديان الموحدة ظنا أنها أتت بالجديد، مع تعمية ثقافية تسوي بين مصطلح "جديد" ومصطلح "حديث". لكن بالتدريج تتعرض الثقافة العربية لنخر نمل العقل الخرافي المحلي في صورة تآكل داخلي. المبشر اليوم يخير الشخص ليخرج من وثن القديم إما باتباع الجديد الذي جاء خصيصا للقضاء على الوثن القديم أو باتباع الحديث الذي جاء بوثن العلم . أى لدينا اليوم ثلاث تقابلات: عقل وثني قديم ثم عقل توحيدي جديد ثم عقل علمي حداثي.
جمال حمدان في كتابه الموسوعي "شخصية مصر"، استغرقته تفاصيل ونمنمات الجغرافيا والتاريخ والأنثروبولوجيا لمصر فحجبته عن التمكن من الخروج عن أجواء مصر ليعي وحدة تضم المنطقة كلها. والوضع أشبه باستمرار نحت تمثال حتى أوشكنا نضعف الكتلة. كنت يوما أتعلم النحت، وكلما أتممت جزءا أطلعت عليه خبيرا في النحت. فظل وقتا يتابع وينقد نحت التمثال، حتى جاء وقت كف عن نقد نحتي للتمثال، واتخذ منحى مغايرا في النقد. لقد صار ينقد شغلي كله لأنه يهدد الكتلة التي أنحتها بصرف النظر عن التمثال. لم يعد يتكلم عن الشكل.
صار يتكلم عن الكتلة. ونحن اليوم بحاجة للتكلم عن كتلة الثقافة العربية، المهددة بالتآكل من الخارج ومن الداخل؛ خبير النحت خشي من ضياع الكتلة لإغراقي في إبراز شكل ما. لكني هنا أخشى من ضياع الظاهرة البشرية بالمنطقة كلها لأن الحرص على مزيد قاهر من إبراز شكل معين لمجتمع البشر يقضي على ما تتولى الكتلة احتوائه من تناقضات المجتمع وسلبياته وعوراته وتخلف عقلي لبعض أعضائه ومرضى بل ومنحرفين وماجنون وماجنات وعمرو بن ربيعيات وأبونواسات وخمريات. كل مجتمع يحتوي فساقه وماجنيه، ومن ينكر هذا هو واهم وعليه الاستمرار في عيش وهمه من خلال يوتوبيا تخيلية؛ وإذا تخلى عن وهمه فعليه قراءة التاريخ ليطلع على مجون وفسق ساد في الخلافة الأموية والخلافة العباسية وسط أجواء نخاسة وإختلاط أنساب وقهر شعوب بأكملها للذوبان وإنتاج شعب هجين منزوع الثقافة.
مأزقان يهددان المثقف العربي المعاصر. مأزق انزلاقه، إذا تحدث عن ثقافته العربية، ليتورط في لجاج جدل ديني عقيم، لا أمل في الخروج منه بفهم ما. لأن الدين سلوك طقسي لا يتطلب فهما وإنما حسن أداء. والمأزق الثاني يظهر أثناء محاولة الاستنارة بمزيد من مرونة الوعي المتسع الأفق، فيهدده انزياح كامل عن كتلة المنطقة. وينتهي أمره باهتمامات بثقافات أقليمية أجنبية مغايرة لثقافته هو الإقليمية. يلهو بما أتيح له من حرية إبستمولوجية والتي لا تعوض أبدا الحرية الأنطولوجية. فيصير لهوه المعرفي مجرد هدنة حتى الموت، سواء له ليرتاح، أو لخصومه ليتخلصوا منه.
كيف نحافظ على الكتلة الضامة لكل وجهات النظر حين نصر على إظهار الشكل المعبر فقط عن وجهة نظر ما. بداية، فقد وجدت بعد فشل محاولات لا حصر لها أن المجدي تناول ثقافات المنطقة الاقليمية الغابرة من خلال نقد الثقافة العربية العقيمة، الممثلة لآخر سلسلة الثقافات الإقليمية التي تشكلت في المنطقة خلال العصر الوسيط، موازية لإرهاصات ثقافية بدائية ظهرت مع ثورات العصر الحجري الحديث. أي ليس مجديا البدء بالحديث عن الثقافة المصرية القديمة أو البابلية والأشورية. بسبب ماصار يقينا لدى من وجود انقطاعات فعالة في مسارات تلك الثقافات عبر التاريخ.
تبعا لهذا العقل النقدي، لا أجد لدي من قديم ثقافة العرب سوى شذرات شعر وخطابة، رجعوا فيهما إلى أمثال وحكم وأساطير شعبية ومعارف توارثها شيوخ قبائلهم أو إلتقطها تجارهم من جيرانهم بدءا من مصر وانتهاءا بالصين. مع ملاحظة أن الروح العربية تتوق تجاه الشرق أكثر منها تجاه الغرب. قال الشهرستاني، في الملل والنحل: ".... جعل العرب من جنس روح الهند وجعل العجم من جنس روح الروم".
جدل الشرق هو مباراة في الحكي ولا يحفل كثيرا بالتحليل المنطقي كما يتبدى في جدل الغرب. وقبل الإسلام لم يكن من جدل سوى معارضات الشعراء. حين يقول شاعر فيتصدى له شاعر آخر ليقول ما يقابل معارضا شعره. الجدل الجاد مع ظهور الإسلام، كان جدلا دينيا شمل الأديان الثلاثة الموحدة والمتنافسة على اجتذاب واستقطاب الأنصار. وقد لحظ بعض الباحثين أن ما بدأ من جدل أثبته القرآن الكريم، حاول إتمامه خلصاء الإسلام، دون أن يمنع إخلاصهم التأثر ببعض الإسرائيليات ومحاجاة النصارى في نحو قضية "الاختيار" ولم يكتفي علماء الإسلام بقول القرآن الكريم: ".... قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم..". (آل عمران). فقد استمرأ الجميع الجدل، إلى أن تم إجهاضه دون أن يصل إلى نهاية طبيعية، بظهور نشاط ثقافي قصد به خدمة الدين الجديد.
ففي العراق نشط أبو حنيفة 80 ــ 150 هـ في أعمال القياس، والتوسع من ثم في إصدار الفتاوى، وقد أطلق على هذا الاتجاه "أهل الرأي" مقابل نشاط أهل المدينة في جمع الحديث النبوي والتقيد به في إصدار الفتاوى فسموا "أهل الحديث" وتزعمهم لاحقا الشافعي 150 ــ 204 . هذه ثنائية بدأ يقابلها بعد موقعة الجمل واستيلاء الأمويين على السلطة، التشيع لعلي. ظهرت الشيعة مقابل اتجاه "أهل السنة" البازغ. وإن ظل اسم "أهل السنة" غير وارد، رغم ظهور بعض روافده الأولى في شكل الفقهاء الأربعة: أبو حنبل ومالك والشافعي وأبو حنيفة. وسيظهر مساندا لهم لاحقا البخاري ومسلم. وسيظل الجميع في انتظار الرئيس الغزالي. استغرق ذلك النشاط الثقافي مدة تسلط الأمويين. من 661 م إلى 750م.
تسلط العباسيون، أبناء عم النبي صلى الله عليه وسلم، من عام750 حتى عام 1258 م وجربت السلطة السياسية أيام المأمون نزع السلطة الدينية من الفقهاء، محنة خلق القرآن، وفشلت بسبب تصدى ابن حنبل، والذي سيصير من أقطاب أهل السنة لاحقا. والذين من الآن سيكونون في مقابل المعتزلة بزعامة واصل بن عطاء 130 هـ. فقد اعتنق المأمون وحتى المتوكل مذهب المعتزلة. لكن لم يكن في طاقة المثقفين العرب العقلية السير لمزيد شوط. هذا ما أوصلهم إليه نشاط اعتادوا عليه. أي الحكي ومعارضة الشعراء لبعضهم البعض. فبعد الأشعري 260 – 324 هـ لم يظهر منظرا لأهل السنة. وسوف ننتظر الغزالي. والذي ظهر ضمن كوكبة جديدة من مثقفين غير عرب ظهروا مع تغلب واضح للدين الجديد. مما أضطر المثقفين من بلدان وألسن غير عربية أن تتعلم العربية. مثل الفارابي، أبوه فارسي وأمه تركية 870 – 950 م وعرف التركية والفارسية والكردية والعربية. ومثل ابن سينا، أبوه فارسي وأمه من بخارى، ولد عام 980 م . ثم جاء الغزالي - 1059 م من خراسان. وبراعتهم في التفكير بالعربية دليل تفوق وذكاء وتعمق في ثقافات شتى. هندية وفارسية ويونانية في صيغتها الهيلينستية. وهذا ما مكنهم من توسيع مجال البحث. بحيث وجدنا الغزالي يشمر عن ساعد جده ليؤسس بشمولية لم يجاريه فيها أحد من قبله أو من بعده.
الغزالي باعتماده الجدل الديني فقط أضر بالثقافة العربية محولا إياها إلى مجرد طقوس دينية. فكما رأينا قبلا أن مثقفي العرب لم يتجاوز جهدهم حدود الأشعري. بينما نجد الغزالي بسبب استعانته بثقافة الشرق والغرب، قد تمكن من الاستطراد متقدما على مجرد الحكي إلى محاولة تأسيس مذهب يخدم الدين وليس عموم الثقافة.
بالغزالي تشكلت نهائيا منظومة أهل السنة. البخاري ومسلم والشافعي ومالك وابن حنبل وأبو حنيفة وعلى رأسهم الغزالي. والغزالي انتقل بالمثقفين العرب نقلة نوعية. إذ نلاحظ أن سوق الثقافة كاد يخلو من العرب الخلص. فصار الغزالي مقابل من؟!. صار مقابل مثقفين موسوعيين ومتعلقين بمراجع ثقافية خارج العربية. صار مقابل الفارابي وابن سينا في المشرق ومقابل ابن باجة - 1138 م وابن طفيل- 1185 م وابن رشد- 1198 م في المغرب. وثلاثية المغرب هذه ولدوا بالأندلس وسط ثقافة مهجنة شملت العربية واليونانية. ورغم سطوة وغلبة الثقافة المنتمية إلى الترجمة وخاصة مع تشجيع مثل الخليفة المأمون وغيره، فقد ظل الغزالي عالي الكعب في مواجهتهم بموسوعته السنية. مما جعله ولنهاية دولة العرب، بل وحتى الآن المرجع الرئيس والوحيد الشامل لعلوم الفقهاء بدءا من الفقه العملي وحتى التصوف مكرسا الجدل الديني على أنه الثقافة الوحيدة المتاحة والمعتمدة بخاتم "إيمان"، بينما ختم أي نشاط عقلي آخر بخاتم "كفر" خاصة وقد استيقظ الغرب في أوربا مع بداية القرن الحادي عشر، بعد استفادتهم من عرب الأندلس واسترجاعهم ثقافة اليونان وانقلابهم غيرة وطمعا نحو المشرق يطالبون بأرض المسيح المقدسة. فازداد تكريس الغزالي وتمسك الجميع بموسوعته. إذ مع بدء الحملات الصليبية سيتوارى العرب. إلى أن يأتي الترك بقيادة سليم الأول فيكتسح بالثقافة التركية كل الموجود بالسوق. مهددا تراثا ثقافيا للعالم القديم، كان يتأبى على الزوال.
لأن الأرض أو المنطقة عربية العقل واللسان، فلن تعدم من يحن إليها. فظهر ابن خلدون ليجد على الساحة الغزالي مؤثرا. وإذ نقارن بينهما، نجد ابن خلدون قد تقلد القضاء المالكي مرارا، في المغرب ومصر. لكن ظل الفقيه هو الغزالي. بينما ابن خلدون هو العربي الوحيد الذي تجرأ على الفهم الثقافي العام وهو قابع في حضن بني جلدته بتونس والذين كانوا يتقاتلون باسم الدين. لقد أضر المستعربون بالثقافة العربية، أتقنوا العربية من خلال مصطلحات الدين. مهملين الخلفية الثقافية العربية، أي الكتلة في سبيل إبراز الشكل؛ (نظرية الكتلة والشكل في النقد).
ولكي أكون منصفا فمصر اليوم كأزهر تتلقى ضربات ترفض استمرارها لتكون مرجعا دينيا بعد أن وعي البعض أن الأصل الأصيل للدين هو شبه الجزيرة العربية (proper origin)، وأن الوسطية التي يقول بها الأزهر لا تنبع في الحقيقة من قراءة "أمة وسطا"؛ وإنما للفهم الوسط لغويا، فمصر التقت بالدين بلسانها الديموطيقي – القبطي، وعند التأني في التأمل نجد أن مصر صعب عليها بل استحال مزج لغتها بلغة الإغريق أو الرومان أو الفرس بسبب عجمة قوية؛ بينما لم توجد عجمة كافية بين لغتها والعربية لاستمرار العزلة اللغوية. وقد ثبت من الأبحاث اللغوية اشتراك مصر والعرب في جذر لسان واحد، لكن يظل فارق لغوي بسيط يؤهل للفهم الوسط ناتج عن عيش ناس مصر بيئة زراعية خلاف بيئة الصحراء البدوية؛ من هنا توجه الآملين لعيش عصر الصحابة (أربعون عاما من البعثة) إلى عيش البداوة القحة. هل هم على حق إذا حولوا الثقافة إلى مجرد رطانة طقسية، وهل هم على خطأ إذا قهرونا لنرفض اشتمال الثقافة على العلم الحداثي!؟
الغزالي ابتغى بمزيد نمنمة وبمزيد إضعاف للكتلة، طريق التقوى، لكنه ساهم في إبعاد الأجيال اللاحقة عن رحابة الثقافة العربية، الكتلة، لقصر نشاطه على تقديم الحضارة العربية كمجرد دين، مما مهد أمام تلك الأجيال اللاحقة باب الالتحاق بالثقافة الدينية العالمية للإسلام. وصار متقبلا الإسلام الماليزي والأندونيسي والهندي....الخ، دون الفطنة أن الدين العالمي يستغل لتغذية الوجدان المحلي بشحنات طاقة، ليس لخدمة الدين ذاته، وإنما لتمرير عقل خرافي محلي، صار مكروها. فإذا تأملنا أنثروبولوجيا كيف تستخدم الشعوب الإسلام لوجدنا تسربا لخرافات لا حصر لها، كل بصيغته المحلية. وفي مصر بدلا من إسلام الأزهر الوسط، أي الذي يوازن بين الكتلة والشكل. أو بين الثقافة المصرية والدين. رجع إلينا شبابنا بعد أن ساحوا في أفغانستان وباكستان وماليزيا واندونيسيا والهند والصين...الخ ليفاجئونا بقبول وإذاعة خرافات محلية كنا قبلا نتجاوزها، وقد أفشوها من خلال الترويج لشذرات مشكوك فيها من الدين. فطفت إلى سطح العقل، خرافات العفاريت والسحر والربط والفك الجنسي وهيلة الثعبان الأقرع ودجل العلاج بالتعاويذ. أمور لو تتبعنا مصادرها الأولى لقذف بنا إلى مصر القديمة. بل إلى ما أقدم منها. إذ أن ثقافة العصر الحجري الحديث مدانة الآن، رغم وراثتنا لها حسب قانون يونج في وراثة نماذج ثقافية أولية، فكيف العمل لتمرير الخرافة؟! إننا نخدع أنفسنا ونلجأ لتزويد الإرث المرفوض بشحنات وجدانية تمثل الطاقة النفسية، اللبيدو، من إرث مقبول اجتماعيا وهو إرث الدين التوحيدي. لقد أضر المستعربون بكلا من الدين والثقافة العربية!
والملفت هو سلبية المثقف العربي والأديب العربي، حين يمارس إضعاف الكتلة دون وعي. إذ يدفعه الخوف والتقية، فيدع لغيره تضخيم شكل الجدل الديني، بينما هو ينأى بنفسه عن أي تشكيل يبرز الثقافة العربية، أو يقدم تشكيلا هزيلا لا يمكنه بحال منافسة أنصار مثل الغزالي. مما يهدد بتفريغ وعاء الذاكرة لديه ويصير مستهدفا لكل مغرض يملئه بأية هوية شاء. من ثم، حاجتنا ملحة إلى معجم إبداعي يعتمد على فهم ثقافتنا العربية وليس مجرد حكيها.
نحن في منطقتنا، محاصرون بمضايق البسفور وجبل طارق وباب المندب، نتعامى عن حقيقة أنها مضايق منفذة للثقافة دون الأبدان والذي درس العلوم الطبية يعرف ما يسمى بالحواجز بين الدم وبعض الأعضاء بهدف حماية البدن فيوجد ما يسمى بحاجز الدم ــ المشيمة وحاجز الدم ــ المخ ليسمح بنفاذ نسبي للغذاء ومنع لبعض العناصر. أوربا سعيدة بشقرتها، وقد ظلت تتمرغ بتلك الشقرة في الجهل حتى فطنت إلى ضرورة العلم. فسمحت للثقافة دون جينات البدن بالمرور عبر المضايق. فرويد ينتمي إلى ثقافة منطقتنا. هو يهودي، عاش في العصر الفيكتوري المسيحي. ينتمي بمعنى ما إلى ثقافتنا. ثقافة الحكي. وهي ثقافة شملت كل العالم القديم وحتى نهاية العصر الوسيط. لكن فرويد تقدم حين أدمج ثقافة يونانية، أتاحت لأفكاره عمقا. حين نأخذ بجدية الثقافة اليونانية المنطقية، ننال الاسترخاء النفسي كي نحسن التفكير الفردي الحر مقابل التفكير الجمعي القبلي، فكما أخذنا ما قدم لنا ابن المقفع في كليلة ودمنة علينا أخذ حكايات ايسوب. فرويد أخذ أوديب. مثلما سيأخذ كامي لاحقا سيزيف. هل يأخذني هذا إلى موقف طه حسين من التراث الإغريقي!؟
يصف وتجينستين Wettgenstein فرويد وما يسمى بالتحليل النفسي بأنه حكيٌ Narrative وليس علما. خطأ الظن أننا بمعزل عن التأثير والتأثر. وإلا كنا نعيش فوق المريخ وليس الأرض. هذا الجدل بين فرويد ووتجينستين يعنينا تماما. لأنه يمثل محاولات العقل القديم لاتخاذ الحكي ثقافة، حتى تمكن العقل الحديث من القضاء عليه بإدخال مقولة "الفهم" Comprehension أداة إرساء ثقافة جديدة. لكن حتى لا نشط ونظن أننا وصلنا في تطورنا الثقافي الغاية التي وصل إليها فرويد ووتجينستين بعده، أذكر أنه على مسار التطور يحافظ الكون بكل أشكال عبرها التطور، فانظر أين نقف؛ نحن نقف نجادل في مستوى أدنى بكثير من مستوى فرويد وناقده؛ وتأمل مدى سوء حظنا إذا وعينا أنهما وهما على فكر أرقى منا كيف يعاب فرويد بالحكائية فماذا نكون نحن!؟
بعد إستهلال محمد على باشا بالتحديث تورط عقلنا في ثنائية جديدة، قدم الأفغاني، ولد عام 1839، ودائما دعاة النهضة مستعربون، فأهمل الكتلة وانغمس في نمنمة الشكل لأنه كمستعرب لا يفقه في العربية سوى المصطلحات الدينية، وأسس مدرسة سينضم اليها محمد عبده وإقبال وابن باديس والكواكبي ومالك بن نبي. مقابل الطهطاوي، ولد عام 1801 ، والذي سينضم إلى مساره طه حسين وعلى مبارك والعقاد...الخ، والذين يتصفون بمحافظتهم على توازن بين الكتلة والشكل. واستعانوا في ذلك بالفهم وليس بالحكي. وهذا الانجاز الذي نجح في تأسيسه رواد النهضة المصرية في أواخر القرن 19 وأوائل القرن 20 مهدد الآن بالإجهاض من قبل أنصار الجدل الشكلي الجدد. فهل سنظل نصر على الفهم أم سننحاز إلى الحكي المخدر، كلما تقدمنا خطوة شدنا وجداننا الرهيف إلى سلوى الخرافة، نخاف أن نفقدها إن نحن تقدمنا. فنقبع مكاننا، نجتر لنعيد إنتاج العقل الخرافي القديم. مستمتعين بتخزين الحكي في عقولنا، كما نخزن القات في أشداقنا.
اقرأ أيضاً:
خطايا ثقافية ( 2-2 ) / متى نشخِّص الثقافة؟ / ما وراء (التشخيص الثقافي)!/ الثقافة العربية المعاصرة.. (ثقافة قلقة)! / سمات عَشْر للثقافة القلقة! / أسئلة حول (الثقافة القلقة)!