هذه الدراسة تتبع علم النفس الأنثروبولوجي، حيث الإستعانة بالثقافات المختلفة لفهم البشر؛ مع الإقرار بأحقية كل ثقافة في التعامل بمفردات الأخرين الثقافية وفقا لتصويرهم المحلي أو الإقليمي لهذه المفردات.
إذا جاز التعبير فالعقل المصري القديم هيروغليفي، أي يعبر بالصور العيانية التي أبعدته نسبيا عن التجريد؛ الشيء الذي أضر به لاحقا . لدى المصري القديم احتلت المرأة مكانا متمايزا متميزا لكونها جالبة الأولاد والمسئولة عن تربيتهم وصون بيت الاسرة ورعاية الزوج والأولاد، وهي من ثم إذ تقوم بكل هذا حازت رضا الناس فجعلوها رمزا لكل قيمة فاضلة؛ ومنها تصويرها لتؤدي معنى العدل والحق باسم "ماعت".
لها خواص كلها ترجع إلى إحلال النظام والهارمونية ومن ثم فهي تمثل الكون والذي منذ القدم كان نموذج النظام والهارمونية في العقل المصري القديم، وهذا نابع من طبيعة البيئة المصرية الزراعية النهرية والتي تتراوح بين هدوء ونظام الربيع وفوضى واضطراب الخماسين والفيضان؛ ولذلك نجد في الفكر المصري القديم دائما تقابل بين انتظام الكون السماوي بشمسه وقمره ونجومه وعشوائية الأرض بفيضانها وخماسينها حينا وهدوء ربيعها حينا. لذا نسبت آلهتهم إلى السماء المنظمة العادلة ونسب الحاكم فرعون إلى السماء كابن للآلهة ليس كمفهوم الله اليوم وإنما كتعبير هيروغليفي عن عمله على إحلال النظام والعدل في بيئة الأرض والمجتمع المصريين. مثل تقابل ست عامل الفوضى والصحراء لأوزير وتقابل ماعت عامل النظام مع إزفت عامل الفوضى والعنف.
منذ البداية وعى المصري العدل والحق مرتبطا بوعي الجمال والفن، لمعاينته كيف يؤدي القيضان والخماسين إلى خراب وقتل للبشر والحيوان بدون سبب واضح أي بظلم وإجحاف أي بقبح وفوضى مقابل صفاء وروق السماء وانتظام أجرامها؛ ولذلك تحرى العقل المصري في أعماله الحضارية تحرى الجمال والفن في صورة التوازن والتقابل وثبوت نمطي لنماذجه في تصوير عيشه وبيئته وشخوصه. وأصبح تقييمه للفرعون مرتبطا بمدى معاونته ماعت في معاركها مع إزفت لإحلال النظام والهارمونية كنموذج للجمال والفن في البيئة والمجتمع وتصعيدا داخل النفس. ويستعمل المصري العادي حتى اليوم لفظ "روق" و"رايق"، يعبر به عن النظام والجمال والفن حيث الهدوء كمثل لنعيم العيش وهو هدوءا تمادينا في ابتذاله حتى وصلنا اليوم إلى البلادة والتبلد غير الخلاق والمعبر عن مدى الإجهاد الذهني الذي أصاب العقل المصري نتيجة الإجبار على عيش جمعي مديد لثقافات توالت على بيئتنا دون أخذنا مهلة كافية للتعاطي معها بفعلنة حميمية ( proper processing ) مشتقة من مرجعيتنا الزراعية؛ إذ كانت كل الثقافات التي إنتهكت حرم حضارتنا بدوية.
هجرة الشعوب البدوية بعد أن حل الجفاف بصحرائهم، وجدوا في خضرة مصر مرعى مثاليا لمواشيهم دون وعي جاد بدور هذه البيئة الخضراء في تشكيل العقل المصري؛ وأدى التعامل البدوي الخشن الجهم مع العقل الزراعي الوادع المطمئن إلى صدمة نفسية للمصريين قاسية وقاصمة محبطة أنتجت ما أسميه إجهادا ذهنيا صحب الإنهيار الحضاري والذي بدأ منذ اكتشاف الهكسوس لمراعي مصر الوافرة الخضرة والذي أعقب اكتساحهم البلاد. غمرت مصر بهجرات الفرس واليونان والرومان والعرب وأخيرا الترك. انهيار الحضارة المصرية القديمة مرتبط بصدمة نفسية لرؤية المصريين كيف تمتهن رؤاهم الريفية المتضمنة لنضال مستمر ضد ست عامل البداوة وجفاف الصحراء والرمال المحرقة المميتة مقابل رطوبة الريف المنعشة المحيية.
جوهر الديانة المصرية القديمة يتمثل في مساعدة الحاكم فرعون لماعت رمز الكون العادل لأنه منظم منسق دقيق في دوران أجرامه ومن ثم جميل، في صراعها المستمر مع مقابلها إزفت عامل الفوضى والخراب، أو أن فرعون يساعد ماعت السماوية ضد إزفت الأرضية بفيضانها الظالم وخماسينها الغاشم؛ وكي يعبر العقل المصري القديم عن عدل الحاكم رفعه إلى السماء أيضا كما رفعت ماعت كابن إلاهي تعبيرا هيروغلوفيا حيث السماء نموذجا لاحظوا على مدى ألآف السنين إنتظامه وهارمونيته مقابل الأرض التي لاحظوها أيضا على مدى الآف السنين كمصدر للخداع والفوضى والخراب ممثلة في الفيضان والخماسين والوحوش الضارية والبدو ووحوش الصحراء والغيطان وخداع النهر وشرور البشر.
ثقة المصريين في إنتظام الكون ممثلا في السماء، دفعهم إلى تلمس وسيلة لجعل الأرض منتظمة مثل السماء واهتدى الكهنة عبر الآف السنين إلى ما سمي "السحر" يتوسطون به لدفع كل ماهو أرضي لتقليد السماء نظاما وعدلا وفنا وجمالا؛ واستخدم السحر كآلية تسخير كل القوى الأرضية وحتى السماوية للعناية بالبشر حيث لمسوا مدى ضعف البشر بل سخروا الحكام ليستمروا عادلين بمعاونة ماعت.
ولفهم الصورة المرفقة، أمضيت زمنا أحاول فهم لم عهد المصريون بميزان العدل إلى حيوان، حتى درست كيف استعار اليونان والرومان الفكرة وطوروها؛ فإذا بهم يضعون عصابة على عينيّ المرأة ربة العدل ويضعون في يدها الميزان وفي اليد الأخرى سيفا عوضا عن حيوان وضعه المصريون بجوار الميزان لالتهام الشرير والذي يتضح ثقل قلبه لامتلائه بالذنوب . لقد وضعوا عصابة على عينيي ربة العدل لضمان الحيادية والموضوعية، وهنا فهمت أن المصريين أوكلوا الميزان لحيوان لضمان الحيادية حيث أن الإنسان في موقف شديد الرعب سوف يحن لأخيه الإنسان أما الحيوان فلا وما يبدو من فجاجة عيانية في الفكر المصري فبسبب الزمن السحيق الذي بدأت منه تصوراتهم بينما ظهر اليونان والرومان لاحقا وقد تطور العقل البشري ووصل مرحلة من التجريد كافية لوضع تصور أحدث لمفاهيم الماضي. حقا المستقبل يعين على فهم الماضي إذا أردنا تشييد الحاضر برشد.
عبر الآف السنين عانى المصريون من تناقض صار مألوفا لديهم بين نظام السماء الجميل وفوضى الأرض القبيحة، وتعمق وعي التناقض حتى وصل إلى وعيه داخل النفس البشرية؛ التي رمزوا إليها بالقلب. ولما كان وعيهم هذا تضمن صعوبة إن لم يكن استحالة التوفيق سعيا لراحة العيش والبال، اكتفوا بطلب التوازن في شكل نضال حورس المستمر في صراعه مع ست الشرير القاتل للنظام والخير في صورة قتل أبيه أوزير، ومن ثم صوروا التوازن المطلوب في شكل استمرار إيزيس في جمع أشلاء زوجها أوزير ليعم الفيضان بعد جفاف تسبب فيه ست البدوي الصحراوي الشرير. ومن هنا ظهرت صورة هيروغليفية تتضمن لأول مرة في التاريخ الميزان تعبيرا عن التوازن، حيث يتولى كائن محايد تماما وزن القلب مقابل الريشة التي هي أخف الأشياء والتي أرجعوا سبب خفتها إلى خلوها التام من الشر؛ فالشر والذنب والدنس يثقل القلب. الشر هل يتعادل مع الخير هل تتعادل السماء النظام مع الأرض الفوضى هل تتعادل الريشة رمز ماعت الكون المستقيم مع القلب رمز الأرض الإنسان المتناقض.
قراءة الصورة المرفقة:
نبدأ بأقدم صورة لماعت تزين رأسها بريشة رمز البراءة لأن الريشة في العقل المصري وحتى اليوم نقول "خفيف زي الريشة" أو "أخف من الريشة"، لأن الذنوب تثقل القلب؛ فوزن القلب كما في الصورة التالية يتولاه حيوان من خارج البشر ضمانا لحياديته وبجواره حيوان كاسر يرقب كفتي الميزان فإذا هبطت كفة القلب دل على امتلائه بذنوب أثقلته فيسارع إلى التهامه. وفي الصورة التالية نجد إحلال إيزيس محل ماعت لتوسع فكرة العدالة في العقل المصري لتشمل مغزى اجتماعيا حيث شملت الضمان الأسري، فإيزيس استحقت رمز العدالة لرعايتها أسرتها المكونة من زوجها وابنها؛ وفي مرحلة لاحقة شملت رعايتها كل الكون وصورت بجناحين تفردهما وتحيط بهما مصر رعاية وضمانة.
وانتهى تصوير كل معاني إيزيس في شكل الأم المرضعة كما نرى في بداية الصف الثاني من الصورة، والتي صارت مع الزمن أيقونة؛ قرأتها اليونان المتنصرة قريبا مقرونة بصورة الثالوث: إيزيس وأوزير وحورس ومن ثم أدمجتها في أيقونتين مسيحيتين هما اليوم صميم الديانة المسيحية أي مريم الرؤوم والثالوث المقدس. كما أن اليونان ومن بعدهم الرومان أخذوا أيقونة إيزيس رمز العدالة الكونية تتزين بريشة فوق رأسها ووبسبب تحقيقها العدالة صارت قادرة على منح الحياة، بمعنى أن تحقيق العدالة بين البشر يعطي الحياة "ولكم في القصاص حياة"؛ وفي يدها الأخرى عصا رمز القوة تسيطر بها لتحقيق العدالة.
هذا الرمز أخذته اليونان ومن بعدهم الرومان ليتطور مع الزمن حتى يصل اليوم في شكل امرأة معصوبة العينين دليل الحيادية والموضوعية وتحمل بيد الميزان وبالأخرى سيفا تقيم به العدالة. وهكذا وصلنا اليوم أيقونتين تطورا من خلال الثقافة المصرية القديمة، أيقونة هيروغليفية لخصت الديانة المسيحية؛ وأيقونة هيروغليفية لخصت العدالة الإنسانية. ولعلنا اليوم نعي كيف اندمج وجدان المرأة المعاصرة في أيقونة مريم الرؤوم.
واقرأ أيضاً:
ثقافة الحكي وثقافة الفهم!