لا يوجد شك بأن المتغيرات السياسية في المنطقة العربية قد فرضت نفسها على الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني. استلام التيار الإسلامي للحكم في مصر، واقتراب وصوله من حكم سوريا، دفع أطرافاً دوليـة مؤثرة لإدارة ظهرها كلياً لعمليـة السـلام في الشـرق الأوسـط. والأهم أن هذه الأطراف قد طلبت من المانحين "عرباً وعجماً" التوقف عن دعم السـلطـة مالياً، وهو ما تسـبب في الأزمـة الماليـة الخانقـة التي تُعاني منها السـلطـة حالياً، والتي قد تؤدي، مع جملـة أسـباب أخرى، إلى انهيارها.
للبعض، هذا الحصار المالي استهدف منع السلطة من التوجه للأمم المتحدة للحصول على صفة المراقب... ولهذا البعض أيضاً، الحصار يستهدف الضغط على السلطة للعودة إلى المفاوضات دون شروط. لكني أعتقد بأن سـبب هذا الحصار هو المتغيرات التي تحدث في الإقليم؛ فإن كان لا بد من تسـويـة سـياسـيـة، في حسـابات (إسـرائيل)، فلماذا تكون مع السـلطة في رام الله، أوَ ليـس من الأفضل أن تكون هذه التسـويـة مع "حماس"، طالما أن الإقليم يميل لصالحها..!!؟؟
دققوا في تصريحات منسوبة لرئيس وزراء (إسرائيل)، (نتنياهو)، قال فيها قبل أيام ثلاثة إن "سقوط السلطة الفلسطينية في رام الله وارد"، وأن "كل ذي عقل يستطيع استبصار حالة سقوط السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية على غرار ما يجري في سوريا الآن". مضيفاً بأن "حركة حماس قد تُسيطر على أراضي السلطة الفلسطينية إما قبل التوصل إلى تسوية سياسية معها ـ مع السلطة ـ أو بعدها".
وبالنتيجة يقول (نتنياهو) إنه "يجب انتهاج نهج المسؤولية والعقلانية إزاء السلطة الفلسطينية في رام الله بخلاف الأصوات الداعية إلى الهرولة والتنازل والانسحاب وذلك لتلافي خطر قيام قاعدة إرهابية إيرانية ثالثة في المنطقة بعد ما حدث في لبنان وغزة".
(نتنياهو) على قناعة بأن "حماس" ستستلم السلطة... حديثه عن احتمال استلام "حماس" للسلطة بعد التسوية هو من باب الإدعاء بأنه على استعداد للتوصل لتسوية مع السلطة في رام الله، لكن ممارساته على الأرض تؤكد عكس ما يقوله. دع عنك إدعاءه بأن هنالك خطر قيام قاعدة إرهابية إيرانية جديدة في الضفة، فهو أكثر من غيره يعلم بأن "حماس" قطعت علاقتها مع إيران وموجودة الآن في خندق الحُلفاء الجُدد الذين يريدون التهدئة مع (إسرائيل)، ولو مؤقتاً...!!! ثم إذا كانت مخاوفه "حقيقية"، فلماذا يُحاصر السلطة ويحجب عنها الأموال، ويُمهد لانهيارها..!!؟؟
ما هو مهم في تصريحاته بأنه يُمهد لفكرة قبول سيطرة "حماس" على الضفة كإحدى الحقائق التي على (إسرائيل) التعامل معها، والتسوية تأتي بعد سيطرة "حماس" على الضفة، لا قبلها. الحصار المالي العربي يأتي ضمن هذه الرؤية أيضاً. وربما من أجل التسريع باستبدال سلطة "فتح" بسلطة "حماس"، وبعدها رعاية مفاوضات، غير مباشرة، لإيجاد تسوية للصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي.
معالم هذه التسوية في حسابات (إسرائيل)، وأظن بأن التيار الإسلامي، لا يعترض عليها، هي في عودة الضفة الغربية للأردن. لهذا كان هنالك لقاء بين ملك الأردن و(نتنياهو) قبل أسبوع، نقلت بعض الصحف عنه، أن اللقاء تطرق لعلاقة كونفدرالية بين الضفة والأردن.
هذا حل مريح لأطراف عديدة؛ (لإسرائيل) أولاً التي تريد أكبر جزء من أرض الضفة ولكن بدون فلسطينيين عليها.. وهذا الحل بديل إسرائيلي لفكرة الدولتين ـ حيث الدولة الفلسطينية المقطعة الأوصال لا مقومات اقتصادية تمكنها من البقاء وهي تبعاً لذلك مصدر أزمات دائمة (لإسرائيل) يجب عدم السماح بها.. وهو حل أيضاً في صلب عقيدة (الليكود) السياسية التي يرى في الأردن دولة للفلسطينيين!
وهو حل مريح للإسلاميين الذين استلموا السلطة قبل أشهر أو في طريقهم لها بعد أشهر. مصر تحتاج إلى سنوات عديدة، إن بدأت اليوم وإن بدأت بطريقة صحيحة، حتى تتغلب على الإرث المأساوي من الفقر والأمية والتخلف العلمي والارتباطات الأمنية الدولية، الذي تركه لها حكم مبارك.
وسوريا، إن استلمها الإسلاميون ستكون قريبة من ليبيا.. ميليشيات مسلحة تتنازع على السلطة، وسيدخل التيار الإسلامي المعتدل، الإخوان المسلمون السوريون، كما حالهم الآن، في لعبـة دوليـة هدفها تمكينهم من الحكم وفرض سـيادتهم على كامل تراب سـوريا، وهي لعبـة لها أثمانها السـياسـيـة.. والموقف من (إسرائيل) سواء من مسألة الجولان، أو من التسوية في الضفة سيكون حاضراً خلال "لعبة التمكين" هذه.
الإسلاميون في الأردن لا يعترضون على هذا الحل.. إلى اليوم يرفض الإسلاميون قرار فك الارتباط بين الأردن والضفة الذي اتخذه ملك الأردن العام 1988، وهم يرون بأن قرار فك الوحدة بين الضفتين غير دستوري، وأن الضفة يجب أن تعود أولاً للأردن، وأن تُجرى فيها انتخابات برلمانية، ثم يجتمع البرلمان الموحد، ليُقرر فك الارتباط من عدمه، وهو ما يعني صراحة، بأنهم يؤمنون بأن الضفة هي جزء من الأردن.
موقف الأردن الرسمي العلني ضد الفكرة، بحسب تصريحات وزارة الخارجية الأردنية مؤخراً.. لكن هذا الموقف مرشح للتغيّر لسببين: الأردن يُعاني من ديون وصلت الى 24 مليار دولار، وهو عُرضة لضغط سياسي لن يكون بإمكانه تحمله في حالة رفضه للمشروع.. والنظام الأردني ثانياً يُعاني من تفسخ في قاعدته الاجتماعية بين الأردنيين الأصليين، تحديداً في جنوب الأردن، ومن مصلحته بناء قاعدة اجتماعية داعمة له وسط الفلسطينيين. التيار الإسلامي الأردني الذي يحظى بدعم جمهور عريض من الفلسطينيين، لا يُمانع في دعم النظام الأردني إن حصل على جزء من السلطة السياسية ـ مثلاً، رئاسة وزراء وانتخابات برلمانية حقيقية على الطريقة المغربية.
يبقى موقف "حماس" وموقف "فتح" من المشروع... الأولى ترى المتغيرات في الإقليم لصالحها.. وتُراهن تبعاً لذلك على الزمن.. هي لن تتنازل مباشـرة، ولن تقوم بتوقيع اتفاقيات مباشـرة.. "حماس" و "التيار الإسـلامي" عموماً، كما قلنا مرات عديدة، يرثون الاتفاقيات ولا يوقعونها لأسـباب أيديولوجيـة صرفـة لا علاقـة لها بالسـياسـة، وبعد وراثتها، يمكن لهذه الاتفاقيات أن تعيـش عقوداً إلى أن يُغير الله من حال "الأمـة". ضمن هذا الفهم، "حماس" لن تقف فعلياً ضد هذا التوجـه، ولن تسـعى لإحباطـه.
"فتح" وعلى الرغم من نهضتها المفاجئـة في غزة، إلا أنها في وضع لا يُمكنها من إحباط المشـروع.. أقصى ما يُمكنها الذهاب إليه هو حل السـلطـة.. ويبدو أن ذلك في ظل الحصار المالي والسـياسـي الحالي، هو رغبـة عربيـة ودوليـة للتمهيد للمشـروع الإسـرائيلي ـ عودة الضفـة.. أو أجزاء منها إلى الأردن...!!!
واقرأ أيضاً:
أعمدة الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة / ينابيع الإرهاب الإسرائيلي / إسرائيل أخطر دولة إرهابية في العالم / الاستعمار الاستيطاني غدة سرطانية خبيثة