الثورة السورية بين العنف واللاعنف1
إن سلمية الاحتجاجات، ومحاربة النظام لها بالرصاص الحي، مع ادعائه أن العصابات المسلحة هي التي تقتل المتظاهرين ضده، بينما لا يصاب المتظاهرون المؤيدون له بخدش، هذه السلمية رغم الاستفزاز ومحاولة النظام جر الثائرين إلى السلاح فضحت النظام وعرَّته أمام الذين كانوا مخدوعين به، وألهبت مشاعر الكثيرين الذين يكرهون الظلم والقهر، فإذا بهم يرون الظلم والقهر مجسدين وواضحين وضوح الشمس في أفعال النظام.
ومما ساهم في فضح النظام أنه استعان بالشبيحة، وهم نوع من المافيا والعصابات التي كونها بعض آل الأسد في مناطقهم للسيطرة على الناس حولهم، علوية كانوا أو سنة أو مسيحيين، فلا كرامة لأحد إلا لآل الأسد والباقون درجة ثانية حتى لو كانوا علويين، إلا إن هم انضموا إلى عصاباتهم من الشبيحة الذين لا يخضعون للقانون ولا لأعراف الناس وتقاليدهم ولا يعرفون حلالاً أو حراماً، فمن كان معهم شاركهم بعض المنافع دون أن يشاركهم العلو في الأرض، إذ لا بد له أن يرضى أن يكون وراءهم وأدنى منهم. هؤلاء الشبيحة المرتزقة من المجرمين وأشباه المجرمين جندهم النظام ليكسر بهم إرادة الثائرين لكرامتهم، فزادوا الطين بلة بأخلاقهم المنحطة وتعاملهم مع السوريين كعبيد آبقين يجب ردهم إلى ربقة العبودية، أو فالقتل حق عليهم.
النظام بحاجة إلى رجال يواجهون المتظاهرين بحقد وبلا ضمير، وظن أن الشبيحة بميولهم الإجرامية خير من يقوم بالمهمة، فقد كان الهدف هو الردع والإرهاب وقتل كل من يتجرأ على أسياده. هؤلاء الشبيحة لا يعرفون حقوق الإنسان لأنهم لا يرون ولا حتى لأنفسهم أية حقوق أمام أسيادهم، اللهم إلا الفتات الذي يرمونه لهم كما يرمي الرجل الطعام إلى كلبه الذي يحرسه وهو سعيد بالفتات وبرضى مولاه عنه.
هؤلاء الشبيحة يرون أنفسهم ويرون السوريين الباقين عبيداً لأسيادهم من آل الأسد ومن معهم، وهم لن يتعاملوا برحمة أو احترام حتى مع أبناء طائفتهم وعشائرهم إن هم تمردوا على الأسياد أولياء النعمة. لذا هم يقتلون المتظاهرين قتل الحاقد المتشفي لمجرد أنهم هتفوا للحرية، لأنهم هم أنفسهم لا يشعرون أن من حقهم أن يتمتعوا بالحرية والكرامة إلا ما يجود عليهم به أسيادهم. لذا هم عاجزون عن الشعور بما يشعر به السوريون المطالبون بالحرية والكرامة وعاجزون عن التعاطف معهم، إنما هم في نظرهم خاطئون يستحقون العقوبة وفاسدون يجب استئصالهم قبل أن تنتقل عدوى فسادهم إلى غيرهم. هؤلاء الشبيحة هم مستعبدون أكثر من غيرهم من السوريين، لكنهم لم يتحرروا في داخل نفوسهم، ولم يستشعروا الحاجة للتخلص من السادة المتسلطين الذين يستأثرون بخيرات البلاد ويستكبرون على العباد.
المهم حدث ما أسعدني، وفشل النظام في التعامل مع الاحتجاجات بذكاء وسياسة ومكر، ولجأ إلى الأسلوب الذي حول الاحتجاجات المتفرقة إلى ثورة شعبية عارمة يتعاظم زخمها يوماً بعد يوم. كم حمدت الله على هذه النعمة التي أرتني أن النظام زائل لا محالة ويحفر قبره بيده. إن الدماء التي أريقت بلا حق والأعراض التي انتهكت بقصد إذلال أهلها وترهيبهم هي التي استفزت النفوس الأبية الكريمة التي لا ترضى بالذل أو الظلم وصنعت في سورية ثورة ما كنا نحلم بها. اعذروني فأنا من جيل تربى على الخوف، في زماننا كان تدمير حي من أحياء حماة فوق رؤوس سكانه كافياً لإخضاع الجميع لدكتاتور مستبد عشرين عاماً وعشرة ثالثة لوريثه وولي عهده.
ربما كنتم أنتم يا شباب تشعرون أن الثورة آتية لا محالة بينما أنا لا أدرك إلى أي مستوى من العزة وصلت نفوس أبناء أمتي. لقد أذهلتمونا ببطولتكم واستهانتكم بالموت في سبيل كرامتكم وحريتكم وأخجلتمونا وصار أكثرنا يرى أن عليه اللحاق بكم والسير وراءكم، ولكنني وأنا الذي لا أجرؤ على الخروج في مظاهرة ولا على مجرد الإفصاح عن اسمي الحقيقي وأنا أخاطبكم، ولست في لياقة تساعدني على الهرب من بطش الشبيحة ورجال الأمن المخيفين إن ركضوا خلفي يريدون اعتقالي، أنا وأمثالي نملك لكم الكثير مما سيفيدكم كي تنتصر ثورتكم وتحقق أهدافها.
إننا نحن المسنين الجبناء نمتلك من الحكمة ما أنتم في أمس الحاجة إليه، إنها الحكمة التي اكتسبناها على مدى العمر الطويل والقراءات الكثيرة وخبرات الحياة وتجاربها وما مر علينا من أحداث هي تاريخ بالنسبة لكم يصلكم وصفه الصادق حيناً والكاذب أحياناً أخرى، بينما نحن عشناه واقعاً حياً بكل آلامه وأحزانه.
إن روح الاستشهاد التي لديكم وبذل النفس في سبيل الحرية شيء عظيم يستحق الإجلال والانحناء أمامه، لكن ما هو أعظم منه هو أن نستشهد استشهاداً يحقق غاية ويكلف عدونا أكثر من مجرد الطلقات التي يقتلنا بها، إن حب الدنيا وكراهية الموت تجعل البشر يرضون بالذل والهوان، لكن ليس الموت ولا حتى استشهاداً غاية في حد ذاته، وهنا قد يكون لدي ولدى أمثالي ما نقدمه لكم من الرأي والمشورة، إنني لا أريد ولا أستطيع أن أتسلق على بطولاتكم لأصل إلى زعامة وقيادة لست أهلاً لها، ولا أريدكم أن تمكنوا أحداً من المتسلقين أن يزايد على أرواحكم لتحقيق منصب أو مكانة، لكن هذا لا يعني أن نسايركم في كل ما ترونه حتى لو كان خاطئاً لمجرد أنكم كسرتم حاجز الخوف وتمردتم على قيودكم، فالمثل يقول: صديقك من صَدَقَك لا من صَدَّقَك، والنصيحة هي عدم الغش وعدم كتمان رأي نافع يمكن أن يجعل النتائج أكبر والخسائر أقل، وذلك بسبب استشعارنا النقص أمام بطولاتكم وشجاعتكم مقابل خوف جيلنا وجبنه.
أقول هذا لأني أرى الأمور مختلطة على الكثيرين من شبابنا الثائر مما يجعله يطالب بما فيه الشر له بحسن نية، والإنسان قد يطلب من الله الشر وهو يظنه خيراً، قال تعالى: {وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً} الإسراء11. لذا سامحوني إن تجرأت على طرح أفكار قد تكون مستهجنة من كثير منكم هذه الأيام، لكني أذكركم أن الحكمة ضالة المؤمن أنّى وجدها التقطها، وعلينا أن نستمع إلى بعضنا بعضاً فإن المؤمنين أمرهم شورى بينهم، ومع أن الأمر الأصل في معناه هو الحُكْم لذا يسمى الحاكم ولي الأمر لكن الشورى خُلُقُ المؤمنين في جميع مجالات الحياة، لأن الاستماع إلى الآراء الأخرى لن يضرنا في شيء، فهو إما أن ينبهنا إلى خطأٍ نحن واقعون فيه، أو يطمئننا إلى أننا على حق وعلى صواب فنزداد عزيمة وإقداماً.
أقول هذا لأن كثيراً منا صار ينادي بالتسلح ويدعو إلى التدخل الأجنبي لحماية المتظاهرين وحماية الذين يقتلون كل يوم بلا ذنب. لم يسمع كثيرون منا بمبدأ اللاعنف والمقاومة السلمية التي اشتهر بها غاندي في النصف الأول للقرن العشرين، وقد يظنه بعض من سمع به نوعاً من المثالية ومن إدارة الخد الآخر لمن يلطمنا على خدنا الأول.
اللاعنف ليس اختراعاً لغاندي ولا سبقاً له، إنما عرفته البشرية منذ الأسرة الأولى من بني آدم الذين أعطاهم الله من العقل وكمال الخَلْق ما لم يعطه لمخلوق قبلهم. القرآن يروي لنا قصة اثنين من أبناء آدم قدما قرباناً إلى الله فتُقُبِّلَ من أحدهما ولم يتقبل من الآخر، فقال هذا الآخر لأخيه: لأقتلنك. ومع أن حق الدفاع عن النفس لا يعترض عليه أحد، فإن الأخ الصالح أعلن لأخيه أنه لن يدافع عن نفسه، ولئن أصر الأخ الظالم على قتل أخيه الصالح فإنه لن يقاومه، بل سيتركه يبوء بإثمه وإثم أخيه المقتول.
تأملوا هذه الحكاية التي يقصها علينا الحق سبحانه وتعالى في كتابه إذ يقول: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ {27} لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ {28} إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ {29} فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ {30} فَبَعَثَ اللّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَـذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ {31} مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ{32} (سورة المائدة).
ربنا يحكي لنا قصة الأخ الذي لم يدافع عن نفسه وهو يعلم أن أخاه يريد قتله ليكون هذا الرجل قدوة لنا ومثالاً، لا ليذمه ويصفه بالضعيف أو المتخاذل. أليس سياق الآيات الكريمة واضحاً في امتداح امتناعه عن مقاومة أخيه بالعنف ولو دفاعاً عن نفسه؟
عندما كان النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون في مكة قبل الهجرة إلى المدينة تعرضوا إلى الإيذاء الشديد والتعذيب والحصار، لكنهم أبداً لم يلجؤوا إلى العنف أو إلى أية أساليب كان يمكن أن توصف بأنها غير مشروعة، كسرقة الطعام من أجل البقاء على قيد الحياة أثناء الحصار في شِعْبِ أبي طالب، أو تخليص العبيد المؤمنين الذين كانوا يعذبون حتى يرتدوا إلى الشرك أو يموتوا تحت التعذيب وذلك بفك قيودهم ومساعدتهم على الهروب من سادتهم، إنما كان المسلمون يشترون إخوانهم العبيد المعذبين بالمال الكثير ويحررونهم بالوسائل المشروعة في ذلك المجتمع، وفي الشِّعْب صبروا على الجوع حتى أكلوا أوراق الشجر ولم يحاولوا الحصول على الطعام بوسائل غير مشروعة، وذات يوم دافع أبو بكر عن محمد صلى الله عليه وسلم عند الكعبة فانهال عليه المشركون ضرباً حتى لم يعد يُعْرَف وجهه من شدة ما أصابه لكنه لم يرد بيده أو يدافع عن نفسه بسلاح أو دون سلاح، رغم أن قيم المجتمع المكي يومها تعلي من شأن الإباء والعزة وعدم الخضوع ولو كلف ذلك العربي حياته.
في تلك المرحلة لم يكن مأذوناً للمؤمنين أن يلجؤوا إلى أي شكل من أشكال العنف، وكانوا مأمورين أن يكفُّوا أيديهم، ونجد هذا واضحاً في الآية الكريمة التالية: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً} النساء77. لكن بعد أن هاجر المسلمون والنبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وأسسوا دولة، أذن الله لهم بالقتال في سبيله، أما قبل ذلك فكان الحال هو ما تعبر عنه الآيات الكريمة التالية: ({8} أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى {9} عَبْداً إِذَا صَلَّى {10} أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى {11} أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى {12} أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى {13} أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى {14} كَلَّا لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ {15} نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ {16} فَلْيَدْعُ نَادِيَه {17} سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ {18} كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ {19}) (العلق).
لا تطعه واسجد واقترب ويداك مكفوفتان غير مبسوطتين بأي عدوان ولا حتى بدفاع عن النفس، إنما هو الثبات والإصرار على الحق والعصيان السلمي.
الدفاع عن النفس حق تضمنه الفطرة الإنسانية السوية وتقره شرائع البشر كلها، لكن تركه أحياناً يكون أقوى أثراً من ممارسته وأعظم نفعاً وأدعى لتحقيق الأهداف المطلوبة. نعم قد يؤدي ذلك إلى استشهاد البعض وإلى الظهور بمظهر الضعيف الذليل، لكن فيه تكمن قوة أخلاقية لا يستطيع الخصم أن يتغلب عليها بسلاحه وعضلاته. سيكون هنالك شهداء سواء تم الدفاع عن النفس باليد والسلاح أو تم الامتناع عنه، ولكن أثر هذا الصراع في نفوس الذين يراقبونه سيختلف. ففي حالة الدفاع عن النفس ينتقل اهتمام من يراقب إلى معرفة من سينتصر ويتراجع اهتمامه بعدالة قضية أحد الطرفين ومقدار الحق فيها.
أما إن كف أصحاب الحق أيديهم فإن اعتداء خصومهم عليهم باليد والسلاح وعجز هؤلاء الخصوم عن رد الحجة بحجة مثلها وعن إبطال الدعوة بما يثبت خطأها كل ذلك يجعل المراقبين للموقف أو ما يسمى الأكثرية الصامتة يتفكرون بعدالة القضية المطروحة وينكشف لهم زيف ادعاء الخصم الذي لا يعرف إلا لغة القوة لأنه صاحب جسد كبير وعضلات مفتولة لكن لا عقل له ولا قلب. إن الصبر على الأذى مع كف الأيدي عن الدفاع عن النفس يزلزل الأرض تحت أقدام الظالمين، لذا تراهم يحاولون استفزاز أصحاب الحق كي يلجؤوا إلى العنف والسلاح فتكون الغلبة للظالم لأنه قوي ويخسر المظلوم حتى تعاطف الأغلبية الصامتة معه، ويصبح الموقف يشبه حلبة مصارعة يشاهدها الجمهور وهو متشوق لمعرفة نتيجتها أكثر مما هو مهتم بمعرفة من معه الحق من الطرفين المتصارعين.
عندما يكون الخلاف والصراع ضمن المجتمع نفسه يصبح أفضل الجهاد كلمة حق يقولها المرء ويتحمل الأذى الذي يقع عليه جراء ذلك دون أن يستخدم يده ولا حتى للدفاع عن نفسه، كما يفعل المتظاهرون السلميون من أجل الحرية والكرامة، وكلنا يعرف حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الخصوص (أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر أو أمير جائر)، ولهذا حكمة عظيمة أول جوانبها أن اقتتال أبناء المجتمع الواحد أو ما يسمى بلغة عصرنا الحرب الأهلية يهدد المجتمع بأسره، ويذهب فيه الأبرياء ضحايا الفوضى التي يسببها، كما قد يُقْتَل فيه من هم من أنصار الحق لأن المجتمع متداخل ومتشابك وغير متمايز، قال تعالى: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَؤُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} الفتح25. والذي يدعو إلى الإصلاح يجب أن لا يجر المجتمع إلى الاقتتال الداخلي والحرب الأهلية، إذ هدفه تحسين حياة الناس لا انتحار المجتمع أو الانتقام من الخصوم.
إذن لا جهاد باليد ضمن مجتمع واحد، إنما الجهاد فيه يكون بأن يقوم المجاهد إلى الحاكم الجائر ويعظه فيقتله هذا الظالم لأنه تجرأ على قول الحق مما قد يجعل باقي أفراد المجتمع يتمردون على سلطته وطغيانه، وعندما يقتل المجاهد بهذه الطريقة فإنه لا يكون شهيداً فحسب بل يكون سيد الشهداء. قال صلى الله عليه وسلم: " سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَرَجُلٌ قَامَ إِلَى إِمَامٍ جَائِرٍ فَأَمَرَهُ وَنَهَاهُ فَقَتَلَهُ." أما عندما يكون الصراع والخلاف بين دولتين أو بين فئتين متمايزتين غير مختلطتين يمكن للجهاد بقوة السلاح أن يكون هو المطلوب: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ} الأنفال60. وذلك كأن يدخل محتل غريب بلداً من البلدان فيكون جنوده معروفين سهل تمييزهم وقتلهم وحدهم دون قتل أي بريء، ولا يكون هؤلاء الجنود أبناء المجتمع نفسه، بحيث يقتل الرجل ابن عشيرته.
والعنف لا ينفع عندما تكون الأمور مختلطة والحق غير واضح مع أي جانب هو، وهذا ما يسمى الفتنة، حيث يحتار الإنسان ولا يعرف أي الفريقين على الحق والصواب، عندها يُقْتَل الأبرياء ويقاتل الإنسان تحت راية يكتشف بعد فترة أنها كانت خاطئة عمية، فيندم بعد أن أزهق أرواحاً بغير حق، وأتلف أموالاً ظلماً وعدواناً. لذا يجب أن يكون التغيير ضمن المجتمع الواحد وفي القضايا التي تختلف فيها الآراء تغييراً سلمياً مئة بالمئة نكف فيه أيدينا ولا نبسطها بعدوان على أحد، وبذلك لن يكون هنالك ما نندم عليه يوماً ما.
ويتبع >>>>>: الثورة السورية بين العنف واللاعنف3
واقرأ أيضاً:
ما يحدث في سورية إلى أين؟3 / ما لنا غيرك يا الله(3) / الطائفية والثورة في سورية3