هل أن العقلية الفردية والجمعية في مجتمعاتنا تستوعب مفاهيم وسلوكيات المعارضة؟!
المعارضة تعني عدم الرضى عن حالة قائمة والعمل على تغييرها أو إصلاحها، هذا وفق المفاهيم الديمقراطية الفاعلة في المجتمعات المتقدمة والقوية، ولا يوجد مجتمع بلا معارضة، ولا يمكن لنظام سياسي أن يسمي نفسه ديمقراطيا إذا انتفت فيه المعارضة.
وأقوى الأنظمة السياسية هي التي تزداد قوة بوجود المعارضة.
ذلك أن المعارضة توجب على النظام السياسي القائم أن يحسب بدقة مسوغات ومبررات ونتائج ومعطيات أية خطوة يقوم بها، وأن ينحصر إجتهادة في تحقيق المصلحة الوطنية، بالحفاظ على سيادة واقتصاد وأمن وسلامة البلاد، وأي خلل في التقدير والحسابات سيواجه بنقد حاد وتفاعل جاد من قبل المعارضة التي ترى أنها يمكنها أن تقدم الأفضل وتتجنب العيوب الحاصلة.
ولهذا فأن تبادل الأدوار ما بين القوى السياسية يكون متواليا، لأنه يحقق المنفعة الوطنية، وينمي قدرات وخبرات القوى السياسية، ويطوّر مهاراتها في الحكم والقيادة والتعامل مع المستجدات بعقلية تفاعلية موسوعية رشيدة وحكيمة، تجنب البلاد والمجتمع أسباب الويلات والتداعيات.
ونظرة متفحصة لما يحصل في المجتمعات الديمقراطية تكشف لنا أهمية المعارضة في تقرير مسيرة الحياة الوطنية، فالمعارضة وهي خارج السلطة إنما تحكم وتؤثر في قرارات القوة الحاكمة، وهذا يعني أنها تشارك في صناعة القرار السياسي في البلاد.
والمشكلة القائمة في المجتمعات المتأخرة أو الحديثة التجربة بالممارسات الديمقراطية، أن المعارضة يتم إدراكها أو فهمها على أنها عدوان، أو مُغارضة، بمعنى أن لها أغراض وأجندات ، وبتم الإجتهاد في التوصيفات السلبية والتفكير الإسقاطي والنكراني، الذي يؤدي إلى تحويل التعارض إلى تغارض، وتفاعل عدائي وإمحاقي ما بين أبناء البلد الواحد.
وهذا ما يتحقق في بعض البلدان التي تعيش ربيعها الديمقراطي الجديد.
ويبدو أن بعضها قد حقق نضجا وإدراكا متقدما في التفاعل الديمقراطي برغم ما يُقال ويُكتب، وذلك بتفاعله الحكيم والرزين مع المعارضة والمظاهرات التي تتواصل فيها، والتي يحاول الآخرون أن يفسرونها على هواهم، ذلك أن التفاعل مع الحالة يجري بأسلوب ديمقراطي يستحق النظر.
وهذا التفاعل سيؤدي إلى مساهمة إيجابية في تحقيق السلوك الديمقراطي الناضج لدى الناس.
فالمعارضة لا تعني عدوانا، وإنما حقا وواجبا، والمظاهرات ليست عيبا بل فخرا ودليلا على التقدم والرقي والتحضر الإنساني في التعبير عن الرأي والمَطلب، ونضجا في آليات وقدرات تأشير الخطأ والصواب.
وفي مجتمعات ما تربّت على السلوك الديمقراطي، يكون التفاعل أو التصريح حولها مطعما بمفردات التربية القديمة، فتجد العديد من مفردات الفردية والإستبداد وفنتازيا الطغيان قد تجري على لسان الخطباء والمتحدثين، وما هي إلا براهين على ضعف النضج الديمقراطي وقصور المنهج التفاعلي، وفقدان مهارات التعبير الأصلح عن الرأي والرؤية والتصور.
ذلك أن من أهم مشاكل المجتمعات المتأخرة، أنها تعجز عن التعبير عن أفكارها بالكلمات، وإنما هي أقدر على ذلك بالانفعالات السلبية، وهذا لا يعني عدوانا أو تهديدا، وإنما هذه هي الوسيلة التي تم تنشئة الناس عليها، وهي تحتاج إلى زمن وتجارب وأمثلة وقدوة، لكي تُصاغ وفقا لمعايير وطنية ديمقراطية ذات قيمة إنسانية وثقافية وسلوكية.
إن الفرصة قائمة في مجتمعات الديمقراطيات الناشئة، للتعلم والتطور واستيعاب السلوك الديمقراطي الصالح، وهذا يحتاج إلى قيادات حليمة حكيمة تستطيع أن تعطي القدوة اللازمة لتهذيب السلوك، وتقديم مفاهيم المعارضة على أنها من ضرورات الحياة السياسية الجديدة، وأنها من القواعد التي لا بد منها للتعبير عن الرأي وتعديل المسارات وإصلاحها لكي تكون أفضل في معطياتها ونتائجها العامة.
ويبدو أن الإعلام أيضا لايزال يعاني من الجهل الديمقراطي، وأن العديد من الأقلام لا زالت تكتب بأساليب استبدادية انفعالية متطيرة خالية من مفردات الوعي الديمقراطي، والقبول بالرأي الآخر والتحاور معه بأسلوب علمي فكري وموضوعي رصين، وإنما نرى الانفعالات والتبريرات والعدوانية تنضح من بين الكلمات، وبهذا تساهم الأقلام في تعويق التجارب الديمقراطية وحتى تدميرها، لجهلها بما تقوم به من مسوغات سلبية لإقامة حالة التضاد الديمقراطي، وانحراف المسارات نحو وديان التداعيات والهلاكات المريرة.
بينما من المفروض أن الأقلام ترعى التجارب الديمقراطية وتدرسها وتحللها وتصحح الاتجاهات، وتكون إيجابية ومتفائلة وقوة رافدة للصعود بها إلى مواضع المعاصرة والمواكبة الحضارية، والوعي الثقافي اللازم لتفتحها وإشراقها الوطني والإنساني.
وما نقرأه إنما يشير إلى أن العديد من الأقلام لازالت تعيش في عصور الاستبداد وتتغنى بفنتازيا الأمجاد، ولا يعنيها الواقع الذي عليها أن تكون فيه مشاعل منيرة لإضاءة خطوات السير نحو الأفضل للناس أجمعين، لا أن تتحول إلى عثرات وأبواق نفوسٍ أمارةٍ بالسوء وحسب!
فهل سنتعلم مهارات المعارضة فنشفى من تداعيات المُغارضة؟!
"ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم" الأنفال 46
________________________________________________
* المُعارضة: من عارض الشيء بالشيء، أي قابله، وفلان يعارضني أي يباريني
* المُغارضة: من الغرض وهو شدة النزاع نحو الشيء وكذلك الضجر والقلق والملال والقصد والهدف.
واقرأ أيضاً:
الشك الثوري / الأزمة الثورية / سروايل الثوار / لغة الوطن ولغة الفتن / الارتقاء الثوري