ثورة سلمية محمية1
ونعود إلى موضوعنا الأصلي، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عنِ الأَحْنَفِ بنِ قَيْسٍ قال: ذَهبتُ لأنْصُرَ هذا الرَّجُلَ، فلَقِيَني أبو بَكرةَ فقال: أينَ تُريدُ؟ قلتُ: أنصُرُ هذا الرَّجُلَ: قال: ارْجِعْ، فإنّي سَمِعْتُ رسولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلّم يقول: «إذا الْتقَى المُسْلِمان بسَيْفَيْهما فالْقاتِلُ والمقتولُ في النار. فقلتُ: يا رسولَ اللّهِ هذا القاتِلُ، فما بالُ المقتول؟ قال: إنه كان حَريصاً على قتلِ صاحبِه».
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري ومسلم: «مَن قُتِلَ دُونَ مالِه فهو شَهيد». وقال فيما رواه أحمد في مسنده: «من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد».
وروى النسائي في سننه الصغرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَظْلَمَتِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ».... هو شهيد إذن إن قتل وهو يدافع عن نفسه أو ماله أو عرضه، هذا بغض النظر عن دين المهاجم وعلاقته بالمؤمن الذي يقاتل دفاعاً، أي إن القتال دفاعاً مشروع والموت فيه استشهاد حتى لو كان المعتدي شيخ الإسلام، ومؤمناً لا يفوقه أحد في العبادة كما كان الخوارج.
وكما هو حال الكثيرين من الجهاديين التكفيريين الذي يستحلون دماء الناس في زماننا هذا، مع أنهم غالباً متدينون وربما كانوا شديدي الالتزام الديني والتعبد فيما سوى استباحتهم لدماء الآخرين.. الدفاع مشروع سواء كان من يهاجمك مسلماً أو كان كافراً، لكن أن يلتقي المسلمان بسيفيهما فهو محرم، وكلاهما في النار.
ما الحل عندما يكون من يعتدي علي مسلماً، وأريد أن أقاتله لأحمي نفسي ومالي وعرضي؟ الحديث الذي يحرم التقاء المسلمين بسيفيهما يقول: إذا التقى المسلمان بسيفيهما، أي خرج كل منهما من دياره ليلقى الآخر بسيفه، وكلاهما مؤمن بالعنف والقتال وسيلة لحل الخلاف، فيقاتله على أمل الغلبة وفرض الإرادة، أي يكون التقاؤهما بالسلاح هجوماً مقصوداً من كل منهما لا هجوماً من أحدهما ودفاعاً من الآخر، إنما مبادرة لمهاجمة الخصم وعدواناً استباقياً قبل أن يبدأ الخصم هجومه.
خروج المسلم للقاء المسلم بالسيف حرام، والقاتل والمقتول فيه في النار، لكن الدفاع حلال، والمقتول فيه من المدافعين شهيد، أي عندما نقاتل جنود النظام وشبيحته ومخابراته إن هاجموا بيوتنا أو أحياءنا أو بلداتنا لنذود عن أنفسنا بما في ذلك أولادنا وأهلينا ولنحمي أموالنا وأعراضنا، فإن قتالنا يكون في سبيل الله، ومن يموت منا فهو شهيد، له أن يتوقع جنة عرضها السماوات والأرض، أما قطع المسافات كي نهاجمهم في ثكناتهم، أو مراكزهم، أو قراهم، التي هي خارج مناطقنا الآمنة وبعيدة عنا، فهذا ليس دفاعاً، حتى لو بررناه لأنفسنا، على أنه دفاع استباقي، على مبدأ الهجوم خير وسيلة للدفاع، لكن يبقى الهجوم على مراكزهم وقواعدهم التي هي ضمن مناطقنا الآمنة ومنها ينطلقون للعدوان علينا فلنا أن نخرجهم منها بالقتال إن رفضوا الخروج منها طواعية، ويكون قتالنا في هذه الحالة دفاعاً مشروعاً والله أعلم.
يمكن لكل حي أو بلدة تحديد هامش أو حمىً، لا تسمح لجيش النظام وعصاباته ومخابراته أن يجتازوه، وتقاتلهم إن اقتربوا منه، لكن لا ترسل المقاتلين لمهاجمة النظام ورجاله، طالما هم بعيدون عن هذا الحمى. أي يكون دخول الجيش وقوى الأمن والشبيحة ممنوعاً إلى مناطق الثوار، ولا يتم إلا على جثثهم، لكن للنظام ورجالاته أن يأمنوا على أنفسهم من أي عدوان من الثوار، طالما بقوا بعيدين، ولم يبادروا بالهجوم والاعتداء.
في الوقت ذاته تبقى مناطق الثوار تحت الإدارة المدنية للدولة، ويدخلها كل الموظفين الحكوميين، بما فيهم الشرطة والمباحث الجنائية وشرطة السير، وكل ما يلزم لاستمرار الحياة المدنية في تلك المناطق تحت حكم الدولة، أي لا نعلن تحرير مناطقنا ونرفع عليها أعلامنا، ونمنع كل من له صلة بالدولة والنظام من دخولها، فنحن صراعنا مع النظام، وليس مع الدولة، ونريد أن نطيح بالنظام، لا أن نطيح بالدولة في سورية.
نعلنها مناطق آمنة لكل السوريين، من الشعب بكافة أطيافه، أو من موظفي الدولة بكافة تخصصاتهم، إلا من جاء معتدياً على الأنفس والأموال والأعراض. نعلنها آمنة نخضع فيها لقوانين الدولة في كل شيء، إلا منها ما يمنعنا من المطالبة بالحرية والكرامة والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، ونبذل كل جهدنا لنوصل صوتنا وصورتنا إلى العالم أجمع، ولنفضح جرائم النظام على رؤوس الأشهاد، كي لا يبقى أحد من الناس مخدوعاً به. فنتمرد تمرداً سلمياً على النظام، المتمثل بقوى القمع والبطش، من مخابرات وشبيحة وفرق عسكرية، سواء منها من يوالي النظام بإرادته، ومن هو مغلوب على أمره ومُكْرَهٌ، لا يجرؤ على المخالفة والانشقاق، من مجندين إجباريين وغيرهم من العسكريين، الذين لا يرضيهم ما يؤمرون به من قتل للمطالبين بالحرية والديمقراطية.
ندافع عن أعراضنا وأموالنا وأنفسنا حتى الموت، لكننا لا نهاجم أحداً، ولا نغزوا أحداً في أماكن تواجده أو في قريته، حتى لو اعتدى علينا منهم من يرتكب المذابح ويغتصب النساء، فإننا ندافع ونقاتل بكل سلاح متاح، فإما أن نقتلهم وإما أن نقتل لنكون شهداء عند الله، لكننا لا ننتقم بأن نهاجم قراهم أو ثكناتهم، ولا نرتكب المذابح، ولا نعتدي عليهم وعلى أسرهم كما اعتدوا علينا. لقد أذن الله لنا بالدفاع عن أنفسنا وأعراضنا وأموالنا، ولم يأذن لنا أن نعامل أبناء وطننا بالمثل، أي بأن ننتقم ونثأر، فنهاجم ونقتل ونغتصب، حتى لو كان ذلك يشكل رادعاً لهم عن المزيد من العدوان علينا.
المعاملة بالمثل والمبادرة مشروعة عندما يكون عدونا دولة أخرى ونواجهه كدولة، أما عندما يتصارع فئات شعب واحد وأبناء أمة واحدة فليس مشروعاً لنا إلا الدفاع، بل إن وعد نبينا لنا أن من قتل دون عرضه أو ماله أو نفسه أو أهله فهو شهيد حض وحث وتحريض على الدفاع عن ذلك كله وبذل النفس في سبيله.
عندما وصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن الروم يعتزمون غزو المسلمين جهز جيش العسرة وسار بهم إلى تبوك يريد أن يلقى الروم في عقر دارهم، وهو يومها لم يجد ما يجهز به رجاله من عتاد وغذاء إلا القليل، لأنه علم أن الهجوم خير وسيلة للدفاع فبادر إليه، لكن ربنا حرم الاقتتال الداخلي ضمن المجتمع الواحد ولم يسمح به إلا للمدافع عن نفسه أو ماله أو عرضه أو أهله، ونحن نؤمن أن ربنا لم يشرع لنا من الدين إلا ما هو خير ومنفعة لنا ودفع للضر والشر، وحل الخلافات بالسلاح ضمن الأمة الواحدة يعني الحرب الأهلية التي يخسر فيها الجميع، حتى لو في نهايتها تغلبت فئة على فئة، فإن تغلبها يسبقه ضحايا عديدة جداً من الطرفين وتخسر الأمة ما كان يربط أبناءها بعضهم ببعض، فيتحولون إلى أعداء، ربما لأجيال إن لم يكن لقرون، ويكون الوضع الجديد فيه غالب ومغلوب، وقاهر ومقهور، وجبار ومكره، وظالم ومظلوم، فلا يكون هنالك سلام حقيقي، ولا يمكن أن تعود الأمة متماسكة كما كانت من قبل.
كل تحريم أو تحليل في دين الله هدفه المصلحة والمنفعة ودرء المفسدة، وليس تطبيقاً للمبادىء والقيم على حساب الناس وأرواحهم وأموالهم وأعراضهم. وتحريم الاقتتال بين مكونات الأمة الواحدة ليس من منطلق أنه لا يحل للمسلم أن يقاتل المسلم لأنهما مسلمان، فقد أحل الله للمسلم أن يقاتل المسلم عندما تبغي طائفة من المسلمين على طائفة أخرى، فأمر الله المسلمين كدولة وليس كأفراد، بمقاتلة البغاة حتى يفيئوا ويعودوا لأمر الله، لذا أتى الأمر بقتالهم مخاطباً المؤمنين كجماعة، وهذا يعني أن تكون لهم دولة، ويقومون بردع البغاة كدولة؛
أما كأفراد وجماعات ضمن الأمة الواحدة تريد أن تقاتل من يبغي، لتتحول القضية إلى حرب أهلية لا قواعد فيها للاشتباك، بل يقتل فيها المذنب والبريء، والكبير والصغير، والمرأة والرجل، ويكون فيها القتل على الهوية والانتماء العشائري والطائفي، فلا يحل ذلك حتى لو كانت فئة من المؤمنين قد بغت على غيرها من المؤمنين، نعم ندفع الصائل، ونرد المهاجم المعتدي، وندفع عن أنفسنا وأهلنا وأموالنا وأعراضنا، وفي الوقت نفسه نبقى متمسكين بالوسائل السلمية لحل الخلاف مع أبناء أمتنا وشركائنا في الوطن.
قد يقول قائل كلامك صحيح إن كان البغاة مؤمنين مثلنا، لكن إن كانوا كفاراً يؤلهون بشراً فالأمر يختلف! والحق أن الأمر لا يختلف، طالما كنا أبناء أمة واحدة، فحماية الأمة من الاقتتال الداخلي بين مكوناتها فيه المصلحة لهذه الأمة، سواء كانت كلها من المؤمنين، أو كانت أمة مختلطة فيها المؤمن والكافر، أو كانت أمة من الكفار، لأن تحريم لجوئهم إلى الاقتتال لحل خلافاتهم السياسية، فيه الخير لهم والمنفعة ودفع المفسدة، بغض النظر عن معتقداتهم، والتشريع الذي ينفع أمة مؤمنة، ينفع أمة كافرة إن هي أخذت به؛
وأعود إلى مثال ذكرته في مقالاتي السابقة وهو تحريم الإسلام للربا وفرضه للزكاة، وكيف لجأت أوربا وأمريكا في أزمتهم الاقتصادية الأخيرة إلى ما يشبههما، من أجل أن يتعافى اقتصادهم، إذاً تحريم الربا أو إلغاء الفوائد المصرفية بحكم القانون الوضعي، يفيد اقتصاد الأمة، بغض النظر عن معتقدات أفرادها، وكذلك ضخ الأموال في المجتمع للمحافظة على حد أدنى من القدرة الشرائية للناس، فلا تكسد البضائع وتفلس الشركات وتتفاقم الأزمة، وهو محاكاة للزكاة التي تضخ القليل من أموال الأغنياء في المجتمع بشل مستمر، ويكفي منها هذا القليل كإجراء وقائي استباقي.
كتب في 22/11/2012 وأضيفت له فقرة طويلة في 22/12/2012
ويتبع >>>>>: ثورة سلمية محمية3
واقرأ أيضاً:
الطائفية والثورة في سورية3 / الثورة السورية بين العنف واللاعنف5 / دولتنا المنشودة جمهورية سورية ديمقراطية تعددية4