على الرغم من النجاحات الباهرة التي حققتها المعارضة السورية في مجال العمل السياسي، بعزل النظام دبلوماسيا واقتصاديا، وفي مجال عملها العسكري، بتحرير معظم محافظات الشمال، والصمود في حمص وريفها، وضرب طوق محكم على قوات النظام في ريف دمشق ودرعا، فإن المعارضة لا زالت تواجه تحديات كبيرة وخيارات صعبة. استطاعت قوى الثورة من تخفيض القدرة القتالية للنظام بتحييد عدد كبير من الفرق والألوية التابعة للفيالق الثلاثة التي تشكل مجمل قوات الجيش السوري وحصر قوته الضاربة في حدود قوات النخبة وعصابات الشبيحة.
لكن غياب الدعم الدولي الحقيقي للمعارضة السورية ومحدودية الدعم الإقليمي أضعف قدرتها على الحسم وأخر تقدمها. من ناحية أخرى استطاع النظام، رغم انخفاض قدرة مقاتليه إلى 65 ألف جندي، من الحفاظ على قدرته على التحرك وضرب المناطق المحررة باعتماده على ولاء قوات النخبة التي تنتمي غالبتهم المطلقة إلى الطائفة العلوية، وعلى الدعم الكامل لحلفائه في طهران وموسكو.
المجتمع الدولي، الذي يمكن أن يلعب دورا حاسما في تقصير عمر الصراع العنيف في سورية، يبدو مترددا في القيام بعمل حاسم في صالح الثورة لأسباب عديدة. هذا التردد الدولي يصب في مصلحة النظام لأنه يعطي حلفاءه مساحة واسعة للتحرك لدعمه في حين يسعى “أصدقاء سورية” إلى تحجيم قدرة الثورة على التصدي للحملة العسكرية التي يقودها النظام. هذا يعني أن على قوى الثورة والمعارضة السورية أن يمسكوا بعصى المبادرة بأنفسهم، ويعملوا على شحذ قدراتهم الذاتية وتوظيفها في قلب موازين القوة في سورية.
الخيار الأمثل للمعارضة يتمثل في التحرك بالتوازي على الخطين السياسي والعسكري لحصار النظام والبناء على انجازات الثوار الميدانية لقلب المعادلة السياسية في سورية. المشكلة في اعتماد هذا الخيار تكمن في الاصطفافات السياسية داخل صفوف المعارضة، وغياب العمل الإداري والمؤسسي ضمن منظماتها من جهة، وحالة ضعف الثقة التي تغلب على التعاطي بين القوى السياسية والثورية. هذا يعني أن المعارضة مرغمة على المضي في الحل العسكري الذي اختاره النظام رغم التضحيات الباهظة الذي يتطلبه والزمن الطويل الذي يحتاجه.
نظام الأسد وحلفاؤه
اتبع نظام الأسد خلال السنتين الماضيتين مقاربة تقوم على أساس حل الأزمة السياسية عسكريا مع إظهار مرونة شكلية في التعاطي مع خصومه السياسيين من خلال دعواته المستمرة إلى الحوار للوصول إلى حل سلمي. وترك النظام لفريق صغير من المساعدين السياسيين مهمة التعاطي مع الملف السياسي للأزمة، والذي شكل وزير الخارجية وليد المعلم ونائبه مقداد ونائب رئيس الجمهورية فاروق الشرع ومبعوث النظام إلى الأمم المتحدة بشار الجعفري والمستشارة السياسية لرأس النظام بثينة شعبان ووزير الاعلام عمران الزعبي ووزير المصالحة الوطنية علي حيدر ونائب رئيس الوزراء قدري جميل أهم أسمائه المعروفة.
حاول بشار الأسد لفترة طويلة الظهور كوجه إصلاحي داخل النظام في السنة الأولى من الثورة من خلال الحديث عن سلة من الإصلاحات السياسية والدستورية، بدءا برفع حالة الطوارئ ومرورا بتعديل الدستور وانتهاء بتسمية حكومة تشارك فيها بعض قوى المعارضة الحليفة كالحزب القومي الاجتماعي السوري (علي حيدر) والحزب الشيوعي (جناح اللجنة الوطنية التي يرأسها قدري جميل).
كما حاول بشار الأسد خلال تصريحاته أن ينأى بنفسه عن القمع العنيف للانتفاضات الشعبية بإبداء شئ من المرونة الخارجية لأخفاء موقفه المتصلب تجاه المطالب الإصلاحية للثورة. بيد أن دور الأسد المحوري في أعمال العنف وإصراره على الحل العسكري بدأ يتوضح من خلال خطاباته للشعب السوري وتصريحات معاونيه غيرالمباشرة. فقد أظهرت تصريحات الرجل السياسي الثاني في النظام، فاروق الشرع، لجريدة الأخبار اللبناينة قبل أشهر قليلة إصرار الأسد على الحل العسكري ورفضه لأي حوار يجري قبل القضاء على الثورة. فالأسد لا يمكن أن يتجه نحو حل سياسي للأزمة لأن أي حل سيؤدي إلى إنهاء حكمه، وبالتالي إدانته وإدانة أسرته الكبيرة (آل الأسد ومخلوف) المتورطة بملفات فساد وإجرام متشعبة ومعقدة بعد اربعة عقود من الحكم خارج دائرة القانون.
التراجع العسكري للنظام
أدى الصراع العسكري المستمر منذ عام ونصف إلى تراجع قدرات الجيش السوري، نتيجة الانشاقات العسكرية والخسائر الميدانية. تقدر جاهزية الفيالق الثلاثة التي يتكون منها الجيش السوري بحدود 15 إلى 33%، كما يقدر عدد الجنود العاملة ضمن هذه الفيالق بحدود 27 ألفا وفق دراسة نشرها الشهر الماضي معهد دراسة الحرب الأمريكي.
لذلك يعتمد النظام بشكل أساسي على قوات النخبة والتي تشمل الفرقة الرابعة والحرس الجمهوري والقوات الخاصة ويبلغ تعدادها بحدود 26 ألف جندي . قوات النخبة هي أفضل قوات الجيش السوري تدريبا وتسليحا وتتألف من ألوية دبابات وألوية مؤللة بالإضافة إلى عدد قليل من أفواج المدفيعة والمشاة.
استراتيجية النظام كما هو واضح من تحركاته تهدف إلى تعزيز القوات المتواجدة في محافظتي حمص ودمشق. وتظهر مناطق عمليات جيش النظام الرئيسية والتي تمتد من درعا في الجنوب، عبر دمشق وريفها إلى حمص وريفها والقرى الواقعة إلى جنوب وغرب مدينة حماة. وعلى الأرجح فإن النظام يسعى إلى الحفاظ على هذه المناطق، حال عجزه عن استعادة المناطق الشمالية والشرقية، والانسحاب أخيرا إلى المنطقة الواقعة بين الساحل السوري إلى حمص وريفها في الوسط امتدادا إلى جنوب دمشق.
سياسة القمع الداخلي والمرونة الخارجية
لم يكن النظام مستعدا لتقديم أي تنازلات سياسية أو القيام بأي إصلاحات تؤثر على تماسك قاعدته السلطوية ذات الطبيعة الأمنية. ومنذ البداية سعى إلى قمع الثورة والقضاء عليها من خلال العمليات العسكرية. شدد النظام في البداية على أن الانتفاضة ضده ذات طبيعة إعلامية متهمها بتبعيتها إلى الخارج وانضوائها ضمن “مؤامرة دولية” تعمل على إضعافه لمواقفه الداعمة للحق الفلسطيني.
ومع اتساع نطاق العمليات العسكرية استمر النظام في جهوده لكسب تأييد وطني وعالمي وذلك من خلال تقديم نفسه ضامنا للتنوع الديني والعرقي، ومدافعا عن العلمانية ضد هجمات متطرفين دينيين يسعون إلى إقامة دولة دينية وفرض رؤيتهم الضيقة على البلاد. كما سعى النظام إلى تقديم الثورة على أنها عمليات فوضوية لا تحمل مشروعا سياسيا بل تسعى إلى صوملة سورية وتقسيمها إلى إمارات سلفية.
التحولات على الأرض واتساع نطاق العمليات العسكرية ضده، وخروج أقسام كبيرة من الأرض السورية من سيطرته أضعفت النظام سياسيا عند الأغلبية السورية، لذلك فإنه عمل على نقل دائرة اهتمامه إلى الأقليات الدينية عموما والطائفة العلوية على وجه الخصوص. النظام لا زال يتمتع بتأييد واسع داخل الطائفة العلوية، وتأييد حذر ضمن الأقلية المسيحية والأقليات الدينية الأخرى.
هذا التأييد الحذر نابع من المخاوف من الخطاب الديني للثورة السورية، خاصة في جناحها العسكري، وخشية هذه الأقليات من قيام نظام ديني على أنقاض النظام الأسدي يحرم هذه الأقليات من حرياتها، ويسعى إلى إقصائها سياسيا واجتماعيا واقتصاديا. العنصر المهم هنا تعدد الخطابات ضمن الدوائر الثورية ووجود خطاب ديني ضيق داخل صفوف الثورة من جهة، والحملات الإعلامية السورية والتي يعززها إعلام غربي يحاكي النظام السورية في سرديته حول طبيعة الثورة ومآلها.
عسكرة الثورة والعفوية الميدانية
ثمة تغيير واضح في موازين القوى بين قوى الثورة وقوى النظام. فبعد عامين من الصراع وتحول الثورة إلى صراع عسكري، اكتسب الثوار قدرات جديدة مكنتهم من قلب موازين القوى. تحقيق الثورة انتصارات كبيرة في الشمال لم تقضي على ترسانة الأسلحة التي يملكها النظام، وهو لا زال يتمتع بقدرة ضاربة يستخدمها لمعاقبة المدن والقرى التي تحتضن الثوار. ورغم انتصارات الثوار المستمرة، والانقلاب المتتابع في موازين القوى لصالح الثوار، فإن نهاية الصراع وأمده لا زالا مجهولين. وثمة مؤشرات عسكرية وسياسية على أن أمد هذا الصراع قد يمتد لسنوات، ما لم يتحرك الجيش الحر وفق خطة واضحة وتنسيق أعلى.
تراجعت خلال السنة والنصف الماضية الثورة السلمية تراجعا ملحوظا لتعطي مكانها لكتائب مسلحة تعمل منفردة أو ضمن تحالفات طوعية. واستطاعت كتائب الثورة التي انضوت تحت عنوان عريض اسمه الجيش الحر من بناء قواتها والتي اكتسبت خبرة عملية من خلال مقارعة كتائب النظام. مع نهاية عام 2012 ومطلع عام 2013 تمكن الجيش الحر من السيطرة على معظم المراكز السكانية في محافظات دير الزور وحلب وإدلب وريف حماة الشمالي وريف حمص الواقع بين مدينة حمص وحماة، بما فيها بلدتي الرستن وتلبيسة. النظام رد على انتصارات الثوار المبكرة في مدينة حمص التي شهدت ولادة أولى كتائب الجيش الحر، كتيبة الفاروق، بتعزيز قواته في المنطقة ومحاصرة المدينة، حيث أرسل تعزيزات من ألوية وأفواج الفرقة الرابعة والحرس الجمهوري.
وعلى الرغم من البطولات الكبيرة والتطور الواضح في قدرة كتائب الثوار، فإن هذه القوات تعاني نقصا كبيرا في التسليح، خاصة الأسلحة النوعية الضرورية لمواجهة كتائب الجيش السوري عالية التسليح، كما تعاني أيضا من تشرذم كبير في صفوفها وضعف مستوى التنسيق بينها ووجود تنافس يمنعها من التحرك كقوة عسكرية واحدة.
استطاعت كتائب الجيش الحر رغم ضعف تسليحها وعجزها عن التنسيق الواسع فيما بينها من السيطرة على العديد من المواقع العسكرية المهمة، والتي تشمل مطارات وثكنات عسكرية، إضافة إلى المراكز السكانية. ولكنها مع ذلك لم تستطع بسط سيطرتها على عدد كبير من مراكز النظام في هاتين المحافظتين، ومنها مدينة أدلب وقاعدة مسومة وجسر الشغور وقاعدة وادي ضيف والضواحي الشمالية والغربية من مدينة حلب.
النظام بدأ مؤخرا باتباع مقاربة جديدة في التعامل مع الشمال تتمثل بالحفاظ على قواعده العسكرية والجوية البعيدة عن مراكز التجمع السكاني وضرب التجمعات السكانية بالطيران والصواريخ الاندفاعية المتوسطة والبعيدة المدى. النظام الذي لا يكترث كثيرا للمدنيين في المدن السورية يسعى من خلال ضرباته هذه إلى حرمان قوى المعارضة من مراكز آمنة والضغط على الحاضنة السكانية التي تعيش ظروفا صعبة جدا.
الصعوبات التي تواجه المعارضة في حمص ودمشق أكبر بكثير من تلك التي واجهتها في الشمال. فنصف الجيش السوري متمركز في دمشق والثلث الآخر في حمص. وستة من مجموع 14 فرقة يملكها الجيش السوري تتمركز في محافظتي دمشق وريف دمشق، بينما تتمركز فرقتين في محافظة حمص، الفرقة 11 المتمركزة أصلا في حمص والفرقة 18 التي أحضرت من حلب، إضافة إلى بعض الكتائب التي دفعت من محافظة دمشق. بينما تتوزع بقية الفرق الخمسة المتبقية على باقي المحافظات.
تحديات أمام المعارضة السياسية
تعاني المعارضة من تحديات عديدة، لعل أهمها الفصام المتزايد بين المعارضة السياسية في الخارج والقوى الثورة في الداخل، وعجز الأولى عن تقديم مساعدات تتساوى مع حجم احتياجات وتوقعات الثوار والمدنيين في المناطق المحررة. كما تعاني من الانقسام بين الأطياف السياسية المختلفة، والصراع العلني والخفي بين أصحاب الطموح السياسي لشغل موقع سياسي متقدم. كل هذا يجري في سياق ثقافة سياسية تشكلت في فترة تصحر سياسي وغياب القواعد الشعبية، وتحول العمل السياسي إلى صراع نخبوي. هذا الرصيد السياسي لا زال يتحكم في سلوك المعارضة ويحول بينها وبين اتخاذ مواقف متقاربة أو رفع مستوى التنسيق فيما بينها.
قوى المعارضة التي يمثلها الائتلاف الوطني والمجلس الوطني تتماهى في مواقفها مع نبض الحراك الشعبي، ولكنها في سعيها لتقمص دور الوسيط بين الحراك الثوري الداخلي والعالم الخارجي عجزت عن القيام بواجب القيادة السياسية للثورة. فلم تطور المعارضة هيكلية واضحة للتنسيق السياسي والتشاور حول التطورات العسكرية، مما ولد حالة انفصام بين الثوري والسياسي في حياة المعارضة. ويتضح هذا الفصام في غياب الآليات العملية والإجراءات الرسمية للتشاور والتكامل، وفي أن معارضة الخارج لا تمارس العمل السياسي بل تكتفي بالتأكيد نظريا على مطالب الثورة.
العمل السياسي يحتاج إلى حنكة وإلى مهارة في التعاطي مع خصم يجيد المكر والخداع، وهذا بدوره يتطلب إظهار تناقضات الخصوم وفضح مكرهم. وبالتأكيد لا يمكن فعل ذلك فقط بالتشديد على الحقوق والتنديد بالآخر. القيادة السياسية تحتاج إلى العمل بذكاء لتقديم حلول للمشكلات ناجعة، أو لإخلال توازن الخصم وإفشال مكره، والعمل لتغيير وجهة الحراك السياسي عندما تصل الأمور إلى طريق مسدود، وهذا يتطلب مبادرات سياسية.
الصراع السياسي سجال ويتطلب شيئا من الدهاء والمرونه من قبل من يديره، كما يحتاج قبل هذا وذاك إلى مبادرات. القيادات السياسية تحتاج إلى الاهتمام بهذا الجانب وتطوير مبادرات توظف الانجازات العسكرية للثوار لتحقيق تقدم سياسي، والمساعدة على تجاوز التحديات والاستفادة من الفرص المتاحة. والمعارضة تحتاج أيضا إلى التحرك السياسي لفضح كذب الخصوم أمام الرأي العام الذي تغيب عنه تفاصيل الصراع، وإلى إحراج “الأصدقاء” الذي يؤكدون الدعم قولا ويمنعونه فعلا. القيادة السياسية يجب أن تقود ولا تكتفي بالتحسر والتنديد والتظلم. القيادة السياسية مطالبة بإيجاد الطرق لمتابعة الدعم حتى ولو اضطرها الأمر أن تلجا هي إلى الحنكة والتدبير لإحراج الخصوم.
داخليا لم تطور المعارضة خططا وفرق عمل للتعاطي مع ملفات هامة لعزل النظام عن قاعدته الشعبية، مثل ملف الأقليات الدينية والطائفية. كما لم على تقديم الاستشارات والبرامج التدريبية للقيادات الثورية. وثمة شعور متزايد لدى شرائح من الحاضنة الاجتماعية للثورة بوجود ممارسات سياسية وإدارية وأمنية شبيهة بتلك التي التصقت بنظام البعث.
على الصعيد الميداني، تواجه المعارضة تحديات كبيرة في إدارة المناطق المحررة وحفظ الأمن فيها وحمايتها من غارات جيش النظام البرية والجوية. غياب نظام إداري بديل عن النظام السابق، وعدم توفر الدعم المالي أدى إلى تراجع كبير في مستوى الحياة ونزوح جماعي واسع، خاصة في محافظات حلب وأدلب وحمص ودرعا وريف دمشق. والهجوم المحتمل على قلب العاصمة السورية قد يزيد من حجم المعاناة في غياب خطة متكاملة تسمح بالاحتفاظ بالأحياء وحمايتها، وهي مهمة لا زالت فوق أمكانيات كتائب الجيش الحر.
الموقف الدولي والإقليمي
الموقف الدولي من الصراع السوري لا زال مضطربا، واستمرار الصراع على مدى عامين دون اتخاذ إجراءات حاسمة تثير الكثير من القلق والتساؤلات على جدية المجتمع الدولي في التعاطي مع الملف السوري بصورة تنهي حمام الدم وتضع حدا لتجاوزات تصل إلى مستوى جرائم ضد الإنسانية.
الدول الكبرى المؤثرة في الحالة السورية هي روسيا وأمريكا وفرنسا وبريطانيا، ويبدو أنها ولأسباب ترتبط بالتوازنات الدولية تعطي روسيا دورا قياديا في التأثير في الحالة السورية. في حسابات الجغرافيا السياسية الدولية، تتموضع سورية داخل دائرة نفوذ روسيا، وريثة الامبراطورية السوفياتي. التقارب السياسي والاقتصادي والثقافي والعسكري بين الدولتين معروف، والغرب لا يريد تحدي روسيا في مكان نفوذها في منطقة الشرق الأوسط. هذه على الأقل الصورة الخارجية التي تشكل بالتأكيد عنصرا مهما في الحسابات الغربية.
لكن العنصر الآخر والأكثر أهمية هو ما يبدو للغرب بأنه نفس إسلامي للثورة، والرمزية الإسلامية التي لا تخفى على أي مراقب خارجي. التكبير وأسماء الكتائب وأسماء الجمع. هذه الرمزية الإسلامية تؤثر على الموقف الغربي بصورة مباشرة كما تؤثر عبر مخاوف الأقليات، وخاصة الأقلية المسيحية داخل سورية. فالعديد من رؤوساء الكنائس في سورية، وخاصة الكنيسة الأرثودكسية أكبر الكنائس في سورية والتي يتبعها غالب المسيحيين السوريين، لا زالوا يصطفون مع النظام السوري ويحذرون الشرق والغرب من دعم الثورة.
يبدو أنه بعد مرور سنتين وفشل الجهود الدولية للوصول إلى حل سلمي، لعل أهمها مبادرة كوفي عنان التي أفشلها النظام، ثمة تلاقي بين الدول الغربية وروسيا حول اتفاقية جنيف. الخلاف حول الاتفاقية التي أيدتها روسيا والولايات المتحدة كان حول مسألة تنحي الأسد عن الحكم التي عارضتها القيادة الروسية وأيدتها الولايات المتحدة. الدبلوماسية الأمريكية تقترب اليوم أكثر من الموقف الروسي وتسعى بعد تسلم جون كيري حقيبة الخارجية إلى الضغط باتجاه تشكيل حكومة يتم تسميتها من قبل كل من المعارضة والنظام وتتمتع بصلاحيات تنفيذية كاملة دون التشديد على تنحي الأسد.
اتفاق جنيف وفق التفسير الروسي رُفض دون مناقشة من قبل المعارضة لأنه يبقي على بشار الأسد في السلطة. فبقاء الأسد في موقعه بعد ارتكابه جرائم ضد الإنسانية مسؤوليته عن مقتل عشرات الآلاف من السوريين مرفوض لقوى المعارضة السورية. طبعا هناك مسألة الموازنة بين تحقيق العدل والقصاص العادل عن الإجرام من جهة وإمكانية وقوع عشرات آلاف أخرى من الشهداء نتيجة استمرار القتال إلى سنوات أخرى. وهذا موضوع يحتاج إلى نقاش هادئ بين القوى الفاعلة داخل المعارضة بعيدا عن الحماس والعواطف، ولكن المضي فيه سيتطلب استعدادا واضحا لتخلي رموز النظام الأسدي وقياداته عن الحكم، وهو أمر مستبعد كليا في الوقت الراهن.
ثمة أسئلة كثيرة أخرى—حتى لو تم تجاوز هذه العقدة الكبيرة التي لها دلالات نفسية ووطنية لا يمكن الاستهانة بها—حول إمكانية قيام الحل السياسي إذا بقي الأسد في السلطة: ماذا سيحدث للقادة العسكريين والأمنيين الذين يتحكمون في القرار السياسي ويلجؤون إلى الاغتيال والاعتقال لخصوم النظام السياسيين؟ كيف يمكن للحكومة ممارسة كامل السلطات التنفيذية بوجود القوى المسؤولة عن تطبيق القرارات وتوفير الأمن على رأس عملها؟ ومن سيضمن تقيد النظام بقرارات الحكومة؟ ومن سيتولى المناصب السيادية وهل سيسمح النظام بنقل هذه المناصب إلى المعارضة؟ وهذه وأسئلة أخرى كثيرة تجعل فكرة قيام حكومة تتمتع بسلطة تنفيذية مع بقاء النظام مسالة عبثية سيتخدمها النظام لإعادة فرض سلطته بعد تفريغ المعارضة من قدارتها على التأثير.
إصرار المعارضة على تنحي الأسد، والذي سيعني باعتبار موقف النظام المزيد من المجازر واستمرار استهداف المناطق المحررة، سيفرض على المجتمع الدولي مسؤولية تسليح المعارضة بالقدر الكافي من السلاح لتغيير موازين القوى على الأرض لإجبار الأسد ونظامه إعادة النظر في موقفه.
القوى الإقليمية تنقسم بين مؤيد للنظام ومؤيد للمعارضة. حيث تقف إيران وحلفاؤها في العراق ولبنان إلى جانب النظام وتقف تركيا وقطر والسعودية في صف المعارضة. في حين تقف الأردن ومصر في موقع متوسط بين الموقعين. الموقف الإيراني الداعم للنظام يستند على المشروع الإيراني في المنطقة ذي الأبعاد الطائفية العقدية، وبالطبع القائم على تبريرات سياسية تتعلق بالأمن القومي لإيران ضد الأطماع الغربية والخطر الإسرائيلي.
قدرة إيران على دعم النظام لن تتجاوز، رغم كل البيانات والمواقف الإعلامية، توفير الاستشارة العسكرية والسياسية من جهة، وتقديم مساعدات عسكرية وعينية محدودة عبر حلفاء إيران في العراق ولبنان. جملة من المعطيات العملية والجيوستراتيجية تمنع إيران من تقديم مساعدات رئيسية مالية وعسكرية، وفي مقدمتها الوضع الاقتصادي المتردي في إيران. وهي نفس المعطيات التي تمنع حلفاءها في العراق ولبنان من المشاركة الواسعة في الصراع الداخلي السوري.
الدول الإقليمية المؤيدة للثورة السورية محكومة إلى حد كبير بالقيود الناجمة عن تحالفاتها العسكرية والاقتصادية والسياسية مع الولايات المتحدة. استطاعت هذه الدول، وبشكل خاص تركيا وقطر والسعودية من إقناع حليفها الأمريكي بتزويد الثورة بأسلحة خفيفة ومتوسطة، لكن الأمريكيين لا زالوا معارضين لإدخال أي سلاح ثقيل، خاصة المضادات الجوية، إلى القوى الثورية مخافة وقوعها في أيدي قوى إسلامية معادية للولايات المتحدة، خاصة وأن أمريكا تعتبر جبهة النصرة منظمة ارهابية.
خيارات المعارضة
استعراض الوضع الداخلي والدولي الحالي المتعلق بالصراع في سورية وعلى سورية يرسم لنا عددا من الخطوط العامة للحالة السورية يمكن إيجازها بالآتي:
- إن الأسد ونظامه لا يمكن أن يتناغموا بأي حال مع الحل السياسي، وقبولهم بحل سياسي نتيجة الضغوط لن يعني قبولهم للحل السياسي. ولن يقبل الحل السياسي كذلك قادة القوى السياسية المتحالفة حاليا مع النظام وفي مقدمتها الحزب القومي السوري واللجنة الوطنية للقوى الشيوعية.
- المعارك العسكري أدت إلى إضعاف الفيالق الثلاثة للجيش السوري وإخراجها عمليا من الصراع العسكري. ولكن قوات النخبة ذات الأغلبية العلوية والمتمثلة بالفرقة الرابعة والحرس الجمهوري والقوات الخاصة لا زالت تحتفظ بمعظم قدراتها العسكرية.
- تتمركز معظم قوات الأسد في المنطقة الواقعة بين الكسوة جنوب دمشق ومدينة حمص. وهذا يؤكد أن الجيش ليس بصدد نقل قطعاته في المدى المنظور إلى الساحل السوري، وأنه يستعد لخوض معركة الحسم في جنوب ووسط سورية.
- أداء المعارضة على متسوى تطوير تفاهمات مع “أصدقاء سورية” ضعيف جدا لغياب الرسالة الواضحة وعدم وجود أقنية نظامية للتواصل الدوري. ثمة حاجة إلى تطوير رسالة واضحة تتعلق بأولويات الثورة والمعارضة وتفعيل العمل الدبلوماسي لإيصال هذ الرسالة للحلفاء والخصوم.
- غياب التنسيق والتخطيط والتنظيم عن تحركات المعارضة يولد مناطق ضعف واضحة لأداء المعارضة ويمنع الثورة من تحقيق انجازات أسرع وأوسع.
- الموقف الدولي متردد لأسباب تتعلق بعدم وضوح هوية السطلة السياسية بعد سقوط الأسد، والسمة الإسلامية التي تطبع الحراك الثوري والكتائب المقاتلة . والغرب يخشى من تغيير موازين القوى في المشرق العربي.
المؤشرات السابقة تؤكد أن المعركة مع النظام قد تستمر طويلا ما لم يتم تغيير التوازنات الداخلية والخارجية بصورة واضحة ومؤثرة. فالنظام يتلقى دعما أساسيا ومهما من حلفائه في طهران وموسكو. الدعم يتحدد في مجمله بتوفير السلاح والاستشارات والمساعدات الفنية والعينية، ولكنه قد يكون كافيا لإبقاء النظام فترة طويلة خاصة وأنه يتحرك بصورة متزايدة وفق خطوط طائفية، ويركز اهتمامه على المناطق ذات الولاء الكامل، غير آبه بتردي الحالة المعيشية في المناطق الخارجة عن سيطرته. ومن المفيد أن نلاحظ هنا أن المساعدات العسكرية لن تتعدى على الأرجح الإطار المذكور آنفا نظرا لتداعيات دخول إمدادات بشرية من حلفائه في العراق ولبنان على تصعيد الصراع الطائفي في المنطقة برمتها.
الاعتماد الكلي على الحل العسكري من جانب الثوار سيتطلب سنوات عديدة وخسائر جسيمة وسيحول الصراع بالتأكيد إلى صراع طائفي مدمر، وهو خيار ينطوي على مجازفة كبيرة ما لم يتغير الحراك الداخلي والخارجي. تقصير أمد الصراع يتطلب كذلك عملا مؤسساتيا بعيدا عن روح الاصطفافات الحزبية والفئوية الغالبة اليوم على قوى المعارضة، كما سيتطلب تغييرا واضحا في التنظيم الإداري والعمل التخطيطي، وتطوير أقنية افضل للتعاون والتواصل داخل المنظمات السياسية والعسكرية، وبين الجناحين السياسي والعسكري.
ثمة خيار ثالث أمام المعارضة هو الأفضل نظريا والأصعب عمليا ويتحدد بالتحرك سياسيا بالتوازي مع التحرك العسكري وتوظيف كل منهما لدعم الآخر. ويتعلق هذا الخيار بالدخول في تفاوض مع راعيا اتفاق جنيف وذلك لإيجاد المناخ السياسي والعسكري لتحقيق النقلة السياسية. وهذا سيحتاج إلى فريق تفاوضي بارع، قادر على الدفع نحو توليد شروط تنفيذية وإجرائية تعمل على تحييد وتفكيك قوات النخبة المشكلة لحماية النظام والجيش، وتوفير الشروط لتحرير المؤسسات المدنية من تدخل الأجهزة الأمنية. ذلك أن أي انفتاح سياسي وتحجيم للدور العسكري سيؤدي بالضرورة إلى تقوية قوى الثورة وتفكيك مكونات النظام الاستبدادي. المشكلة في هذا الخيار هو أن تركيب المعارضة وبنيتها الحالية، وغياب الانضباط المؤسسي لا يسمح بالسير مباشرة وفق هذا الخيار. بل سيجتاج إلى عملية مأسسة واسعة، تتضمن بناء الثقة بين أطراف المعارضة عبر إشركها بصورة فعلية وحقيقية في أعمال الائتلاف التنفيذية.
ظهرت هذه المقالة في المنشورات الآتية:
كلنا شركاء في الوطن
الشبكة العربية العالمية
واقرأ أيضاً:
المواكبة والحياة!! / الانتحار الديمقراطي!! / الرعيب العربي!! / الرسوب الديمقراطي!!