حالة التدفق: المفهوم، الأبعاد، والقياس2
(2) ماهية حالة التدفق:
(2-1) التأصيل اللغوي لمفهوم حالة التدفق:
أطلق مصطلح التدفق على الخبرة التي يصفها ميهالي تسيكزنتميهالي بسبب أنه أثناء مقابلاته الشخصية للعديد من الناس سنة 1975 لم يجد وصفًا أقرب للتعبير عن ما عبر عنه هؤلاء الناس إلى تشبيهه بتيار الماء الذي يحملهم في مساره. والمفهوم السيكولوجي للتدفق كاندماج في نشاط بناء على ذلك لا يرتبط بالمعنى القديم للعبارة "يذهب مع التيار go with the flow" والذي يعني المسايرة أو الانصياع to conform.
وربما يمكن تلمس مضامين التعريف اللغوي هذا بالنسبة لحالة التدفق التي يتعايش معها الإنسان من خلال تأكيد ميهالي تشكزينتهيمالي سيكسزنتميهالي تشكزينتهيمالي على فكرة الأسر التي يجد فيها المرء نفسه عندما يندمج بصورة تامة في المهام أو الأعمال والأنشطة التي يقوم بها كأني به منقاد تمامًا لها سائرًا في تيارها الرئيسي ولكن بحالة من الوعي والتفهم والاستمتاع.
(2-2) التأصيل الاصطلاحي لمفهوم حالة التدفق:
صيغ مصطلح التدفق للمرة الأولى على يد ميهالي تشكزينتهيمالي تشكزنتميهالي تشكزينتهيمالي (1975) باعتباره "إحساس [إحساسات] كلية يشعر بها الناس عندما يتصرفون باندماج تام مع العمل أو المهمة التي يقومون بها" (Csikszentmihalyi,1975,P.36).
ثم أعاد ميهالي تشكزنتميهالي (1990) وصف حالة التدفق بأنها : "حالة يجد فيها المرء نفسه مندمجًا بصورة تامة في النشاط أو العمل الذي يقوم به مع تجاهل تام لأي أنشطة أو مهام أخرى؛ مع تحقق حالة من الاستمتاع الشخصي يخبره المرء لمجرد القيام بالفعل أو العمل أو أداء المهمة لذاتها والاستعداد للتضحية وبذل كل المجهود وتكريس كل الوقت لإنجاز هذه المهمة" (Csikszentmihalyi,1990,P.4).
بينما يعرف ميهالي تشكزنتميهالي (1995) حالة التدفق "أن يكون المرء مندمجًا أو مستغرقًا بصورة تامة في نشاط ما من أجل ذلك النشاط في ذاته، وهي حالة ينسي فيها المرء ذاته، ويتطاير الزمن من بين يديه دون شعور منه به، ويحدث تتالي أو تدفق تلقائي لكل فعل وكل حركة وكل تفكير في وحدة مسار كأن المرء يعزف مقطوعة موسيقية، وبالتالي هي حالة تستولي على المرء بكافة منظومات شخصيته، وتدفعه إلى أن يوظف كل قدراته وإمكانياته ومهاراته إلى أقصى حد ممكن، وهي بهذا المعنى أعلى تجليات الظاهرة الإبداعية“.(Mihaly Csikszentmihalyi, 1995)
ويطرح ميهالي تشكزنتميهالي (1996) تعريفًا آخرًا لحالة التدفق يربطه بما يعرف التوازن بين مستوى قدرات ومهارات الفرد وطبيعة المهام والتحديات التي يوجهها، وذلك بقوله أن "التدفق حالة من التركيز العميق تحدث عندما يندمج الناس في التعامل مع مهام تتطلب تركيز شديدًا ومثابرة ومواصلة بذل الجهد. وهذه الحالة المثلى تحقق أيضًا عندما يكون مستوى قدرات ومهارات الفرد في حالة من التوازن التام مع مستوى التحدي أو الصعوبة المرتبطة المهمة خاصة المهام ذات الأهداف المحددة والتي تقدم تغذية راجعة فورية" 9(Csikszentmihalyi,1996).
ويربط تشكزنتميهالي تشكزينتهيمالي (1997) بين حالة التدفق وما يسميه بالخبرة المثلى Optimal Experience؛ لكونها تحقق للفرد إحساسًا بأن قدراته ومهاراته مناسبة لتمكينه من مواجهة التحديات والمصاعب التي يواجهها في إطار عام من التوجه لتحقيق هدف ينظم أفعاله ويوجهها توجيهًا صحيحًا يجعله يجود من أداءاته بصورة تلقائية وبحالة تركيز انتباه لا تجعل بمقدوره إعارة أي شيء آخر أي انتباه مع غياب تام للوعي بالذات ودون اقتران هذه الحالة بأية مخاوف أو صيغ قلق 10(Csikszentmihalyi,1997).
|
إطار شارح رقم (1) تعريف مفهوم التدفق |
والتدفق على هذا النحو من المفاهيم المهمة في علم النفس الإيجابي: "ومفهوم التدفق" صاغه ميهالي تشكزينتهيمالي، من خلال دراساته لكل ما يمكن أن يؤدي بالبشر إلى المتعة أو البهجة. فقد اكتشف أن الناس من كل الأعمار، الجنسيات، والاهتمامات يقرون باندماجهم في أنشطة بطريقة متشابهة. ويحدث التدفق باختصار، عندما نصبح مستغرقون تمامًا في نشاط نفقد معه إحساسنا بذاتنا ويتغير أيضًا إحساسنا بالوقت.
وعندما نكون حرفيون أو روتينيون غالبًا ما لا نشعر بالسعادة، بل قد لا نشعر بأي شيء على الإطلاق. ولكن باندماجنا في أنشطة حياتية مبهجة يتولد لدينا إحساسًا قويًا بالرضا مما يسهم في تعظيم إحساسنا بالسعادة وبجودة حياتنا النفسية.
والأنشطة التي تدفعنا باتجاه التدفق والحيوية متنوعة وكثيرة. فقد تكون قراءة كتاب، ممارسة الألعاب الرياضية، أو مجرد التحدث مع صديق. وبصفة عامة ربما يكون التدفق شيئًا عسيرًا في بعض الحالات. وربما يخبر الكثير من الناس التدفق بسهولة في المنافسات الرياضية التي يكون فيها عنصر التحدي بارزًا والتي يكون علة الدافعية لقبول التحدي فيها داخلية.
وللتدفق جانب آخر يتمثل كما أشير في الفقرة السابقة في المكافأة الداخلية وبالتالي الدافعية الذاتية. وربما نندمج في نشاط ما لأنه عملنا الذي يتعين علينا القيام ونؤجر عليه، ومع ذلك لو عظمنا طاقة التدفق لدينا وصرفناها في نشاط مبهج سنكون مندمجون في عملنا حتى وإن لم نؤجر أو نتحصل على مقابل مادي له.
ويعتقد ميهالي تشكزينتهيمالي (1992) أنه من السهل جدًا بالنسبة للدماغ البشري أن يكون سلبيًا (بمعنى الانتباه الزائد والانشغال الكبير في معالجة الأحداث السلبية التي تتضمن المخاطر أو احتمالات التهديد وبالتالي التركيز على الانفعالات والمشاعر السلبية) وفوضويًا، وبالنسبة للبشر عادة ما ترتد هذه السلبية علينا من خلال فرض أهداف محددة علينا، الانتباه التام لحالاتنا الشعورية السلبية، وفقد الإحساس بالذات، والتدفق لا يسمح لنا فقط بإرجاء أو تأجيل انشغالاتنا الزائدة بالمشاعر السلبية ومصادر التهديد، بل يجعلنا أكثر قدرة على تأسيس نظام مرن وواضح ودفعنا باتجاه التطور وتنمية أنفسنا كأفراد.
وطرح مصطلح "التدفق Flow " بصورة موسعة في محاضرة عامة ألقاها ميهالي تشكزينتهيمالي في مدينة سيدني في السابع عشر من مارس سنة 1999 أشرف على تنظيمها كلية السياحة بجامعة سيدني.
افتتح ميهالي تشكزينتهيمالي هذه المحاضرة بالتحدث عن اسمه الغريب نسبيًا مشيرًا إلى أصوله أو جذوره المجرية. ولاحظ أثناء التحدث عن جذوره أن واحدة من أهم اللحظات التاريخية في حياته كانت وعمره العاشرة وسنة 1945 على وجه التحديد عندما حدث انقلاب في المجتمع المجري وأصبح معظم الراشدين الذين كانوا محل تقدير واحترام مستبعدون ومهمشون وفقدوا مكاناتهم الاجتماعية والدعم المالي.
واعترف بأنه على الرغم من أنه لم يكتشف العوامل التي أدت إلى تماسك بعض الشباب وعدم انهيارهم، إلا أنه وضع هدفًا أصيلاً لنفسه سيطر على تكوينه النفسي يتمثل في محاولة طريقة للعيش حياة إنسانية سعيدة.
فسعى إلى تلمس إجابات كثيرة عن السؤال الخاص: ما الحياة السعيدة؟ من مجالات كثيرة منفصلة: الفن، الدين، والرياضة، ومن الماضي والحاضر فوجد نفسه أمام إجابات كثيرة جدًا. وشعر بالحاجة الماسة إلى ضرورة إعادة صياغة وتشكيل هذه الإجابات إلا أنه أشار بوضوح إلى هذه الإجابات تتغير على الأقل كل جيلين.
كما أشار بوضوح إلى أن الكثير من الناس لا يعرفون ما الذي يمكن فعله للحياة حياة سعيدة؟ وكان السؤال الرئيسي الذي يحاول ميهالي تشكزينتهيمالي الإجابة عنه: كيف نعيش الحياة كعمل فن، بدلاً من الاستجابة العشوائية للأحداث الخارجية؟" فبدأ ميهالي تشكزينتهيمالي بدراسة حياة الفنانين، أو من اعتقد أنهم توصلوا إلى خلق معنى للحياة. فوجد أن الكثير منهم يتصور أن السعادة الحقيقية تتمثل في حالة الصفاء والسكينة المرتبطة بالنشوة والابتهاج والإحساس بالتحرر من قيود المثيرات والأحداث الخارجية.
وأكد ميهالي تشكزينتهيمالي على وجود قيود أو عقبات تحول دون استمتاع البشر بالحياة من أهمهما الانشغال التام بالخوف من تقييمات الآخرين ومن أحكام الآخرين. وأشار إلى أن الإحساس بالنشوة والابتهاج Ecstasy يتضمن تجاوز ضوابط أو قيود الأنا أي التحرر النسبي من قيود أنا الإنسان، إضافة إلى تجاوز روتين الحياة اليومية العادية مما يتطلب ولولوج طرق حياة متنوعة وأنشطة حياة ثرية.
ويوضح ميهالي تشكزينتهيمالي ما يقصده بالضبط بخبرة التدفق من خلال مجموعة من المخططات التوضيحية كما تبين الأشكال التالية
|
شكل رقم (2) |
ويلخص ميهالي تشكزينتهيمالي في الشكل التالي نتائج البحوث الميدانية وفقًا للمشاعر الأساسية التي تنتاب البشر حسب التفاعل بين المهارات والتحديات أثناء التفاعل أو أداء أنشطة حياتية متنوعة.
|
شكل رقم (3) |
هل يمكن أن تصبح المدرسة/العمل/الحياة الأسرية خبرة تدفق؟
ركز ميهالي تشكزينتهيمالي بصورة كبيرة في دراساته وبحوثه على بعد الحياة المنزلية. وحرك فعاليات بحوثه اعتقاده بأن البشر لا يعرفون كيفية الاستفادة من أو توظيف أوقات فراغهم.
واستخدم ميهالي تشكزينتهيمالي نفس الشكل التوضيحي الموضح في الشكل رقم (4) لتفصيل أنشطة الحياة المنزلية.
|
شكل رقم (4) |
لماذا يواجه معظم الناس صعوبات في توجيه أنفسهم نحو أنشطة تجلب لهم الرضا والسعادة، ويفضلون على ذلك الجلوس والخمول والبلادة أمام التليفزيون؟، يوجد بطبيعة الحال حاجة ماسة للتغلب على المقاومة المبدئية لفعل أنشطة أخرى أكثر فعالية.
وبالتالي يمكن تلخيص أهمية حالة التدفق في النقاط التالية:
(1) يمحنا فرصة لضبط وتنظيم أو السيطرة على وعينا أو شعورنا.
(2) يسمح لنا بالتطور والازدهار كأفراد.
(3) يمكننا من تشييد أو بناء رأسمالنا النفسي.
(4) يسمح لما بالوصول إلى "الخبرة المثالية11 "optimal experience" .
المصادر:
9- Csikszentmihalyi, M. (1996). Creativity: Flow and the psychology of discovery and invention. New York: HarperCollins.
10- Csikszentmihalyi, M. (1997). Finding flow: The psychology of engagement with everyday life. New York: Basic Books
11- Csikszentmihalyi, Mihaly, and Isabella S. (1992). Optimal Experience: Psychological Studies of Flow in Consciousness. London: Cambridge UP. .