الديمقراطية تعني "حكم الشعب بالشعب وللشعب"، أي الأمة هي وليّة أمر نفسها، أما رئيسها وباقي المسؤولين فهم موظفون عند الأمة لا يحق لهم أن يستبدوا بالقرارات الهامة، بل يرجعون إلى الأمة يستأمرونها، أي يطلبون أمرها، هل توافق على ما يقترحون فعله، أم لا توافق، كما يأخذون في اعتبارهم رأي الأمة المسمى في هذا العصر "الرأي العام"، فيعملون على الاستجابة له، أو على تبصير الأمة بخطئه إن كان خاطئاً.
ورجوعهم إلى الأمة يكون إما بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر. المباشر يكون عن طريق الاستفتاء الشعبي، حيث لكل فرد راشد صوت يدلي به مع المشروع المقدم أو ضده، وهذه الطريقة مكلفة في الجهد والمال، لذلك يتم اللجوء إليها في القضايا المصيرية وما في حكمها. أما الطريقة الثانية للرجوع إلى الأمة واستئمارها، فعن طريق طرح المشروع على مجلس منتخب من ممثلي الأمة، يجتمعون تحت قبة واحدة، جلسة أو جلسات عديدة، يتحاورون، ويدلي كل منهم برأيه، بصفته وكيلاً عن الأمة التي اختارته ليمثلها.. وبعد النقاش والجدال، تُطرح القضية للتصويت، فإن نالت موافقة أغلبية أعضاء البرلمان، تم إمضاؤها، وأصبحت قراراً نافذاً، لم ينفرد باتخاذه لا الرئيس ولا غيره، بل اتخذته الأمة بنفسها ممثلة بنوّابها، وبهذا تكون الأمة حاكمة نفسها، وتتحقق الديمقراطية، وينتفي الاستبداد، فتكون القرارات أقرب للصواب ولتحقيق مصلحة الأمة أكثر بكثير، مما لو اتخذها رئيس مستبد برأيه، قد يدفعه هواه لما ليس في صالح الأمة.
يمكن للديمقراطية أن تكون علمانية لا تستمد القوانين من الشريعة، لكنها أيضاً يمكن أن تكون إسلامية تقرر فيها الأمة تطبيق الشريعة على نفسها، أي هي تحكم نفسها بالشريعة التي أنزلها الله، وهذا يعني أن الديمقراطية ليست ضد الشرع، إنما هي ضد الاستبداد والتفرد بالرأي وفرضه على الأمة، وما ينتج عن هذا الاستبداد من ظلم للكثيرين من أبناء الأمة، ومن استئثار فئة قليلة بخيرات الأمة وحرمان باقي الأمة منها.
أما الشورى التي هي من مبادىء الإسلام الأساسية، فإنها تختلف عن الديمقراطية، وليست بديلاً عنها، بل هي مكملة لها. الشورى هي استشارة الآخرين، وجمع أفكارهم وآرائهم، يستعين بها الإنسان على اتخاذ القرار الصائب في القضية التي يبحث فيها. هو يأخذ آراء الخبراء والحكماء والوجهاء، لكنه، وكما كان الحال في الخلافة الإسلامية، يبقى هو من يقرر، وهو من يختار من الآراء التي سمعها ما يريده. أي الشورى في الأصل ليست مُلزمة. أما إن جعلناها مُلزمة للرئيس، بحيث عليه تقرير ما أشارت به الأكثرية، ولا يحق له أن يخالف هذه الأكثرية، فإن الشورى المُلْزِمة هي الديمقراطية ذاتها.
على مدى القرون الطويلة، كان خليفة المسلمين هو ولي أمرهم، كما يكون الأب ولي أمر أولاده، أي هو صاحب الأمر والنهي، فإن استشار غيره كان مهتدياً بهدي الإسلام حتى لو لم يلتزم برأي الأكثرية، بل مال إلى رأي قال به واحد أو فئة قليلة، أو إلى أمر لم يُشِر به عليه أحد، فيقرره وعلى الأمة طاعته. لو كانت الشورى مُلزمة للحاكم لا يحق له أن يخالفها، فإنه حينها لا يكون ولي الأمر، فهو ليس صاحب الأمر، بل يشاركه فيه أهل الحل والعقد، أو زعماء الناس وحكماؤهم، أو جميع أفراد الأمة.
الديمقراطية هي أن تكون الأمة وليّة أمر نفسها، أي هي أمة راشدة، لم تعد قاصرة تحتاج لولي أمر يقرر لها، فقد بلغت سن الرشد، وتمارس حقها في اتخاذ القرارات الهامة بنفسها، وليس للرئيس إلا المشاركة في اتخاذ القرار باقتراحاته، ثم التنفيذ، وهذا سبب تسمية الرئيس والوزراء ومن يعمل معهم "السلطة التنفيذية". أما السلطة صاحبة الأمر والنهي، فهي الأمة يمثلها البرلمان، أو تشارك كلها من خلال الاستفتاء الشعبي. وبما أنه لا يُسَنّ قانون إلا من قبل البرلمان، لذا يسمى نواب الأمة المنتخبون "السلطة التشريعية". هي تشريعية لا بمعنى أنها لا تأخذ بشرع الله وتستغني عنه، بل بمعنى أنها تسن القوانين، التي من خلالها، يتم تطبيق الثابت من أحكام الشرع، وتجتهد هي بسَنّ القوانين فيما عفا الله عنه وسكت، رحمة بنا لا نسياناً، وبقيت متروكة لحكمتنا نحن المستخلفين في الأرض من قبل خالق الأرض والسماء.
لا تقتصر الديمقراطية على مجرد حق الأمة في اختيار رئيسها كما اختار المسلمون الخلفاء الراشدين الأربعة، وخامسهم الذي جاء بعد حقبة، عمر بن عبد العزيز، فهم الذين تولوا أمر الأمة برضاها، فكانوا حكاماً شرعيين حقاً، لكن الديمقراطية تمتد فتشمل وجوب رجوع الرئيس المنتخب ومن معه من حكومة إلى الأمة في كل قضية هامة تأخذ أمرها، لا مجرد رأيها.
باختصار الديمقراطية هي "الشورى اللازمة المُلزمة"، هي الشورى الواجبة على الحاكم، والواجب عليه الأخذ لا مجرد الاستئناس بها. هي شورى مفروضة على الحكومة وليست مجرد تواضع منها، وهي مُلزمة لأن الأمة لا تعطي رأيها ومقترحاتها، بل تُصدر أوامرها وقراراتها. لذا علينا أن لا نتحسس من الديمقراطية، ظانّين أنها تناقض الإسلام ودخيلة عليه. ليس هنالك كلمة عربية أصيلة تترجم كلمة ديمقراطية الأجنبية، فقام الناس بتعريب الكلمة الأجنبية، وبقيت متنافرة لغوياً مع مصطلحات الشرع، وإن كانت في حقيقتها ليست إلا من مبادىء الشرع، فهي "الشورى اللازمة المُلزمة"، أليست الشورى من صميم ديننا الحنيف؟
والحمد لله رب العالمين
واقرأ أيضاً:
الزواج حب لا امتلاك2 / أسس النظرية النفسية الإسلامية الأولى4 / تعدد الزوجات إعزاز لهن