لم تلبسون الحق بالباطل؟
طالعنا الموقع الذي نرده ثقة منا بمؤسسه ومحبة له ولصدقه معنا ومع نفسه؛ ولما لمسناه من رغبته في التعريف بهذا الفن ونشر خيره والتحذير من ضره دون إفراط ولا تفريط ـــ نحسبه كذلك والله حسيبه ـــ ؛ بمقال بعنوان (التدين الصراعي) أورد فيه كاتبه من الافتراءات ما لو مُزِجَت بماء البحر لمزجته . وأخطر ما في هذا المقال أن ألبسه كاتبه زورا وبهتانا لباسيْ العلم والدين معا ليدلو بدلوه في الصد عن سبيل الله ــ فيما بدا لي وأرجو أن أكون مخطئا ــ . والدافع للكاتب ماذا؟ سؤال ينبغي استبيان مظان الجواب عليه قبل الخوض في تفنيد افتراءاته فكما قالوا: (الحكم على الشيء فرع عن تصوره، وتصور دوافعه).
ويبدو الجواب لي أحد احتمالات سبع: (ست منها قد يقع فيها المؤمن بقصد أو بغير قصد، طوعاً أو كرهاً) أما السابع فلا يجوز لمؤمن أن يقع فيه وننزه صاحبنا أن يكون هو.
والاحتمالات حسب تصوري هي:
(1) أن يكون ما كُتب باسمه ليس من قوله ولا يستطيع البراءة منه رهبة من بطش سلطة ما، كعهدنا بالنظم الفاشية على مدى التاريخ كالتهديد بالزلات والسقطات.
(2) أن يكون من باب الوجاهة العلمية أو من باب خالف تُعرف وتشتهر وليقال عالم بأغوار النفس وعلاقتها بالدين والسياسة؛ وعن حسن نية وبدون قصد لم يدرك عظم الضرر الناتج عن إلباس تلك المفتريات الإعلامية ثوبي العلم والدين معاً. من إلصاق لتلك المفتريات بالإسلام كدين وبالتيار الإسلامي الذي يحمل لواء الدين كمسلمين ــ كل فصيل قدر طاقته وحسب إمكاناته وقدرته يخطئ ويصيب ويسيئ ويجيد لكن لا يحيد ــ بعد أن تقلص دور الدولة ممثلا في الأزهر والتعليم والإعلام كفرض عين في أداء هذه المهام وبعد أن سيطرعلى أغلب وسائل الإعلام أصحاب رؤوس الأموال المغتصبة والمشبوهة، ومن الإعلاميين غير المؤمنين بوجوب القيام بواجب التعريف بهذا الدين ونشره والذب عنه كفرض كفاية على المجتمع كافة وفرض عين على من آتاه الله نصيبا وافرا منه ومكَّن له بل وصار منوطا به كواجب يتقاضى عليه من مجتمعه أجرا.
(3) أن يكون من باب الترف الفكري ولكنه مبنيٌ على جهل بجوهر وماهية الدين عامة والدين الإسلامي خاصة. "إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق، ولن يشاد الدين أحدا إلا غلبه".
(4) أن يكون تصفية حساب مع المعنيين بالمقال أو حتى مع شخص واحد منهم.
(5) أن يكون عرضا وعربون موالاة للانقلابيين، أملا أن يؤتي ثمرته بعد حين. والشيطان والنفس الأمارة بالسوء قد تضعفها الآمال ."الشيطان يعدكم الفقر و...الآية"
(6) أن يكون مدفوع الأجر ولا حاجة لمزيد بيان، فالانقلابيون يدفعون لشتى أوجه البلطجة، ومنها البلطجة العلمية، بسخاء. والنفس تضعفها الإغراءات.
(7) والاحتمال الأخير ــ ونعيذ صاحبنا بالله أن يكون كذلك؛ كما نعوذ بالله أن نتهمه بذلك ــ ولكنه أبعد الاحتمالات عن التصور غير أنه يظل آخر الاحتمالات التي يمكنني افتراضها. ألا وهو سلوك عتاة أعداء الدين من المنافقين الكارهين الكائدين.
ولا أدعي أني قد أحطت باحتمالات الدوافع التي تحْمِل مسلما على أن يُحَمِّل نفسه وزر مثل ما ينطوي عليه ذلك المقال، وفوق كل ذي علم عليم. كما أن "شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا" ليضلوا عن سبيل الله، "ولتصغي إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون". ونبهنا الله لنحذرهم فإنهم "يرونكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم". ولكنها جميعها بقدرٍ من الله، "ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون". ورحم الله أحد مشايخنا الذي علمنا: يا أبنائي احذروا من لمعان اللا معاني.
وأرجو من الكاتب أن يتسع صدره ويصحح لي ما قد يكون في تصوري خيالا لا أصل له فيبين لنا الدافع الحقيقي للخوض في هذا المضمار الضار، ورحم الله امرءً أهدى إليَّ عيوبي.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع... الحديث"
أعلن عجزي عن التغيير بيدي، وها أنا ذا أحاول بلساني، لا عداءً ولا استعداءً لمسلم، وأشهد الله على ذلك.
إذن فلم ذلك السؤال المستفز عنوانا للرد أو التعليق على المقال؟ (لم تلبسون الحق بالباطل؟)
وسيكون جوابي على ذلك ذا شقين:
أولاً: رؤيتي لمعنى السؤال نفسه وقد ورد في كتاب الله بصيغتين، صيغة السؤال هذه وصيغة النهي (لا تلبسوا الحق بالباطل). وفي الصيغتين وفي أكثر من سياق نلحظ إلباس الحق بالباطل؛ ولم تأت مرة إلباس الباطل بالحق. وهنا ملحظ دقيق ندركه من الدلالة اللغوية للألفاظ. فنحن نقول في العربية لبست العمامة برأسي ولبست الحذاء بقدمي ولا نقول لبست رأسي بالعمامة أو لبست قدمي بالحذاء. وتكون العمامة بادية وظاهرة وتحتها الرأس غير بادية وكذلك يكون الحذاء باديا وظاهرا والقدم مخفية بداخله فيكون الملبوس ظاهرا والملبوس به مخفيا.
لذا جاءت صيغ القرآن جميعها سؤالا أو نهيا عن إلباس الحق بالباطل وليس عن إلباس الباطل بالحق. أي تخفون باطلكم تحت أو داخل شعار من شعارات الحق. فقبول الباطل ليس من طبع البشر "وإنه لحب الخير لشديد" والحق خير تدركه الفطرة البشرية وجبلت على محبته وعلى بغض الباطل، ما لم يتعارض ذلك مع مصلحة ذاتية أو هوى نفس أو شهوة ظلم وتسلط. لذا نجد التعقيب بقوله تعالى: "وتكتمون الحق وأنتم تعلمون"، أي تكتمون في أنفسكم أحقية نصرة الحق على الباطل وأنتم بما فطر الله عليه أنفسكم تعلمون.
وقد يعترض معترض أن إلباس الحق بالباطل إظهار لشعار الحق وإن أخفي تحته أو فيه الباطل فكيف يكون مكتوما؟ أقول أن الحق صنوف منها ما يمكن إلباسه بالباطل ومنها ما لا يمكن إلباسه بباطل فلا مفر عندهم من كتمانه طالما كان حجة عليهم. ومثالهما في القرآن في آية واحدة: "ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأْت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين". لذا يحرص المحق والمبطل على أن يقدم بضاعته للناس في الصورة التي تحبها الأنفس البشرية التي فطرها الله على ذلك.
مثاله: "وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين"؛ "هل أدلكما على شجرة الخلد وملك لا يبلى؟" هذا في بداية الخلق. أما الأمثلة اليوم فإعلامنا المصري اليوم يغص في كل جملة بأمثلة. وساستنا المتسلطون علينا الذين يرون السياسة كما يقولون نجاسة ما يصدرونه للشعب أمثلة لما ذكر ويعاضدهم من أهل العلم وأهل الدين ما الله بهم عليم.
ثانياً: انطلاقا من تصوري المنبثق عن إيماني بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا، أرى أن الحياة على الأرض سلسلة من الصراعات بين قوى الشر وقوى الخير (فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين"36") وقال تعالى: (إن الشيطان كان لكم عدوا فاتخذوه عدوا...)؛ (إن الشيطان للإنسان عدو مبين). إنها عداوة دائمة لا تخمد إلى يوم القيامة.
منذ تلك اللحظة بدأ الصراع بين آدم ــ الذي تاب الله عليه ــ ومن اتبع هدى الله من بنيه كطرف وبين إبليس ومن تبعه من بني آدم كطرف آخر. وأعلن إبليس تلك الحرب: "قال أرأيتك هذا الذي كرمت عليَّ لئن أخَّرتنِ إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا * قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاءًا موفورا * واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا * إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا*" صراع كان وما زال وسيظل إلى يوم القيامة. هكذا شاء الله ليبلوكم أيكم أحسن عملا.
فمن أين جاءنا كاتب المقال بقانوني الحب والصراع الذي أقحمهما وكأنهما مسلمات لا تقبل النقاش إلا أن يكون استقاهما من ثقافة غير ثقافتنا أو اخترعهما من بنات أفكاره اجتهادا منه، ولا بأس في هذا الاجتهاد ولكن الخطأ كل الخطأ أن ينسب ما ليس علما إلى العلم وما ليس من الإسلام إلى الإسلام عن حسن نية لكن جهلا بجوهر هذا الدين أو الأخرى وننزهه عنها حسن ظن منا في أخينا. ولنناقش ما أورده في ما يلي:
((التدين بين الحب والصراع:
ولكي نبسط الموضوع بعض الشيء نستدعي نظرية أن الحياة على الأرض يحكمها قانونان رئيسان: قانون الحب وقانون الصراع , فقانون الحب نشأ مع العلاقة بين أبينا آدم عليه السلام وأمنا حواء, أما قانون الصراع فنشأ مع العلاقة بين قابيل وهابيل. ومن حسن الحظ أن قانون الحب سبق قانون الصراع, وهو أقوى منه في الأغلب ولذلك نجد أن الحياة تستمر وتتطور على الأرض رغم ما يدور بين البشر من صراعات, ولو كان قانون الصراع هو الأقوى لانتهت مظاهر الحياة بفعل الصراعات والحروب بين البشر. وكل شخص يأخذ بقدر من هذين القانونين فتتشكل لدينا ألوان طيف هائلة في السلوك البشري, من أناس يفيضون حبا وحنانا ورحمة وإيثارا وتسامحا إلى أناس يفيضون غلظة وقسوة وعدوانا وانتقاما, وبينهما درجات بينية عديدة.
إذن حين يستقبل شخص (أو مجموعة من الناس) الحقيقة الدينية على دائرة الحب فإننا نتوقع إدراكا سمحا واسع الأفق للدين وللحياة وللبشر يفجر في نفس صاحبه الحب والرغبة في العطاء والرحمة للبشر (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين), أما إذا وقعت الحقيقة الدينية في دائرة الصراع في النفس البشرية فإنها تتشكل في صورة استعلاء ديني عنصري وكراهية للآخر واحتقار له والدخول في صراع دائم مع كل من يختلف مع فهم الشخص للحقيقة الدينية, ومن هنا يتشكل ما نطلق عليه التدين الصراعي)).
استدعى الكاتب نظريتي الحب والصراع، وليته يخبرنا عن الأسس العلمية التي تحوِّل فرضية ما إلى نظرية في العلوم الإنسانية؟ وهل هي ذاتها التي تشترط في علوم الرياضيات والكيمياء والفيزياء التي نعرفها؛ وكيف تتفق نظرياته هذه مع قناعاتنا الدينية كمسلمين. لنستشهد بها في أمر ديننا ونصنف تديننا إلى صنفين:
(1)تدين صراعي
و(2) تدين فالانتاينيّ، كما يوحي المقال.
ولما كان علم النفس وغالب ما يسمونه بالعلوم الإنسانية منشؤها في المجتمعات التي قناعاتها مادية، فلنناقش بمنطقهم المادي. وسأجعل نقاشي مجرد تساؤلات يجيب عليها القارئ ويستنتج.
ألا يرى الكاتب أن الحب في جميع ما خلق الله من دابة على الأرض وسيلة لبقاء النوع مع اختلاف صوره وأبعاده وآماده ومنشطاته ومثبطاته. وأن الحب في الإنسان لا يختلف كثيرا إلا أنك ترى فيه الصدق والكذب والذكاء والغباء والفطرة والحيلة والطهر والرذيلة لأن الإنسان مميز عن باقي تلك الخلائق بالنطق والبيان وبالتفكر والتذكر وبالذكاء والغباء والجحود والنسيان. فالأشرار وقساة القلوب أيضا يحب بعضهم بعضا ويعطف بعضهم على بعض وإن كان شرهم على غيرهم لا ينقطع.
هل تلحظ ذلك في قوله تعالى "الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين" ومعلوم أن الخُلة أعلى صور الحب. وقوله عز وجل في وصف خير خلق الله صلوات الله وسلامه عليه ومن معه ــ خير القرون على الإطلاق ــ "محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم" ولا تعارض بين شدة في موضعها ورحمة في موضع آخر. "ألا يعلم من خلق؟".... "وهديناه النجدين"...."ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها، قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها" بل ويأمر الله نبيه قائلا: "يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم" أما مع أتباعه صلى الله عليه وسلم فيزكيه فيهم: "ولو كت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك"
فيا قوم أتقولون على الله في صنعته ما لا تعلمون؟ وسبحانه القائل "ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا"؛ لكي يبسطوا الموضوع فيضلوا الناس بغير علم. يفترضون دائرتي حب وصراع في النفس البشرية (وكما يقال في العامية بختك يا أبو بخيت) تقع الحقيقة الدينية في إحدى الدائرتين!!! إذن حين يستقبل شخص (أو مجموعة من الناس) الحقيقة الدينية على دائرة الحب فإننا نتوقع إدراكا سمحا واسع الأفق للدين وللحياة وللبشر يفجر في نفس صاحبه الحب والرغبة في العطاء والرحمة للبشر ولا يكتفي صاحبنا بالتقوُّل على الله في صنعته بغير علم بل ويستشهد على تقوله بآيات الله.
(وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين), ولم يفسر لنا صاحبنا كيف يستقبل الشخص (أو المجموعة من الناس ؛ حتى لايحرم التيار الديني برمته المعارض لتوجهه من افتراءاته) الحقيقة الدينية على دائرة الحب. أليس من الواجب عليه أن ينصح لإخوانه المسلمين؟ ألم يسمع هدي النبي صلى الله عليه وسلم : "الدين النصيحة"؟ خاصة لو كان نقله أو اجتهاده هذا يمت إلى الدين أو العلم بصلة.
ويقول كاتبنا هدانا الله وإياه عن دائرة الصراع أما إذا وقعت الحقيقة الدينية في دائرة الصراع في النفس البشرية فإنها تتشكل في صورة استعلاء ديني عنصري وكراهية للآخر واحتقار له والدخول في صراع دائم مع كل من يختلف مع فهم الشخص للحقيقة الدينية, ومن هنا يتشكل ما نطلق عليه التدين الصراعي)).
هناك يستقبل الشخص (أو المجموعة من الناس) الحقيقة الدينية على دائرة الحب أي أن الشخص أو المجموعة من الناس له أو لهم دور في مكان استقبال تلك الحقيقة الدينية فيحمد لهم ذلك الدور. وهناك يتوقع ــ مجرد توقع ــ كاتبنا إدراكا سمحا واسع الأفق للدين وللحياة وللبشر يفجر في نفس صاحبه الحب والرغبة في العطاء والرحمة للبشر. وأعجب لتوقع الكاتب مجرد توقع وأظنه قال كذلك حتى لا يغضب من لا يرون أن الحقيقة الدينية يمكنها أن تنتج هذا الرقي في أخلاق البشر.
أما سيئ الطالع المخالف لكاتبنا سياسيا ــ أظن ذلك ــ فتقع الحقيقة الدينية في دائرة الصراع المفترضة في النفس البشرية (كما يقال في العامية زي القضا المستعجل) ولا يد له في أيِّ الدائرتين تقع ــ حتى لا يحرم أيضا قادته وموجهيه من مسئولية مكان وقوع تلك الحقيقة الدينية ــ إذا ما وقعت في دائرة الصراع في النفس البشرية فإنها تتشكل في صورة استعلاء ديني عنصري وكراهية للآخر واحتقار له والدخول في صراع دائم مع كل من يختلف مع فهم الشخص للحقيقة الدينية؛
والعجب هنا أن كاتبنا هنا لم يتوقع كما توقع في الأولى، لكنه قال جازما طالما الأمر يسيئ للمسلم بل وللحقيقة الدينية ذاتها التي ما أن تقع فإنها تتشكل في صورة....... الخ تلك الافتراءات التي بدت جلية في مقال الكاتب والتي أبانت خبيئة نفسه ضد تيار المفترض أن يكون أحد أفراده داعيا وداعما وناصحا ومكافحا ومرشدا ومسددا ومقاربا. ولا تدعي أنك ناصح أمين فإنك إن نصحت أخاك بينك وبينه فقد نصحته، وإن نصحته على رءوس الأشهاد فقد فضحته فلا قولك بالنصيحة أصلا وما التزمت بآداب النصيحة في الإسلام وصلا. بل آثرت القطيعة بافتراءاتك الفظيعة.
وأسأل كاتبنا: من الذي يشكلها؟ وكيف؟ وما مدى تشكل الحقيقة الدينية في نفسك أنت؟ حتى أنتجت هذه الافتراءات على تيار إسلامي لم تسانده، بل تكيد له تحت ستار من العلم لا يرقى إلى فرضيات تدفعها إلينا كنظريات؛ وغلالة هشة من الدين تلبسها لقولك. بينما لم يسلم الدين ذاته من افتراءاتك التي أحسبها عن جهل كحسن ظن مني كما أمرنا ديننا. ومثال ذلك حتى لا أكون مُدَّعِيا بباطل ها هو أسوأ ما ورد من أقوالك في مقالك: (بدعوى أن الدين يشمل كل شيء في الحياة بما فيها السياسة) وهذه الفرية على الإسلام لايقول بها إلا جاهل وجامد أو جاحد وحاقد.
وختاما أسأل كاتبنا:
(1) ما هي الحقيقة الدينية التي وقعت في دائرة الصراع في نفسك فتشكلت في صورة استعلاء ديني عنصري وكراهية للآخر واحتقار له والدخول في صراع مع من يختلف مع فهمك لتلك الحقيقة الدينية؟ والحق أنه اختلاف في الجانب السياسي؛ أم تستطيع أن تدعي أن مقالك هذا ليس صورة من صور الصراع بل ومن أخطرها؟ ولصالح من هذا الصراع؟
(2) هل لازلت مقتنعا بنظريتي الحب والصراع وبدايتهما ومن الأسبق ومن الأقوى من الأخرى على فرض صحتهما؟ وبدائرتيهما في النفس البشرية؟ ومن حسن الحظ أن قانون الحب سبق قانون الصراع, وهو أقوى منه في الأغلب ولذلك نجد أن الحياة تستمر وتتطور على الأرض رغم ما يدور بين البشر من صراعات, ولو كان قانون الصراع هو الأقوى لانتهت مظاهر الحياة بفعل الصراعات والحروب بين البشر. وهل تلك القوانين تعمل بذاتها في البشر؟ وأنت تقرأ في القرآن "ولو شاء ربكما فعلوه"؛ "وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين"؛ "يهدي الله لنوره من يشاء"؛ "ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور"؛ "وجعلنا بعضكم لبعض فتنة، أتصبرون؟ وكان ربك بصيرا"؛ "قل هو للذين آمنوا هدىً وشفاء، والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمىً....".
(3) قبل أن أناقشك فيما افتريت به على إخوانك المسلمين هل لديك أدلة ادعاءاتك ــ استعلاء ديني عنصري، وكراهية للآخر ،والدخول في صراع دائم مع كل من يختلف مع فهم الشخص للحقيقة الدينية، يرى نفسه أفضل من الآخرين وجديرا بقيادتهم والتحكم في توجهاتهم حتى ولو لم يرضوا بذلك، ومجموعة الاستدعاءات الست ــ التي سيتلوها ضبط وإحضار حتما ــ وحيثيات الاتهام المتمثلة في ثمانية عشر سمة للمتدينين (التيار الاسلامي) ولا تدعي أنك ترجمت عن الأديان عامة ومن ثم ينسحب الأمر على الدين الإسلامي بالتبعية، فكلامك ولشديد الأسف مصوب وبدقة للإسلام والمسلمين، وعلى استحياء ــ أو جبن ــ لبعض النصارى ولليهود طبعا لأنهم ما زالوا أعداءً في الضمير العام للمصريين، وليس للعلمانيين ولقادة الجيش الانقلابيين حتى لا نوقعهم في الحرج؛ وكذلك لبعض الديانات الأخرى.
(ولقد ابتلي العالم العربي والإسلامي بأفراد وجماعات تمارس هذا النوع من التدين الصراعي كانت تتوالد ذاتيا من بعضها البعض, منها من يبدو هادئا معتدلا في بعض المراحل ثم يتحول إلى العنف, ومنها من يبدأ عنيفا منذ البداية, وقد أرهقت تلك الجماعات مجتمعاتها وأدخلتها في تقسيمات وصراعات وانشقاقات على أسس دينية ومذهبية وطائفية. وفي الحقيقة لم تقتصر مجموعات التدين الصراعي على المسلمين (سنة وشيعة) فقط ولكنها ظهرت لدى بعض الطوائف المسيحية كما ظهرت لدى اليهود وبعض الديانات الأخرى).
وعند هذا الحد أتوقف في هذه الحلقة الأولى من الرد. عسى أن يبين لي كاتبنا ما قد أكون وقعت فيه من خطأ أو سوء فهم لما ورد بالمقال. خاصة وأني لست بالمتخصص في علم النفس ولا في العلوم السياسية، ولا متبحرا في العلوم الدينية. لكني أظل أنا المتلقي للرسالة الإعلامية. وبصفتي مسلم من آحاد المسلمين الذين استهدفتهم في مقالك وجب علي الدفاع بالأصالة عن نفسي وبالنيابة عن التيار الذي لا أجد بدا من الانتساب إليه، وإلا كنت من الشعب الآخر الذي له رب آخر غير ربنا، ذلك الشعب الذي ما كنا نتصور نشأته في مجتمعنا المتدين بطبعه. ورحم الله امرءً أهدى إليّ عيوبي.
واقرأ أيضاً:
العناق الأخير/ يا فاحِصَ النفس أقلِعْ تُبْ؛ وكفاك خُسرانا ؟