التنظيم المؤسسي للشعوب العربية Institutionalization of the Arab People
المقدمة:
مصطلح التنظيم المؤسسي Institutionalization أو النزعة النظامية كثير الاستعمال في الصحة العقلية من جراء تاريخ ودور المصحات العقلية في احتواء ورعاية المرضى بالمصابين بالاضطرابات العقلية. يتم حجز أو تنظيم الفرد ضمن مؤسسة معينة وعليه الالتزام ضمن قواعد وإرشادات تفرضها المؤسسة. بعد فترة زمنية قد تطول أو تقصر اعتماداً على القدرة العقلية للفرد، يكتسب الفرد صفات شخصية ومفاهيم وسلوك قوي الارتباط بالمؤسسة التي تم تنظيمه داخلها.
المصطلح المعاكس للتنظيم المؤسسي هو خلع التنظيم المؤسسي De-institutionalization وهو بالتالي يعني تحرير الفرد من القيود التي تربطه بالمؤسسة التي ينتمي اليها واكتسابه صفات شخصية ومفاهيم وسلوك جديد ساعياً إلى تحقيق أهدافه وطموحاته الشخصية المشروعة. يرتبط مصطلح خلع التنظيم المؤسسي مع تحول الخدمات الصحة العقلية بعيداً عن المصحات العقلية التي قد يعيش فيها المريض طوال عمره إلى الرعاية ضمن المجتمع والتفاعل السليم مع الآخرين.
المفاهيم والمؤسسات:
يمكن تتبع دور المؤسسات في تاريخ البشرية منذ القدم وخاصة في العهود الكلاسيكية الإغريقية والرومانية. كان لتحديث وتنظيم المؤسسات دوره في نهضة الشعوب الأوربية منذ عصر النهضة وحتى يومنا هذا. هناك مؤسسات سياسية واجتماعية وطبية يصعب حصرها وتعدادها وجميعها تلعب دورها في تقديم خدمات متنوعة للمجموعة البشرية التي تعنى بها.
لكن المؤسسات لا تنظم الأفراد وحسب وإنما تستحدث في داخلها مفاهيم وقيم متنوعة. في الوقت الذي ينتهي دور الفرد المنتمي إلى المؤسسة تستمر هذه المفاهيم والقيم ثابتة في محلها لا يجرأ أعضاء المؤسسة من جيل بعد اخر على تحديها.
أفضل مثال على استيطان المفاهيم القديمة داخل المؤسسات هو العنصرية ومن جراء ذلك هناك مصطلح شائع الاستعمال في الغرب وهو العنصرية المؤسسية Institutionalised Racism . هذا الصنف من العنصرية لا يزال حياً في الكثير من المؤسسات الغربية رغم تشريع القوانين لمحاربة العنصرية والحرص على تطبيق مبدأ المساواة بين الأفراد بعيداً عن انتسابهم العرقي والديني.
يدخل الإنسان المؤسسة ويفقد تدريجياً استقلاله وحرية تفكيره. يتمسك يجمع المفاهيم والقيم الموجودة ضمن المؤسسة ويؤمن بها ويدافع عنها بقوة. لا يدوم الأفراد داخل المؤسسة مثل دوام المفاهيم والقيم، ولكن حتى بعد رحيل الفرد من المؤسسة يحمل في حقيبته مكافأة انتهاء الخدمة ومفاهيم المؤسسة نفسها.
يواجه الفرد الكثير من الصعوبات بعد وداعه المؤسسة التي انتمى إليها. مصدر هذه الصعوبات هو ما يطلق عليه العجز المكتسب Learnt helplessness وهو تعلم الشعور بعدم القدرة على تجاوز التحديات بدون الرجوع إلى المؤسسة.
لكن الانتماء إلى المؤسسة والدخول اليها لا يخضع لإرادة الفرد دوماً. هناك:
1- انتماء تطوعي.
2- انتماء إجباري.
الانتماء التطوعي يخضع لظروف الفرد الشخصية وطبيعة المرحلة السياسية والاجتماعية والاقتصادية للمجموعة البشرية التي ينتمي إليها.
أما الانتماء الاجباري فهو عملية تفرضها المؤسسة التي اكتسب قوة هائلة داخل المجتمع التي من المفروض أن تخدمه، ولكنها مع مرور الوقت تصبح أقوى من المجتمع نفسه بعبارة أخرى تتحول المعادلة من المؤسسة في خدمة الشعب إلى الشعب في خدمة المؤسسة.
التنظيم المؤسسي في العالم العربي:
لعبت المؤسسات دورها في العالم العربي ولفترة زمنية طويلة، ويمكن تتبعها في تاريخ كل بلد عربي. تختلف مؤسسات العالم العربي بكبر حجمها وقوتها واكتسابها المناعة ضد التغيير. المفاهيم التي استوطنت هذه المؤسسات لم يطرأ عليها تغيير كبير ونجحت في نشر مفاهيمها وتنظيم شريحة كبيرة من المجتمع التي تنتمي إليه.
مصر: يمكن القول بأن مؤسسة الجيش المصري هي أقوى وأكبر مؤسسة من نوعها في العالم العربي منذ أكثر من نصف قرن من الزمان. نجحت هذه المؤسسة في تنظيم أعداد هائلة من المواطنين ونشرت مفاهيم استوطنت مصر لفترة طويلة. واحد من الشعارات التي شاع ترديدها في مصر أيام الربيع العربي هتاف: "الجيش المصري فين" رغم أن الثورة بحد ذاتها كانت ضد نظام سياسي خاضع لسيطرة الجيش أو الجيش نفسه.
لم يستطع الشارع المصري التخلص من المؤسسة ومفاهيمها التي لم تستوطن المؤسسة ومن ينتمي إليها فحسب بل والشعب المصري. ليس من الغريب أن نرى الآن عودة الجيش المصري لقيادة الشعب ثانية ولا تزال مفاهيمه كما هي. بعبارة أخرى يمكن الاستنتاج بأن أفراد الشعب كانوا ولا يزالون مصابون بالمؤسسية Institutionalised .
أما عملية خلع المؤسسة فهي لم تحدث منذ اليوم الأول من الثورة حين هتف الشعب ينادي بتدخل الجيش وتامين عملية ديمقراطية لا تشكل جزءًا من مفاهيم مؤسسة الجيش المصري. تشير جميع التقارير حتى بداية فصل الربيع في النصف الشمالي من الكرة الأرضية بأن ما تسمى بالثورة المضادة في مصر قد اكتملت3 وعادت المؤسسة الأقوى إلى السيطرة على من ينتمي إليها إجبارياً أو تطوعياً بالالتزام بالمفاهيم التي لم تتغير والتي استوطنت المؤسسة منذ أكثر من نصف قرن من الزمان.
العراق: تسلط حزب البعث على أمور العراق منذ عام 1968 وتم استحداث مؤسسة لا يقوى أحد على تحديها وسيطرت على كافة جوانب الحياة السياسية والاجتماعية والفكرية في العراق. لم تتغير هذه المؤسسة في إطارها ومحتواها رغم التغييرات التي حدثت في تركيبة قيادتها في نهاية السبعينيات وبعد نهاية حرب الخليج الأولى.
بعد انهيار الدولة العراقية في عام 2003 وتفسخ جميع المؤسسات التابعة للمؤسسة الكبرى وجد المواطن نفسه في حالة ضياع وفوضى لا تزال آثارها واضحة حتى يومنا هذا. رفعت الدولة العراقية شعر اجتثاث البعث للتخلص من المؤسسة ولكن هذا الشعار تم تطبيقه على الافراد بدلاً من المفاهيم المتأصلة في المؤسسة التي دمرت العراق تدريجياً على مدى ربع قرن من الزمان.
بدلاً من ذلك تم استحداث مؤسسة جديدة حملت معها مفاهيم كانت مستوطنة في المؤسسة القديمة في إطارها ومحتواها مثل الطائفية والقبلية والعشائرية والفساد المالي. رغم أن العراق ثامن أكبر منتج للنفط في العالم ولكن كان هناك عجز في ميزانيته لعام 2013 2ولا يزال يضخم من قيمة عائدات النفط، والبرلمان العراقي لا يقبل المواقفة على الميزانية الجديدة إلا لسبب واحد وهو الفساد المالي لجميع الأطراف من شيعية وسنية وكردية لا تزال تتمسك بمفاهيم المؤسسة التي تسلطت عليها سابقاً.
لا يختلف الحال في بقية الأقطار العربية. لا يزال التنظيم المؤسسي في غاية الوضوح في الأقطار التي انتشر أو لم ينتشر فيها الربيع العربي، ويشمل ذلك لبنان التي تتميز بوجود نظام برلماني قديم ولكنه يحتضن عملية التنظيم المؤسسي التي منعت من عملية اندماج صحية لجميع المواطنين. ولكن لا يزال هناك بريق من الأمل في انتقال تونس إلى مرحلة جديدة وقيام مؤسسات عصرية جديدة لا تحمل المفاهيم التي استوطنت المؤسسة القديمة.
إعتاق المواطن العربي:
لا يختلف المواطن العربي عن بقية البشر في شرق وغرب العالم، ولكنه تم تجريده من قيمته داخل المؤسسات التي انتمى إليها طوعاً أو قهراً. هذه المؤسسات جميعها وحتى يومنا هذا تتميز بغياب الكمال في مفاهيمها.
لكن المواطن العربي حاول ولا يزال يحاول الحفاظ على قيمته الذاتية واستحداث مؤسسات تؤمن بحقيقة واحدة هي شعور الإنسان بحريته في التعبير وانتهاز الفرص المشروعة في داخل أو خارج المؤسسة. ظهرت مؤسسات جديدة بعد الربيع العربي حملت مفاهيم لا تختلف في محتواها وإطارها عن مفاهيم المؤسسات السابقة وتحرص كذلك على تقييد حرية الفرد وتجريده من قيمته. شعار المؤسسات البديلة لا يقل خداعاً عن شعارات شركات مستحضرات التجميل العالمية1 مثل L’ Oreal التي تحرص على تشجيع الفرد على الانتماء إليها وشراء مستحضراتها تحت نداء "لأنك تستحقين ذلك". لكن الأصح هو شعار المؤسسة نفسها "لأني أستحق ذلك".
المصادر:
1- Blackburn S(2014). Mirror, Mirror: The uses and Abuses of Self-Love. Princeton University Press.
2- Economist (2014). Iraq: as bad as it gets. March 21 2014.
3- Kingsley P (2014). Egypt is spring 2014: is the counter-revolution now complete? The Observer 23 March 2014.
واقرأ أيضاً:
سوريا وربيع العرب تحت المجهر / البحث عن قائد للشعب / عالم حر أم سوق حر ؟ / إرادة العراب في إدارة الأعراب