• حينما أتمشـى، أنظر إلى الناس بزاوية لدرجة أن عيناي يصبحان شديدا الاحمرار. أسمع صوتًا يرن في أذني، (عينيكي حمرا يا غولة!). تحرقني عيناي، أتذكر تلك النكتة السخيفة التي سأل فيها صبي صاحبه (انظر إلى عيني، هل هما حمراوان؟) ولما أجاب الصاحب بالإيجاب، صاح الولد (وبتوجعني؟)... (أوكي، ماشي).. لا أجد مكانا للضحك الآن فأنا متعبة، مجهدة، لا أتمكن إطلاقًا من التركيز، سألت نفسها: هل من الممكن أن يكون هناك سبب آخر لاحمرار عيناي؟، غير النظر إلى كل الناس وإلى كل الأماكن بزاوية! (بزنقور عيني يعني؟).
•حين أتسكع في (مول)، أو فسحة تجارية ذات محلات كثيرة لا أستمتع، أحاول ممارسة الفرجة دون أن أشتري، أو أن أساوم، لكن يسيطر علي سلوك النظر إلى الناس بجانب حقل الرؤية، للباعة، وللبضاعة داخل نافذة العرض (الفاترينة)، لو توقفت في محل ملابس، وبدأت أختار ووقف أحدهم بجواري، أحسّ به، أدركهُ بجانب عيني، أترك المكان وأرحل. ثم أعود حالما فرغ المكان من الناس.
• حياتي ليست متوقفة، أمارسها بالتغاضي عن سلوكي الغريب هذا، سلوكي الذي لا ينطبق على صاحباتي، إنه محدد بالغرباء، ذهبت لـدورة تدريبية (كورس).. ظهر سلوكي وأزعجني، تركت التدريب وذهبت إلى بيتي باكية.
• نعم أنا أخاف من أحكام الآخرين عليّ حُكم الآخر عليّ قد يكون في ملبسـي وهذه أبسط الأشياء، شكلي أحكامٌ أفكر فيها ليل نهار، تلد الأحكام أفكارًا في دماغي، مثلاً.. إذا سرت في الطريق ونظرت بجانب عيني، إذا كان السائر امرأة، أتساءل تُرى ماذا تقول عليّ؟ قد تراني غريبة الأطوار، أما إذا كان رجلاً فقد يظن أنه استهواني، عيناي عندما تقابل عيني رجل، قد يظن بي سوءًا، لذلك فأنا أسير إلى الأمام (دوغري)، داخلي تخوفاتي، متيقظةٌ لكل فرد في الشارع، في مكان سكني الأول اضطهدني مراهق، تتبعني، تحرش بي لفظيًا، نادى على اسمي، أخذني تسليته، ومجالاً للسخرية والمشاكسة، هو وأصحابه، أخبرت أبي فلم يصدقني، تعاركت مع ناس كثيرة في الشارع والجامعة ومكان العمل، صوتي كان عاليًا، أصبح الناس يرونني ضحية سهلة لأن أبي لم يساندني، نعم، كنت أنا المسئولة عن استدعاء المشاكل، وذلك من خلال دورة التدقيق، النظر بجانب الرؤية، التفكير وسوء الظن.
كنا نعيش في منطقة شعبية، البيوت تقترب من بعضها كثيرًا، الطرق ضيقة، كنت دائمًا ما أصحوا ليلاً باكية بكاءً مرًا مستمرا حتى طلعة الفجر، أدُّب بقدمي على الأرض كالطفل المجنون، لم يرضى أبي بتغيير مكان السكن، رغم أن أرض الله واسعة أحضـرت له خالي وزوجة عمي وأختي التي كانت على خط الحياد، صار الأمر بيننا صراعًا محتومًا وبعد وقت طويل، وافق أبي على مضض وانتقلنا بالسكن إلى مكان آخر، ولدهشتي وحسـرتي وعذاب حالي، سمعت الأولاد ينادونني باسمي!! فجفلت.. تألمت، أو بمعنى أصحّ تأقلمت، ثم انتقلت إلى مدرسة إلى جوار البيت فيها فصل واحد وكأنها ليست بمدرسة جلست في فصلي متوترة أنظر بجانب عيني طول الوقت، نعم بجانب الرؤية، لا أنظر إلى أحد مباشرة ولا أكلمه مباشرة، أحاول التركيز على السبورة وأهمل الآخرين، لكن عينيّ كانتا تحمرّان وترتعشان، أتوتر وأتعرق وأنتفض، وبعد فترة طويلة أهدأ وتظل معي بقايا كل تلك المواقف المشحونة.
كثيرة هي الظنون، وكثير من المواقف المتشابهة التي نال فيها الأذى من نفس “سيدة”.
أفكار متناثرة مبعثرة متداخلة تداهم رأس “سيدة” ولا تتركها في راحـة، تعربد في ثنايا إدراكها وتتركها نهبًا للإحساس الخانق بالاضطهاد.
كانت معظم أفكارها منصبة على الجنس، واحتمالات العلاقة من الرجل، والخوف منها (الإحساس الدائم بأنني غير محترمة)، شعور بالدنس في مواجهة الشـرف والقدسية فجأة تقسم “سيدة” دونما سبب أو حدث (أنا لا أرتكب الخطأ خوفا من الآخرين)، كانت كل حركات جسمها الممتليء قليلاً ولبسها المحتشم جدًا تشي بالعنف، وبالغضب الداخلي.
في جلسة من جلسات التداعي الحر ذكرت “سيدة” أنها تعاني من (وسواس النظر إلى العورات)، لم تكن “سيدة” حقا تنظر إلى العورات، بقدر ما كانت تخشـى أن يحدث هذا لذلك كانت تلبس نظارة سوداء، حتى داخل الأماكن غير المشمسة.
في محاولة منها ألا يلاحظ أحد أنها تسـرق النظرة إلى عورات الناس، كانت “سيدة” تقع في فخ أنها أدركت (خطأً) أن الآخرين يعرفون أنها تحدق في عوراتهم، لقد اهتزت المنطقة المحيطة بالأنا، أصبحت “سيدة” كنفس وشخص وجسد، لا تتمكن من تحديد فواصل بينها وبين الآخرين فارتبكت وانزعجت وأرهقت.
بدأت معاناتها النفسية منذ زمن بعيد، (لم تكن مثل حالة شاكر الذي كان يعتقد أن زملائه في كلية الطب يطيلون النظر متعمدين إلى مؤخرته، ومن ثم أصبح خجولاً لا يتمكن من أن تقابل نظرته أيهم وجهًا لوجه كان مدمنًا على العادة السـرية، وكذلك على الجلوس بكثرة على المقاهي، كانت هناك دورة من تلك الشخصية الطيبة التي تربط المشـي، الخطوة، الإحساس الخاطئ (الضلالي) بأنه يسير كما الأنثى المُشتهاة، مع إدمان العادة السـرية، كان تشخيصه الأولي عام 2002 "الشيزوفرينيا SZP أو السيكدزوفرنيا".. مرض عقلي مزمن وشديد، يتسبب في حالة عدم علاجه في حالة من الفوضى السلوكية والخطر على صاحبه والآخرين، يظهر أكثر في الرجال في أوائل العشـرينات من عمرهم أو في أواخر سن المراهقة أعراضه تتراوح ما بين هلوسات سمعية، تتمثل في سماع أصوات، لا مصدر لها ولا يسمعها غيره، أو الاعتقاد بأن أفكاره تُذاع على الملأ، أو أن البعض يمكنه التحكم في موجات الدماغ ومراحل التفكير، بجانب شعور جامح بالاضطهاد باختصار، فهو خلل واضطراب شديد يصيب التفكير، الشخصية، السلوك، ونمط الحياة ككل كل ذلك لم نتمكن من اعتماده بعد إعادة تشخيصه في حالة شاكر، لكنه شُخص على أنه حالة من "اضطراب الوسواس القهري ذو الضلالة الجنسية المثلية": بمعنى أنه واعٍ بأفكاره، مُدركًا لمرضه، لكن أفكاره المتكررة حول احتمالية أنه شاذ جنسيًا قهرته وسيطرت عليه، استمر شاكر في العلاج وتمكن من الزواج، وتخلص من كافة الأعراض، غير أن بقاياها ظلّت معه، لذلك استمر في المتابعة مع طبيبه المعالج، ومع المعالج المعرفي السلوكي، الذي فسّـر له المواقف ذات المفاهيم المغلوطة وكيفية عقلنتها).
هنا يتضح أهم فرق بين حالة “سيدة” وحالة شاكر، هي أنه "هو" الذي كان يحس بنظرة الآخرين إليه، عكس “سيدة” التي كانت هي التي تجد نفسها تنظر إلى الآخرين قهرًا، العامل المشترك بينهما هو التركيز على الآخر في نظرته إلى العورات.
(حالة أخرى: حمد 40 سنة متزوج وعنده 4 أولاد، لم تكن والدته تنظر إليه بعينها إطلاقًا، لهذا فلقد تعلم وورث هذا السلوك، بجانب أنه حينما كان ما بين سن الـ 20- 25 سنة، بدأ في تعاطي الحشيش، الذي سبب احمرارًا في عينيه (مثل “سيدة” التي احمرَّت عيناها من فرط النظر بزاوية إلى الغرباء في الطريق)، لهذا كان حمد يهرب بعينيه من الناس، بالذات أهله وعشيرته، حتى لا يشكّون في تعاطيه للمخدرات، بدأت عينه تسـرح وتنظر للعورات، ثم بدأ يخجل، أحسّت زوجته بأن هناك أمرًا جللاً، لكنها لا تدركه، تعلمت كيف تتقبله، لكنها أخبرته ذات مرة "يالله.. نظرت لي يا حمد نظرة دخلت روحي"، كانت نظرة عفوية ما أجملها، كان ذلك تعبيرًا عن دهشتها للنظرة العادية)، لم يركز حمد في كلامها، كان ينسـى الأشكال والأسماء والأحداث، ويصف نفسه بأنه (شكّاك) منذ الصغر، مما يدل على علامات إحساسه الاضطهادي (البارانوي).
بعد وفاة والدة "سيدة" وهي في التاسعة عشـر من عمرها، أي منذ حوالي 11 سنة من أول كشف طبي نفسـي لها، أي وهي في آخر مراحل مراهقتها، وهي تستعد لدخول عالم المرأة من بوابته الملكية، كانت “سيدة” مبعثرة الذوق في ملابسها، لم يكن هناك أي تناسق، اختلفت لديها الأعراض في شدتها، وأصبحت تتعايش معها وكأنها مرض مزمن.
لم تكن “سيدة” صريحةً كليةً في جلسات السيكودراما (العلاج الجمعي بالمسـرح التلقائي)، لإحساسها بالإحراج، كانت وهي تشكو وهي تحكي في حالة وعي كامل، يقظة تامة، انتباه لكل ما يدور حولها وما يدور داخلها، وكانت أيضًا وهي في الشارع أو المدرسة مُستنفرة تحفزًا وتحسبًا للآخر، وما قد يفعله، لأي حدث أو أمر عارض، أو غير متوقع.
كان لديها الوعي والإحساس المفرط بالأشياء وبالآخرين ووجودهم، فما أفقدها حالة التلقائية التي تستمر بها الحياة كضـربات القلب والتنفس، كان سلوكها روتينيًا ممتدًا شمل كل أوجه الحياة، مما خلق جوًا من الكآبة والإحساس بالضيق والاختناق، هكذا بدت “سيدة” كجندي الحراسة، حالة راصدة لا تملك حريتها.
التحليل: لعل أهم حدث في حياة “سيدة” هو فقدانها لوالدتها التي توفت وهي بعد 19 سنة، وعلى الرغم من أن البعض يرى أنها ليست صغيرة، إلا أن الـ 19 هو نهاية سن المراهقة وبداية سن الشباب، حيث تكون البنت في أشدّ الاحتياج إلى سنَد وظهر من أمها، التي تختلف هنا عن أبيها (لأنها امرأة مثلها)، تدرك أسرارها وتتمكن من العناية بها اجتماعيًا ونفسيًا، والأم للبنت أهم في التكوين الأساسي للمرأة، وبالطبع فإن وجود الأب واستدماجه في العقل الباطن، مهم للغاية لتكوين الرجل والمرأة، إلا أن الأم أمرٌ مختلف بالنسبة لتكوين البنت بشكل خاص، لقد أثبت البحث العلمي أن البنات اللاتي يفقدن أمهاتهن يعانين من توتر وقلق نفسـي واكتئاب وانخفاض اعتبارهن النفسي، في حالتنا هنا كانت هناك أحاسيس مختلفة تتعلق بالأنا وعدم الإحساس بالأمان وبالترقب.
التشخيص: يُلاحظ في حالتنا هذه غياب الضلالات والهلاوس، لكن هناك اعتقاد وإدراك خاطئ بخصوص العالم والناس، درجة تفكيرهم في “سيدة”، واعتقادها بأنهم يظنون فيها سوءًا.
هناك درجة عالية من التحفز والترقب وتفسير سلوكيات الناس العادية على أنها مؤلمة ومعادية وتحمل سوءًا، مما يجعلنا نرى أنها مريضتنا تعاني من (اضطراب الشخصية الاضطهادية Paranoid Personality Disorder).
لكن إلى أي مدى اعتمد الطبيب في تشخيصه على بعض الأعراض؟
أظهرت المريضة سلوكًا مستمرًا من عدم الثقة بالآخرين وتأويل حركاتهم ونظراتهم بشكل مرضي كما أنها يقظة على الدوام وكأنها (تمسح) العالم حولها بحواسها لتفحصه وتتأكد من أنه ليس معاديًا لها كما أن مشاعرها وعواطفها ليست بذات معنى، وتميل إلى أن تكون منعزلة عن الواقع الاجتماعي ومنفصلة عنه وكأن كل شيء يدور حولها يدور عنها، وتقول منظمة الصحة العالمية في تحديدها للأعراض أنها تحوي حساسية بالغة، وتحمل الضغينة في قلبها بسبب وبدون (بتشيل كتير جواها)، تشوه التجارب الحياتية التي تمر بها وتفسد طعم الحياة ولونها، الأفكار تتمحور حول آراء الناس ونظراتهم وأفكارهم التي تنحو نحو السوء والظن والشك والمؤامرة.
أهم طرق العلاج كانت العلاج النفسـي "العلاج النفسـي العميق“ الحوار الديناميكي، كان الدكتور يغوص في حياة “سيدة” يفرزها ويحللها، كما لجأ للسيكودراما كنوع ممتاز من فحص علاقة “سيدة” بالآخرين، ويقال إن نسبة هذا الاضطراب 0.5 % إلى 2.5 من عدد السكان وحوالي 2-10% من المرضى النفسيين.
درجة التقدم واحتمالات الشفاء Prognosis: في معظم حالات اضطراب الشخصية، يكون العلاج عسيرًا والتقدم بطيئًا مشوبًا باحتمالات التعثر والانتكاسة، لكن إصرار الطبيب المُعالج وتبنيه للعلاج النفسـي الديناميكي، الذي يغوص في كوامن النفس، يواجهها ويكشفها ويحللها ويؤولها، يجعل من فهم المريض لاضطرابه أداة مساعدة لاستعادة وعيه وسواءه.
الشخصية الاضطهادية أو (البارانوية Paranoid Personality Disorder) نتمكن من إدراكها، في إطار فهمنا لنمو الإنسان نفسيًا، فكما ينمو لحمًا وعظامًا وعقلاً، يتطور وينمو نفسيًا؛ فالعالمة الكبيرة ميلاني كلاين Melanie Klein صاغت نظرية العلاقات بالشـيء، بمعنى التفسير التحليل النفسي لحياة الطفل بعد ولادته من خلال ثلاثة مواقف: (البارانوي Paranoid الاضطهادي، الفصامي) وكذلك الموقف الاكتئابي.
إن اضطراب شخصية “سيدة” هنا قد ظهر غالبًا بعد توقفها عن النمو، في مرحلة مبكرة قبل وفاة أمها وهي 19 سنة، وغالبا أن هناك عاملاً بيولوجيًا، لم تتضح سيرته من “سيدة” خلال الفحص الطبي النفسـي، لكن فقدان الأم بالوفاة، أحدث حالة من عدم الأمان الوالدي وارتباكًا سيئًا، تولدت عنه مخاوف من غزو خارجي من الآخرين، اضطرت “سيدة” إلى رصده وصدّه بالتدقيق فيه بزاوية عينيها حتى الاحمرار، أو بالهروب منه في حـالة الانتقال من مكان سكنها لآخر ولما سافرت للعمل في دولة خليجية زاد الأمر سوءًا، إلا أنها ظلت حبيسة مخاوفها من الآخر.
أي أن هناك في "سيدة" أي ما يفصل بين ما هو “أنا" و"هم “من منظور مدرسة العلاقة بالموضوع Object Relations Theory، بمعنى أن تطور علاقة الطفل منذ ولادته بأمه، لها أسماء تبدو مرضية، وهي ليست كذلك، حين نقول الموقف الشيزيدي Schizoid، لا نعني الفصام نسبة إلى Schizophrenia، وحين نقول الموقف البارنوي أو الاكتئابي، لا نعني أيًا من مرضَىْ البارانويا أو الاكتئاب، كذلك فإن كلمة “موقف” Position (كما قال الرخاوي) لها أهمية خاصة، لأنها تشير إلى أن الموقف ليس إلا محطة مؤقتة لنوع من العلاقة ينتقل منها الطفل إلى موقع آخر وهكذا.
نشرت في مجلة الشباب ـ مؤسسة الأهرام ـ عدد أبريل 2014
اقرأ أيضا:
شخصية زورانية أم أفكار زورانية / هل أنا زورانية؟! / عملية زورانية Paranoid Process م2 / ظناني أو زوراني المهم العلاج! / أفكار زورانية أم أعراض هذيان؟