الحلقة "5" تنهى عن الفحشاء والمنكر - 1
إن الصلاة وتلاوة القرآن تولدان في النفس ناهياً عن الفحشاء والمنكر، ولكن كيف يتم ذلك؟ الآلية الأولى التي يمكن أن يتولّد بها هذا الناهي في النفس من الصلاة وتلاوة القرآن هو الحالة التي يسميها علماء النفس (التنافر المعرفي) Cognitive Dissonance إذ يرى المؤمن الذي يصلي لله خاشعاً والذي خشع قلبه لذكر الله فيتلوه ويلين له، هذا المؤمن يكون مفهومه لذاته، وتصوره لنفسه أنه (إنسان مؤمن طائع لله). وهذه الفكرة الصحيحة عن نفسه تتعارض مع الفكرة والتصوّر الذي ينتج عن وقوعه في الفحشاء والمنكر، وهو أنه: (إنسان عاص لله متّبع لهواه).
وقد وجد علماء النفس أن اجتماع تصوُّرين ومفهومين متنافرين متعارضين لدى الإنسان عن ذاته يسبّب له انزعاجاً وضيقاً ويدفعه إلى التخلص من هذا التنافر بين ما يعرفه عن نفسه، وذلك إما بالامتناع عن سبب هذا التنافر وهو هنا الوقوع في الفحشاء والمنكر، وهذا ما ذكره الله عن المتّقين الذين إذا فعلوا فاحشة ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم، ولم يصرُوا على ما فعلوا وهم يعلمون، وإما أن يحلّ الإنسان التنافر بتغيير ما يؤمن به بخصوص السلوك المسبب للتنافر المعرفي لديه، وهذا مستحيل هنا إذ لا يمكن للمؤمن أن يرى في الفحشاء والمنكر إلا عصيانا لله وإتباعا للهوى.
أما إن استمر في الجمع بين الحالين المتنافرين فإنّه سيبقى يعاني من التوتر والانزعاج الذي يدفعه ويحثه على إزالة هذا التنافر، وبذلك يكون لديه في نفسه من الدوافع ما ينهاه عن الفحشاء والمنكر. أما الآلية النفسية الثانية التي يمكن للصلاة وتلاوة القرآن أن تشكلا بوساطتها ناهياً نفسياً للمؤمن عن الفحشاء والمنكر فهي آلية "الذكر واليقظة" حيث لا يمكن للمؤمن أن يقع في الفحشاء والمنكر دون إكراه إلا وهو في حالة من "الغفلة" أو ما يسميه علماء النفس "الإنكار denial" حيث يتصرف الإنسان وكأن الأمر الذي يعلم بوجوده لا وجود له، فالمؤمن يقع في الفحشاء والمنكر حين يمارس هذا الإنكار النفسي، والتغافل عما توعّد الله به من العقوبة على هذه الفحشاء أو ذلك المنكر، وهذا والله أعلم معنى ما جاء في الحديث الشريف من أنّ المؤمن لا يزني وهو مؤمن، ولا يسرق وهو مؤمن..الخ.
روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن. ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن. ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن". فهذا لا يعني أنّه ساعة ارتكابه للزنى أو السرقة كان كافراً مرتداً، إنّما كان لا يعيش حالة الإيمان المُتَيَقِّظ الواعي الذاكر، إنّه أبداً لم يغيّر عقيدته لحظة الزنى أو السرقة، إنما تغافل عنها، وأبعدها عن شعوره، تماما كما يفعل المصاب بالجلطة القلبية وهو يصر على الاستمرار في بذل الجهد الذي ينهاه عنه الأطباء لما فيه من خطورة على حياته.
إنه لا يريد أن يعيش بمشاعره ما يعرفه بعقله، من أنّ قلبه مريض، وأنه لم يبق ذلك القوي المعافى، وهكذا المؤمن عندما يستجيب لشهواته، يبقى عقله مدركاً لحقائق الإيمان كلها، ولخطورة ما يرتكبه، لكنه يزيح هذا الإدراك عن شعوره ووعيه، ينكره نفسياً، أو بالمصطلح الإسلامي: يتغافل عنه.
وهنا تأتي الصلاة خمس مرات كل يوم بوضوئها وقيامها وركوعها وسجودها، وتأتي تلاوة القرآن في الصلاة وخارجها لتجعل من الصعب على المؤمن أن يتغافل، أو ينكر نفسياً ما يعلمه من أنّ الفحشاء والمنكر يضعانه في خطر الوقوع في عذاب الله، وبذلك تكون الصلاة والقرآن مصدري نهي نفسيّ عن الفحشاء والمنكر. أمّا إن وقع هذا المؤمن التقيّ في المحظور فإنه سرعان ما يعود، فيذكر الله، ويستغفر لذنبه، قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ{135} أُوْلَـئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ{136}} (آل عمران:135-136).
ويتبع>>>>>> : تأملات نفسية في الصلاة6_7
واقرأ أيضاً:
بصائر نفسية إسلامية (4) / أسس النظرية النفسية الإسلامية الأولى4 / منهج الفقهاء في التعامل مع الوسواس القهري
واقرأ أيضاً:
بصائر نفسية إسلامية (4) / أسس النظرية النفسية الإسلامية الأولى4 / منهج الفقهاء في التعامل مع الوسواس القهري