سيكولوجية الجماهير2 : مفتاح شخصية الجماهير العربية
حين هبت الجماهير العربية في ثورات متتالية وثورات مضادة نجح بعضها وبعضها مازال في الطريق، كان هذا دافعا لدراسة أحوال الجماهير العربية وخصائصها. وسوف نحاول أن نقرأ بإيجاز نتائج دراسات نفسية واجتماعية كثيرة، ولنبدأ بالخصائص الأساسية المعروفة من سنين طويلة عن الجماهير العربية ثم نختتم المقال بما حدث من تغيرات بعد ثورات الربيع العربي. ونعتذر للقارئ عما قد يسببه الوصف من صدمة تجرح النرجسية العربية المعتادة، فالعلاج لا يتم بغير تشخيص دقيق وموضوعي ومحايد .
1 - السلبية :
ربما يدهش بعض المراقبين تلك السلبية الشعبية غير المسبوقة تجاه الأحداث الساخنة، والحقيقة أن هذه السلبية ليست حالة طبيعية وإنما هى نتيجة جهود حثيثة عملت على مدى سنوات طويلة على خلق حالة من السلبية الفردية وإعلاء قيم المصلحة الذاتية، وإعاقة أي بادرة للتجميع أو الفعل، والهدف في النهاية هو التأكيد على بقاء الوضع القائم برضا الجميع .
وقد لعب الإعلام الموجه دور كبير في ترسيخ سلوك السلبية بطريقة كمية ونوعية، فلو حسبنا الساعات التى يقضيها الناس أمام شاشات التليفزيون لوجدناها بالملايين، أي أن هناك ملايين الناس يقضون ملايين الساعات أمام الشاشة وليس لديهم أية رغبة في مغادرة غرف النوم حيث تقبع هذه الشاشة اللذيذة.
والأمر لا يقتصر على استهلاك طاقة ملايين الأجساد وإنما يمتد إلى عقولهم، فكثير من البرامج تقتل ملكة التفكير النقدي وتدع الشخص في حالة تلقي سلبي لكل ما يراه على الشاشة أو معظمه فهو مستلق على ظهره يشاهد برامج مبلدة للعقول ومخدرة للتفكير النقدي الواعي ومحشوة بالتفكير الخرافي أو الاستهلاكي وقاتلة لأي قدرة على الفعل الاجتماعي الجاد والمؤثر.
وهذا النوع من المشاهدة السلبية يعود المشاهد على أن دوره لا يتعدى حالة المشاهدة فهو كل يوم يرى في نشرات الأخبار من يقتلون أو يدمرون أو يزورون وهو لا يبرح مكانه أمام الشاشة وفي غرفة نومه ومن هنا تتكون لديه عادة الاكتفاء بالمشاهدة وفي أقصى تقدير التحسر على ما يحدث والدعاء على من يفعلون والغضب ممن يسكتون وفقط .
2 - القابلية للإيحاء والاستهواء والاستلاب :
هذه إحدى الخصائص الهامة في الجماهير خاصة حين يتدنى مستواها التعليمي والثقافي فتصبح فريسة لأي شخصية قادرة على اللعب على مشاعرها وتصوراتها واحتياجاتها فتندفع بلا عقل إلى التصديق والاتباع دون تثبت أو تحقق ويساعد على ذلك غريزة القطيع التي تشكل نوعا من الضغط الجماعي على الناس فيندفعون إلى اتجاه معين لا لشيء إلا لأن غيرهم مندفعين أو منساقين إلى نفس الاتجاه.
وهذه الخاصية يلعب عليها كثيرا السياسيون أصحاب الشخصيات الكاريزمية حيث يمتلكون القدرة على إلهاب حماس الجماهير وتوجيههم إلى حيث يريدون، وفعلا تستجيب تلك الجماهير وهي مغمضة الأعين وتسلم قيادها إلى من تثق به ثقة عمياء دون أن تسأل إلى أين؟. وفي انتخابات العالم الثالث غالبا لا تطرح برامج حقيقية للمرشحين وإنما ترفع شعارات رنانة تحرك المشاعر ولا تقنع العقول فالعقول هنا لا تعمل ولا تفند أو تنتقد .
3 - أخلاق العبيد :
حين يعيش شعب من الشعوب تحت أنظمة استبدادية لفترات طويلة في تاريخه دون أن يتمكن من تغيير هذه الأنظمة فإن أفراد هذا الشعب يكتسبون صفات العبيد، فيتعاملون مع كل صاحب سلطة بالخضوع والخنوع والاستسلام، ويرون أنهم غير جديرين بالحياة الكريمة، ويرضون بالفتات الذي يلقى إليهم من يد السيد صاحب السلطة والسطوة. وشيئا فشيئا تذوب الكرامة وتنمحي النخوة والعزة والرجولة وتسود صفات الانتهازية والنذالة والجبن والتسول المهين، وينطبق على الناس في هذه الحالة ما قاله الشاعر :
ستون عاما أنحني
منذ كنت يوما سيدي طفلا رضيعا
واليوم تأمرني لأرفع هامتي
فبكل أسفي سيدي لا أستطيعا
4 - السادوماسوشية :
ومع الوقت يتعود الناس على القهر والإذلال، بل ويصبح مطلبا نفسيا لهم، إذ يستعذبون الشعور بالظلم وخاصة حين تسود ثقافة "يا بخت من بات مظلوم ولا بات ظالم" فالناس حينئذ ينقسمون إلى ظالم ومظلوم، فيختار أغلبهم موقع المظلوم الذي ينتظر إنصافه في الآخرة من الظالم، وهذه هي بذور الماسوشية في سلوك الجماهير.
وعلى الرغم من هذا الخضوع الماسوشي من الجماهير تجاه كل من يملك سلطة عليهم إلا أننا نجد في المقابل حالة من السادية تجاه من هو تحتهم، بمعنى أننا نجد الموظف يقبل حذاء رئيسه في العمل ، ثم حين يتعامل مع بقية الناس من الجمهور الذي يتردد عليه لقضاء مصالحة نجده يذيقهم أشد العذاب ويوقف مصالحهم ويذلهم ويبتزهم بوعي أو بغير وعي، وحين يذهب هذا الموظف إلى البيت إما أن تجده زوجا جبارا مستبدا أو تجده خاضعا مستسلما منسحبا وذلك طبقا لموازين القوى بينه وبين زوجته. أي أن الناس في هذه الظروف المشوهة تتعامل بماسوشية (خضوع واستسلام وتلذذ بذلك) مع الأعلى وتتعامل بسادية (قهر وتعذيب واستغلال وتلذذ بذلك) مع الأدنى، وتغيب في هذا الجو العلاقات السوية الناضجة بين أغلب الناس .
وقد فاجأت الجماهير العربية كل المحللين والمراقبين بانطلاقات الثورات العربية واحدة تلو الأخرى واتضح أن ثمة جيل جديد يحمل فكرا جديدا وروحا جديدة ووعيا جديدا وقدرة استثنائية على إسقاط النظم المستبدة العتيدة، وراود الناس الأمل في تغيير شامل في تركيبة الجماهير العربية ولكن انتكاسات سلوكية حدثت في المراحل الانتقالية أدت إلى حالة من النكوص والارتداد لدى قطاعات كبيرة من الجماهير فكفرت بالثورة والثوار ولم تستطع إكمال الطريق، ولكن مازال السجال مستمرا حتى الآن، فهل ينجح الوعي الجديد أم تعود الجماهير إلى طبائعها القديمة؟
واقرأ أيضاً:
صناعة الدكتاتور / الكلمة تقتل.. والكلمة تحيي / إسلامية بالشطة، أو علمانية بالسم الهاري!! / العضّاضون والعضّاضات