يُدشن العالم العربي مرحلة جيدة تتسم بالإنهيارات القيمية، وتصدع الحدود السياسية للدول بالتوالي وفقاً لنظرية (الدومينو)، مع بروز مؤشرات نوعية وكميّة تؤكد حجم التغييرات التي من الممكن حصولها في ظل الانقسام والانهيار العربي، ومن اللافت للنظر ظهور أطراف دولية فاعلة كبديل لسابقتها، تنتهج أعتى وأقسى الأساليب لغرض الوصول والتواجد والهيمنة في عالمنا العربي، وأضحت هذه القُوى تُهيمن على مجريات الأحداث بشكل صلب ـــــ باستخدام القوة ـــــ، وتُسهم بشكل فاعل في إذكاء النزاعات والصراعات والفوضى في عالم عربي نسف تاريخه، وهدم جغرافيته السياسية، ومزّق مجتمعاته، وأضحى يبحث عن حليف غائب أو صديق معتدي أو طامع غادر، وجميع المؤشـرات تقودنا إلى حقيقـة أننا أمام إعصار وطوفان يُسـفر عنـه إعادة تشـكيل العالم العربي من جديد إلى دويلات متناحرة ومتصارعـة، تخوض صراعات وحروب لسـنين تُسـتنزف من خلالها مواردها البشـريـة والماليـة والقيميـة، ضمن ما سُمي بحرب "المائة عام" أو "حدود الدم" كما سماها (رالف بيترز) 2006.
صراعات المستقبل
(صموئيل هنتنغتون) أستاذ العلوم بجامعة (هارفرد) ومؤلف كتاب "صراع الحضارات" عام 1996، والذي أثار نقاشاً كثيراً داخل وخارج أمريكا، وله مؤلفات أخرى تُحاكي علم المستقبليات وفقاً للظواهر السياسية والعسكرية والاجتماعية الزاحفة، وقال (هنتنغتون): "لن تكون الأيديولوجيا والاقتصاد أسـاس المشـاكل العالميـة في المسـتقبل ولكن الثقافات هي المشـكلـة، وسـتظل الدول تلعب السـياسـة الدوليـة مع بعضها بعضاً، ولكنها أحياناً سـتلعب مع مجموعات حضاريـة وثقافيـة مختلفـة، لهذا لن يكون الصراع في المسـتقبل بين الدول، ولكن بين الحضارات" وعند قراءة ما ذهب إليه بعقلانية بلا عواطف سنجد أنه كان مُصيباً لفهمه طبيعة القوة وتمددها، وشكل الرغبات وجشعها، وعُهر السياسة ودسائسها، وجهل المجتمعات وتخلفها بالرغم من وصول التقنيات لها، وأجاد التنبوء القريب بما سيحدث في عالم مضطرب تسوده شريعة الغاب بلباس القانون الدولي.
السيطرة عبر التفوق العسكري
حيث قال (هنتنغتون): "لم يُسـيطر الغرب على العالم بسـبب أفكاره وآرائـه ودينـه بل بسـبب تفوقـه العسـكري، وينسـى الغربيون دائماً هذه النقطـة، لكن غير الغربيين لا ينسـوها أبداً." نعم أجاد في ذلك والدليل حُمى التسلح بين الدول المتمركزة والفاعلة وسوق السلاح لوكلائهم الإقليمين، وتبادل أدوار القوة بين إقليم وآخر على مستوى الرُقع الدولية ليدحض وبقوة أي معادلة للتوازن والأمن والسلم الدوليين، والذي يُعد أكذوبة تتشدق بها القوى الكبرى الفاعلة، والدليل إدامة سوق السلاح بشكل يفوق التصور وتعالي عقيدة الفوضى والاضطراب لتجزئة القوة وخصخصتها وترويج تجارة الأمن وصناعـة الإرهاب..!!
ديمقراطية على أجنحة الحرب
حيث قال (هنتنغتون): "يجب على الغرب أن يُقوّي نفسـه داخلياً، ويتخلى عن عالميـة الديمقراطيـة، وعن التدخل المباشـر في شـؤون الدول الأخرى خاصـة دول العالم الثالث." وقد كان مُصيباً لأن القُوى الفاعلة تجد في العالم الثالث دول متخلفة وشعوبها مُستباحة وسوقاً متعدد الأغراض، يستنزف كل شيء بلا تردد وتقييس، وأضحى سوقاً متنوعاً يستهدف الموارد البشرية والمالية، والدليل واضح خصوصاً بعد عقد الحرب على الإرهاب 2001 وغزو العراق تحت مبرر "الديمقراطية والحرية"، وصعود الأصولية الطائفية للسلطة، حيث أصبح المواطن العادي في أي بلد ضحية الـ (روبوت) الطائر المتفجر وبمبرر "الحرب على الإرهاب" خصوصاً بعد شيطنة وسائل الإعلام لهذا المجتمع أو ذاك الشعب، ليُبرروا استخدام الأسلحة والمتفجرات المخزنة والفاقدة الصلاحية، والقيام بتجارب أسلحة جديدة في العالم الثالث،ولعل الحرب على الأنبار في العراق أفضل مثال على الهمجيـة وجشـع شـركات السـلاح وأدواتها السـياسـيـة، حيث يُقتل الأبرياء بالسـلاح الروسـي والصيني والأمريكي الذي بيع بمليارات الدولارات في حرب محدودة عبثيـة بدوافع طائفيـة إنتخابيـة ألقت بظلالها على التماسـك المجتمعي، وأكدت للعراقيين وللعالم برمتـه أن المجتمع الدولي لا وجود لـه ولا قيمـة لمؤسـسـاتـه في ظل قتل المدنيين الأبرياء والعُزل بدم بارد وبالمئات يومياً..!!
استهداف غير مبرر
حيث قال (هنتنغتون): "ليـس الإسـلاميون هم التهديد الحقيقي للغرب، ولكن الإسـلام الحضارة المختلفـة التي يؤمن أصحابها أن ثقافتهم هي الأعلى، ويُحسـون بحرج كبير بسـبب ضعفهم." وهذا صلب الواقع المضطرب والفوضوي اليوم؛ حيث دأبت دوائر المخابرات الدولية والإقليمية والعربية على إنشاء التنظيمات والمليشيات المسلحة بإطار ديني مذهبي يبحث عن عناصر القوة المفقودة، في ظل مجتمع دولي مزيف تسوده فلسفة "الغاية تُبرر الوسيلة" والقوي فيه يأكل الضعيف، كما حصل في أوكرانيا والعراق وأفغانستان وسوريا و و و و... والقائمة تطول، وبدلاً من أن تكون الدول ذات الغالبيـة الإسـلاميـة دولٌ مزدهرة متطورة قويـة فاعلـة في المسـارح الدوليـة، أصبحت مُهددة مُفككـة مُمزقـة تسـودها الحروب الداخليـة، وتُعاني من الاسـتنزاف القيّمي والمالي والبشـري، وتغييب عنها نظريـة الدولـة وسـياسـة الإحتواء والإقناع والعدالـة والمسـاواة، وتبحث حكوماتها عن عدوٍ داخلي تفاعلي تكسـب من خلالـه ود الدول الفاعلـة لتكون سـوق للفناء البشـري ومسـرحاً لـ (مافيا) السـلاح والأمن العالميـة..!!
صدق هذا المفكر في رؤيته منذ عشرون عاماً، وعندما نُجسد الواقع السياسي المضطرب والظواهر الفوضوية في العالم، وسوء إدارة الملفات الاقتصادية والسياسية والأمنية دولياً، يتأكد لنا ما ذهب إليه وما حذّر منه، خصوصاً جشـع وطمع وغطرسـة الدول الفاعلـة الكبرى التي تصنع الحروب وتبيع السـلاح، وتُذكي النزاعات وتنهب الثروات، وقد لفت نظري مقاربتـه الذكيـة أن الحرب لم تعد بين دول بل بين ثقافات أو حضارات، وكان دور وسـائل الإعلام في تشـكيل هذه الثقافات أو نحر ما قبلها مريب وخطير، وهذا ما يتجسد بشكل فاعل في مراكز دراسات مزيفة الانتاج تبحث عن راعي مالي وتُغني له ما يحب أن يسمع، وتُعطي ظهرها للحقيقة والواقع والمخاطر الحالية والوشيكة، وكذلك وسائل إعلام متعددة يسودها القطبية المضللة، ورسائلها تبدو سطحية ولكنها مريبة في هيكلة عقول الجمهور وحرفها عن القيم والتهديدات والمخاطر، وتصنع حروب إفتراضية لتتسق بالواقع، وتُهيكل العقول نحو أعداء وهميين، وتغض البصيرة عن العدو الحقيقي، إنه العالم اليوم في صراع الثقافات وتسوده حرب الأفكار والعقائد باستخدام الوقود البشري..!!
واقرأ أيضًا:
مؤتمر حوار الحضارات / في مواجهة انحراف الحضارات / لماذا يفشل العرب في تأسيس مجتمع المعرفة؟ / خطورة خلق صور ذهنية سلبية!