حينما يشتد عمل الدماغ بإنتاج الأفكار وتدور رحى الصراع بينها ولم تجد لها منفذا لأن تصبح واقعاً من النتاج الفكري؛ يكون صاحبنا قد مزقته هذه الشحنات الهائمة، ويكون حاله حال الذهاني"مريض العقل" الذي ينتج ويخزن حتى يصل الأمر به إلى الهلوسة أو الهذيان.
نقول له أطلق عنان تفكيرك، أخرج هذه الشحنات بفكر أو رواية أو قصة أو مسرحية أو كتاب أو مقالة، حتى وإن فقد وحدة الموضوع ولكنه سوف يدل على ما تريده ولو بشكل عشوائي ومبعثر ..
وقول أستاذ الأجيال عالم التحليل النفسي"مصطفى زيور" : أن الحقيقة العميقة المستترة في هذا التصوير الأسطوري في النفس أثناء جهادها للمعرفة، لا تقتصر أن تكون مرآة تعكس الأشياء، لأن الانتقال من المعرفة المشوشة إلى المعرفة الواضحة الجلية، ضياء وشفاء للنفس معاً، ولا تقتصر النفس على استقبال المعرفة، وإنما هي مصدر أصيل من مصادرها، فما يجول في دواخلنا من أفكار هائمة إن لم تخرج بنتاج ينفع الناس حاضرا ومستقبلا فإنه سيرتد إلى الداخل ويمزق كل أحشاء الجسد، ويحدث هذا لاشعوريا، دون السيطرة عليه، ولا يقل بقوته عن قوة زلزال الأرض أو أعاصير الطبيعية حينما تقلع البيوت والأشجار وهي هائجة.
دعونا نقرب الصورة أكثر ونرى ماذا يحدث لدى الفصامي حينما تشتد به نوبة التركيز في التفكير، وجل مرض الفصامي هو التفكير فقط بالشدة والقوة والهيجان حيث لا يجد منصرف له من أفكار، فيمزق داخله إن لم تخرج، ولكنه يتحول إلى طاقة هائمة فتخرج على شكل هلاوس وخيالات محبوسة داخل الدماغ تدور في فلك النفس فتنهك صاحبها.
إن "الفصامي" ينتج الأفكار ويكُونْ الرؤى وينتقل بها من موضوع لموضوع حتى وإن بدا غير ذي معنى، إلا أن في كل كلمة معنى! وفي كل فكرة دلالة! حتى وإن بدت غير ذات معنى، وأول بديهيات التحليل النفسي حينما درسناها على أيدي أساتذة كبار ومنهم العالم الراحل"فرج احمد فرج" رحمه الله .. أن كل ما يصدر عن الإنسان من سلوك له دلالة ومعنى، حتى وإن غاب عن التفسير.. رحمك الله أستاذ الأجيال ونحن تلامذتك في النصف الثاني من العقد السابع من القرن الماضي، كما تتلمذت وسرت على خطى أستاذك العالم الجليل مصطفى زيور.
إن النفس هي هي في كل ما يصدر عنها من صفات أو قواعد أو ضوابط أو أطر اجتماعية أو قيود أو حتى ونحن نقمع ما نريد لأنها أفكار مجنونة لا يقبلها المجتمع أو البيئة المحيطة بنا، لن تنمحى هذه الأفكار أو تنتهي بل تتحول إلى سلوك غير متوافق مع المجتمع السائد فيقول الناس أن هذا الرجل بدأ يخرف أو يخرج عن المألوف السائد، وعلماء التحليل النفسي يقولون لشخص ما أن النفس هي هي سواء أكان ما يصدر عنها هذيان أم إبداع فني، وإنها هي هي في أعماقها، سواء أكان ما يشغلها أحلام الليل أم نشاط الحياة اليومية وأن ما يصدق عليها هو هو سواء كان حاصل إنتاجها قصصاً خرافية وأساطير أو مسرحية تراجيدية أو فكاهة مثيرة للضحك.. أو نكات لاذعة.
إن أفكارنا هي تعبير عن حقيقة ما بدواخلنا، فإن قمعناها قدنا أنفسنا بالتدريج نحو المرض العقلي أو النفسي، فلنترك الأفكار تفضح ما بدواخلنا حفاظا على صحتنا النفسية واتزاننا الخارجي، فالداخل يفضحه سلوكنا في الخارج، حتى وإن كُبتَ أو قمع أو حيدَ أو تأجل ..إن خروجه كلما تأخر مزق أحشاء الجسد من الداخل فربما قرحة المعدة أو اضطرابات القولون وأخرى لا تعد ولا تحصى هي الدليل المباشر لكل ذلك..
اسمح لأفكارك أن تخرج وإلا ستكون مضطربا نفسياً..دعونا ننتقل بالفكرة إلى مرضى الفصام أو الاكتئاب العقلي ومعاناتهم مع الزيف الاجتماعي الذي هربوا منه إلى دواخلهم؟ لماذا أمسوا غرباء في مجتمعاتهم ومع أنفسهم؟!!
من التفكير تبدأ مشاكل الإنسان منها المبتدأ ومنها المنتهى!! حيث تبدأ العقد النفسية بلحظة غفلة من الزمن وتتشبث في العقل حتى تنمو هذه الأفكار وتصبح حملا ثقيلا لا يقوى البعض منا على حملها، فيكون ألوسواسي والهستيري والخائف بدون سبب أو مبرر من الناس وسميت " الفوبيا الاجتماعية " وغيرها من المخاوف الأخرى .. أنواع الفوبيا، أو ضروب الذهان ومنها برانويا العظمة أو الاضطهاد، أو هواجس الهوس بأنواعها أو حتى حالات الحصر النفسي أو توهم المرض، كل تلك مصدرها الأساسي التفكير، بشدته أو تطرفه.
ويؤكد أطباء وعلماء النفس قولهم تحدث الانفعالات الناجمة من شدة الضغط على التفكير إلى تشكيلة من الاضطرابات الحديثة ولكن ما يتسم بالأهمية ليس خطورة السبب الانفعالي وإنما هو السيادة التي يتمتع بها الدماغ، فصدى انفعال من الانفعالات وخطورته ينجمان عن عجز الدماغ وهو حقاً سيد السيادة على التفكير والجسم والسلوك، تقف الحياة حينها مكتوفة اليدين حيال توازن الدماغ والجسم وينتج عن ذلك أنه لابد من أن نبذل قصارى جهودنا لكي يتخلص الدماغ من سائر المثيرات التي تسبب له المتاعب والاضطراب وتحييد المواقف الحياتية الضاغطة في زمننا الحالي .. زمن كثرة المثيرات في بيئتنا مع عدم قدرة واتساع الدماغ لاحتوائها، هنا يكون خطر الانفعالات والتفكير العميق في مجاليه الشعوري واللاشعوري لمدد طويلة، لاسيما أننا على يقين تام بأن العقد المشحونة بالانفعالات والكبت واستهلاك التفكير حد الإنهاك تتصدر الأسباب الأولى من إنهاك الدماغ، بل تعد من أكثر أعداء الدماغ.
وقولنا في ختام هذه السطور ألا نجعل أفكارنا ..تمزقنا.
واقرأ أيضًا على مجانين:
ليس الفصام مرضا تسببه الجينات / على هامش الشيزوفرانيا / الابن يفارق عائلته: قصة عقار وطب نفسي معاصر