الوضع العربي الراهن يُشيع "الإحباط" ويجعله "سمة ثابتة" لدى شرائح اجتماعية متزايدة، بعد أن كان "حالة عارضة مؤقتة" في عقود خلت. لقد أضحى الأمر أكثر بؤسا وأشد خطرا من حالة شيوع الإحباط، وهو توصيف ظللنا نردده في السنوات الماضية، مما جعلني ألوذ بكلمة عربية جديدة عبر الاشتقاق اللغوي، وهذه الكلمة هي: "الاحتباط"، والتي أحسب أن لها قدرة توصيفية وتفسيرية أعلى. فما هو "الاحتباط"، وما سماته وما مستوياته وما آثاره؟ وما مسوغات إيجاد هذه الكلمة من الزاوية اللغوية والاصطلاحية؟ هذا ما سوف أعالجه في المحاور التالية.
من "الإحباط" إلى "الاحتباط"!
حياتنا الراهنة ولّدت حاجة أو وضعا جديدا يجعل من كلمة "إحباط" غير كافية لتوصيف الوضع المتردي في "النفوس" و"العقول"، فلم يعد بعض الناس "مُحبطين" من الخارج فحسب، بل باتوا "مُحتبطين" من الداخل أيضا، وهنا تكمن خطورة مستفحلة. وعند هذا الحد، نكون ملزمين بإماطة اللثام عن معنى "الاحتباط" وتجلية الفروق بينه وبين "الإحباط".
في الشق اللغوي، نقول بأن "الاحتباط" مشتق من جذر الكلمة ذاتها التي اشتقت منها كلمة "الإحباط"، فالجذر هو "حبط"، يبد أن كلمة "الاحتباط" اشتقت من صيغ "المطاوعة"، على وزن "افتعل"، كأن نقول: احتبط فلان أو احتبط شعب، كما كنا نقول: أحبط فلان وأحبط شعب. كما أن في "الاحتباط" زيادة في المبنى (حرف التاء)، ولذا فثمة زيادة في المعنى.
بشكل عام، "الإحباط" يشير إلى حالة نفسية مصحوبة بحزن عميق ومشاعر بالعجز واليأس بسبب تعويق وصول الإنسان لهدف يرتجيه، سواء أكان ذلك التعويق حاصلا بالفعل أو مهددا أو موحى به، وغالبا ما يكون التعويق من خارج الذات، وأكثر استخدامات الناس لمصطلح "الإحباط" عندما يواجهون ظروفا تقهرهم أو تعيقهم عن الوصول إلى ما يرغبونه من أهداف وتطلعات.
ولئن كان "الإحباط" شيئا من الخارج أو لنقل "كسرا من الخارج"، فإن "الاحتباط" شيء من الداخل أو "انكسار من الداخل"، وهنا نلمس فارقا كبيرا بين الاثنين، فالإحباط يمكن أن يزول أو يخف بتحسن الظروف الخارجية، وأما "الاحتباط" فقد لا يزول ولا يخف بتحسنها لأنه -كما قلنا- "انكسار من الداخل"، وهذا ملمح دلالي مهم للكلمة الجديدة "الاحتباط".
الواقع العربي يزداد بؤسا في أكثر الدول العربية بسبب عدم وجود مشاريع إصلاحية تواكب تطلعات الشعوب بشكل حقيقي، فالإصلاحات شكلانية في أغلب الأحوال، ولا تلامس المشكلة فضلا عن معالجته ودفع كلفته، الأمر الذي جعل الفساد المقنن يستشري، والعدالة الاجتماعية تغيب، وفجوة الثروات تكبر، والحريات العامة تضيق، والنهج الديمقراطي يُحارب، والتضليل الإعلامي يتمدد، مما يوسِّع هوامش "الخيبات" ويعدِّد مساراتها. وفي رأيي أن هذا الوضع البئيس أفلح -للأسف الشديد وبامتياز- في ترقية حالة بعض الناس من "الإحباط" إلى "الاحتباط".
"الاحتباط" هو: "اجتفاف" الأمل في العقول وتيبس الفأل في النفوس. ويمكن القول بأن "الاحتباط": موت دماغي للأمل الإصلاحي، وقد يحمل من ثم بذور حياة لنوع آخر من "التفكير العدمي"، يصل به الإنسان العربي إلى نتيجة مدمرة، وهي: استحالة الإصلاح السلمي التدريجي، مما يوقعه في أحابيل التغيير بالقوة والثورة، بما في ذلك الانجرار وراء شعارات جماعات العنف والإرهاب كداعش (تنظيم الدولة الإسلامية) وغيرها.
عتبة "الاحتباط"!
كما أن للإحباط "عتبة"، فثمة "عتبة للاحتباط"، وهي تشير إلى المستويات التي يمكن أن يلج فيها الناس إلى محيط "الاحتباط"، وهي متفاوتة بحسب طرائق تفكيرهم وأنماط شخصياتهم ومستويات تعليمهم ووعيهم وظروفهم المعيشية.
"هنالك مستوى من "الاحتباط" يمثل ما يمكن أن نسميه بـ"خط اللارجعة الاحتباطي"، فالإنسان قد يهوي إلى "نقطة سحيقة" من "الشعور القانط الحانق"، وقد يكره الإنسانُ فيها مجتمعه الساكت عن وضع يراه فيه "مجتمعا مهدورا" لا قيمة له، فضلا عن حقوق وامتيازات واجبة له، بل قد يتجاوز هذا الكره إلى درجة كراهة الإنسان لنفسه، فيتولد لديه شعور قاتل بـ"الاغتراب"، مما يدفعه إلى أن يتخلص من نفسه بـ"الموت"، سواء بانتحار معنوي أو شخصي، أو باللجوء إلى جماعات العنف والإرهاب، من أجل أن "يتخفف من وطأة نفسه على نفسه"! ويدخل في ذلك إيمان الإنسان "المحتبط" بما أسميه بـ"الثورة الماحقة"، والتي تعكس أي حراك شعبي تدميري فوضوي. والثورة الماحقة، هي باختصار: "شراكة فوضى وخراب".
مراحل "الاحتباط"
يمكن تصوير المراحل المحتملة للاحتباط عبر ما يلي:
1- وضع سلبي عام في البيئة المحيطة، بما في ذلك انعدام أو تعطل أو بطء المشاريع التي تعود بالنفع المباشر على المواطنين وتلبية احتياجاتهم اليومية، والإسهام في رفع جودة الحياة وفق ما يتطلعون إليه، فضلا عن حرمانهم من التمتع بالحريات العامة والمشاركة في القرار التنموي والسياسي. هذا الأمر يوجد مشاعر بالخيبة والحسرة لدى الكثير من الشرائح المجتمعية المهمّشة.
2- استمرار الأوضاع السلبية السابقة، وتكرر فشل الحكومات العربية في الوفاء بما تعد به من إصلاح وتطوير ومحاربة للفساد وترسيخ مقومات العدالة الاجتماعية، كل ذلك يؤدي إلى "انزراع الشك" في المشاريع والمبادرات والوعود الحكومية، مع تجذر مشاعر الخيبة والحسرة وامتزاجها بالحزن وشيء من اليأس.
3- ديمومة سوء الأوضاع العامة يدفع بالناس إلى الاقتناع بأن الحكومات "غير صادقة" في مبادراتها ووعودها، ومع انتشار المعلومة حول الفساد بكافة أنواعه واتساع فجوة النفوذ والثروة يصل بعض الناس إلى حالة "الإحباط"، والذي يعكس شعورا بالحزن العميق والشعور بـ"العجز اليائس" من تحسن الأحوال والأوضاع العامة.
وفي هذه المرحلة، يشيع التشاؤم ويتفشى اليأس، ويكاد بعض الناس يشككون في كل مشروع أو مبادرة حكومية، مع نزوعهم إلى التقليل من شأن الإنجازات المتحققة فعلا من جراء المشاعر السلبية المتزايدة.
4- انسداد أفق الإصلاح واشتغال الحكومات في صناعة الكلام التنموي والإصلاحي، وفشلها في محيط الأفعال، يدفع أعدادا متنامية من الناس إلى تجاوز "عتبة الإحباط" ليصلوا إلى "عتبة الاحتباط"، وحينها يُعمِّمُ أولئك شكوكهم حول كل شيء يمت بصلة إلى الحكومات، مع تكرس "الشعور القانط الحانق".
5- تراكم الخيبات والمشاعر السلبية والوعود المنقوصة أو الكاذبة يعمق من حالة "الاحتباط" ويصل بشرائح متزايدة من الناس إلى لون من "الشك المطلق" في كل شيء رسمي حكومي، وفي هذه المرحلة تتلبس نفوس الكثيرين بما يسمى بعلم النفس بـ"الكبح السيكولوجي"، والذي يشير إلى "ميكانيزم" يطرد كل الجوانب والأخبار الإيجابية، مبقيا على الجوانب السلبية فقط، الأمر الذي يوصلهم إلى حالة قصية من الحزن والعجز واليأس المطلق، وحينها يصلون إلى "خط اللارجعة الاحتباطية" في لحظة تولد فيها الأفكار العدمية والانشداد إلى جماعات العنف والإرهاب، وربما إلى "ثورة ماحقة". إنها مرحلة الموت الدماغي للأمل الإصلاحي.
المرحلة الحرجة التي تمر بها الدول العربية بما في ذلك الاستياء الشعبي والحراك الاحتجاجي -بكل صوره وأشكاله- وخطر جماعات العنف والإرهاب والتدخلات الخارجية، يوجب مسارعة الحكومات العربية إلى التخلي عن النهج اللاصلاحي والمماطلة في معالجة مشاكل الناس وهمومهم الحياتية، والتقاعس عن محاربة الفساد وزيادة هوامش إشراك الناس في القرار التنموي والسياسي بطرق ملائمة.
توصيفي الفارط لحالة "الاحتباط" لا يتنكر البتة لحقيقة أن ثمة شرائح عريضة جدا في المجتمعات العربية مع الإصلاح الهادئ التراكمي التدريجي، وأنها لا تزال تعتصم بالفأل والأمل، مما يحتم علينا المحافظة على اتجاهاتها الإيجابية، والسعي لاحتضان "التفكير الحضاري البنائي" الذي يؤمن بضرورة التعاون والتعاضد وبث الثقة وتعضيد رأس المال الاجتماعي في معركة الإصلاح والمراجعة الذاتية والتحديث.
إن أولئك يشكّلون "قبيلة الإيجابيين" في سياق يزداد سلبية وعتمة ويأسا وعدمية، وأحسب أننا مطالبون بأن ننظر إلى هذا القدر من الإيجابية والبنائية على أنه "مورد ناضب"، يستنزفه الفساد والاستبداد، وينميه الإصلاح والديمقراطية.
ولعله من المهم تأسيس ما يمكن أن يسمى بـ"إدارة الإحباط"، لتقديم المعونة الاستشارية للحكومات لكيفية معالجة الإحباط العام والحيلولة دون وصوله تخوم "الاحتباط"، شريطة أن يكون ذلك ضمن "مخطط إصلاحي حقيقي".
واقرأ أيضًا:
لماذا يفشل العرب في تأسيس مجتمع المعرفة؟ / هل نعيش (بِطنة دينية / و(مَسغبة أخلاقية)؟