نشأت وترعرعت في منطقة محترمة في حي الهرم ثم قضيت مراهقتي في مدينة 6 أكتوبر .. لم تطأ قدماي حياً شعبياً كبولاق الدكرور أو ناهيا أو الوراق أو مساكن النهضة.. وكذلك لم أترفع عن اللعب في الشوارع بالتراب وأوراق الشجر مع الفتيات أو البلي ودحرجة فرد الكاوتش القديم مع الصبيان وملاحقة أمي لي وتنبيهها لي بعدم ممارسة هوايتي في مصاحبة أبناء البوابين تحديداً والذين كانوا يستهوونني للعب، لا أعرف لماذا.
كنت أعرف في طفولتي أن هناك شارعاً مواز للهرم اسمه شارع فيصل لم أتخيل يوماً أنني سأجتاز الضفة الأخرى وأعيش فيه أكثر من 6 سنوات منذ زواجي .. تحديداً في شارع السلام خلف الكنيسة. كنت أتخيل فيصل كالهرم فهما متوازيان .. يبقى أكيد زي بعض.
( 1 )
قل: ورا الجامع، ولا تقل: ورا الكنيسة
يبدأ الشارع مع انعطافة ما يطلق عليه شارع لحوم الموسكي إلى اليمين بعد مرورك ببوابة الكنيسة الكبيرة ومع حركة اللف لليمين ستجد على شمالك جامع أنصار السنة المحمدية المسمى بالتوحيد بملحقاته الخدمية .. هو شارع يبدو مثالاً جيداً للوحدة الوطنية.
ربما تكون ميزة أن يقع على رأس شارع السلام كنيسة كبيرة ككنيسة العذراء والأنبا إبرام وجامع التوحيد التابع لجمعية أنصار السنة المحمدية بتوفيرهم خدمات لأبناء المنطقة والشارع خاصة بالحضانات والأنشطة والمساعدات المادية وتوزيع الطعام على الفقراء ولكن في الأعياد ستجده عيباً عظيماً .. ففي الأعياد المسيحية ينغلق الشارع بحواجز حديدية مما يعطيني إحساساً أن القنبلة ستنفجر حال مروري وأنا شايلة شنطة الخضار .. «هتنفجر دلوقت .. قدام الباب أهه .. خلاص هتنفجر هنا .. هووف الحمد لله».
أما في العيدين: الفطر والأضحى، فيستحيل شارع السلام إلى ممر عظيم للنساء المتجهات للصلاة – اتجاهاً واحداً ذهاباً والعكس إياباً – في الصيوان أمام الجامع وهو للنساء فقط أما الشارع الآخر الموازي للسلام فهو ممر للرجال المتجهين للصلاة أيضاً.
في عيد السعف أقف لأشتري مشغولات من سعف النخيل أستدير لأدخل إلى الشارع يرمقني ثلاثة مصلين، بجلابيب بيضاء قصيرة وذقون طويلة، باشمئزاز .. فيما بعد أتوقف عن دفع الزكاة للجمعية التي تأخذ فلوس الزكاة لإقامة ملحق في الجامع.
لا أفهم حتى الآن لماذا نبني جوامع ومساجد بينما نحن في حاجة إلى مدرسة أو عيادات مجانية .. القاهرة ذات الألف مأذنة تبحث عن تبرعات لتشييد مسجد .. بينما الآلاف مرميون في الشوارع على الأرصفة ينتظرون العلاج أو يشحذون اللقمة.
تسألنى فريدة: «هو إيه ده يا ماما؟» أجيبها: «دي كنيسة .. بيصلوا فيها لربنا» ترد عليا: «طب ما تيجي نخش نصلي فيها؟» أرد: «لا ما ينفعش احنا بنصلي في الجامع .. فيه ناس بتصلي في الجامع زينا وناس بتصلي في الكنيسة .. بس في الآخر كلنا بنصلي لربنا وكلنا بنحبه» يسمعنا سائق التوكتوك يسألني: «داخلة الشارع الجاي؟» أجيبه: «آه اللي ورا الكنيسة» يرد بانفعال: «بس هو اسمه شارع أنصار السنة يا مداااااام» بينما أصرّ: «لا هو اسمه شارع السلام وورا الكنيسة».
( 2 )
عم حسين أرابيسك
اسمه عم حسين بس، لكنني لقبته بهذا الاسم لأنه مثل حسن أرابيسك تماماً فهو فنان وبيشتغل بمزاجه .. ألمح شغله أمام ورشة النجارة .. أجدني أمام لوحات فنية بحق .. حجرات سفرة محفورة على أطرافها نقوش غير تقليدية يصنعها هو بيديه، بأدواته وليست فورمات جاهزة، شباك سرير رائع النهايات، أنتريه يبدو أنه متين .. «التاطش» ما بقاش زي زمان لمنتجات يدوية كثيرة لكن مش عم حسين.
أطلب منه أكثر من مرة أن يصنع لي حجرة نوم أطفال لفريدة .. يأتينى بالكتالوجات، أختار ونقرر ثم لا شيء .. فهو مش فاضي الأيام دي أو بعد الشتا هيبقى أحسن .. ثم إن الأيام دي صيام، بصي خلينا بعد العيد على طول .. لأتأكد تماماً أنه أرابيسك «أبو مزاجه».
( 3 )
فرن السلام اللي من غير يافطة أصلاً
لا توجد لافتة باسم الفرن الموجود في نهاية الشارع، يكتفي فقط أن تنساب رائحة الخبز الدافئة للبيوت عقب صلاة الفجر ليذكّر الناس بأهمية شراء العيش..
حتى الآن لا أستطيع استيعاب شيئين أولهما: طيران طائرة عملاقة في الهواء «بالتأكيد دي مش طيارات حقيقية اللي في السما .. بيضحكوا علينا بأشكال ورق وناس بتقول إنها ركبت الطيارة .. بس أنا مش عبيطة مش هصدق».
ثانيهما: الراجل اللي بيشيل العيش وهو سايق العجلة .. بحكم تواجدي في شارع نهايته فرن فأنا أقف كل يوم أمام معجزة .. كيف يتحكم بيد واحدة في توزان العجلة وباليد الأخرى بتوازن الأقفاص فوق رأسه ثم يتلفت في الاتجاهين برقبة قوية متوازنة أيضاً ليرقب سير السيارات ويرفع العجلة على الرصيف بيده ثم ينزلها ويركب مرة أخرى ويستكمل سيره منادياً:«بسسس .. كتفك يا أوستاااذ»؟ معجزة كسابقتها الطائرة التي تطير بثقلها بأطنان في الهواء.
( 4 )
زمن اليفط على المحلات انتهى
لم يكن الفرن هو المحل أو المنفذ الخدمي الوحيد في الشارع الذي بلا يافطة فهناك ورشة نجارة عم حسين بلا اسم وورشة المنجد عم يوسف بلا اسم، كذلك ورشة سمكري السيارات أسفل البيت المواجه لي بدون لافتة .. يكتفي الترزي بتعليق لوحة ورق كرتون كتب عليها بخط جيد «ترزي» .. وورشة تصليح الموتوسيكلات و «المكن» الصيني كما كتب عليها بفرشاة بخط ركيك تحولت إلى «رفا عادل وسمك زينة» فابن صاحب الورشة غيّر النشاط إلى رفا ووضع الكثير من الأحواض الزجاجية للأسماك والأقفاص لطيور الزينة مفسراً ذلك لي أثناء سؤالي عن جوز كناريا لفريدة «دي هواية من زمان .. أنا غاوي العصافير والسمك .. لكن شغلانتي الأساسية هي الرفا» هو يرى أنه يجمع بين عمله وهوايته.. حسنا.
يواجه «رفا عادل وسمك زينة» محل كوافير للسيدات ظهر منذ عامين على أول الشارع بموازاة جمعية أنصار السنة المحمدية حملت واجهته لافتة كبيرة على غير عادة الشارع «كوافير أختاه للمنتقبات» هكذا اسمه وهكذا انتقاؤه لزبائنه من المنقبات وبالتالي لم أطأ عتبته مطلقاً وترددت كثيراً على كوافير «سماح» أشهر كوافير في المنطقة وأغلاهم .. تدخل الواحدة حواجبها بايظة يطلعوها عاملة تاتو حواجب متقن بالهباب بينما تعتقد الزبونة أنها تمتلك حاجبي نانسي عجرم .. ثم انتقلت لكوافير «شادو » الأكثر تطوراً بإدارة بولا المسيحي اللي فاتحه قدام الكنيسة.
في حي فيصل أيضاً أسماء غريبة للمحلات، فهناك محل كوافير آخر اسمه «ما شاء الله» لا أجد علاقة منطقية بين الاسم وطبيعة الخدمة التي يقدمها المكان .. عند نزلة الكوبرى ستجد محل ستائر ومفروشات اسمه «ستائر النسيان»!
ويتبع >>>>>: عن جمهورية شارع فيصل (2)
واقرأ أيضا:
تعتعة سياسية: الشعب المصري ملطشة / الانشطار الديني وخطر المواجهة الطائفية / الطائفية فتنة للعبث بأمن مصر / السلوك الطائفي!!