يترسخ نظام إنتاج الفن في العالم من خلال تأكيد سيادة قوانين الملكية الفكرية حول العالم، والتضخيم والتضخم المستمر في ذات المبدع والفنان، ووضع بروتوكول تتم على أساسه عمليات التقييم والتقدير للفنانين اعتماداً علي الجوائز التي يحصل عليها، أو تحقيقه لأعلى نسبة مبيعات، وأخيراً تحققه لأعلى نسبة مشاهدة أو عدد "اللايكات" علي الشبكات والصفحات الاجتماعية.
لكن الفن في رأي باديو، يمكن أن يكون حقيقياً و"لا-امبريالياً" ويعمل بشكل حر خارج قواعد الإمبراطورية، بل وأن يتحدى الإمبراطورية أو حتى أن يكسر نفوذها. وفي واحدة من الأطروحات التي قدمها خلال المحاضرة يقول باديو:"ينبغي للفن اللا-امبريالي أن يكون متماسكاً كشرح حسابي، مفاجئاً ككمين ينصب في جنح الليل، وسامياً كنجم".
محاضرة باديو تم ترجمتها إلى العربية ونشرها في مصر عام 2011 من قبل منتدى الفنون بالإسكندرية (آكاف). وقد كان أحد أنشط المراكز الفنية والثقافية التي لعبت دوراً حيوياً في خلق بيئة للمعرفة والتعلم والنقاش بين الفنانين المصريين، في مناخ يعاني فيه تعليم الفنون في مصر من رقابة صارمة ورجعية في المناهج. على سبيل المثال بينما كان يتم تدريس الموديل العاري في كليات الفنون المصرية في الستينيات والسبعينيات، فقد اختفى الموديل العاري والتدريس من كل الجامعات، وطلبة أقسام الرسم والتصوير يتخرجون في كليات الفنون بلا أدنى معرفة عن الجسم البشري وكيفية رسمه. بل أقسام كالنحت عانت لسنوات من عمليات نقص الميزانية وانصراف الطلاب عنها مع تزايد دعاوي تحريم النحت التي روج لها شيوخ ودعاة التيار الإسلامي طوال عقود، أما الآن فعملية تعليم الفنون أو أي شيء آخر حتى لو كان الذهاب إلى الجامعة للتنزه مهمة خطرة قد تكون نتيجتها الموت أو الاعتقال.
نظم آكاف أيضاً في عام 2012 مؤتمراً لثلاثة أيام عن "الفن والتغيير" حاضر فيها الفيلسوف الإيطالي بافيو/Bifo" وكان فرصة نادرة للفنانين المصريين للنقاش حول ما يحدث سياسياً واجتماعياً ومحاولة لتلمس موقع الفن والفنان بعد ثورة 25يناير وما تركته من أثر. بينما بسام الباروني مدير آكاف يحاول بناء هذه المساحة التي تتيح للفنانين اكتساب المعرفة وربما في خطوة تالية إنتاج فن متماسك كشرح حسابي. ينطلق في الشوارع وتبرز على الشاشات عشرات الفنانين من كل المجالات، يفضلون الاندماج مع اللحظة، أو أن يتحول الفنان إلى صوت يردد خطاب الجموع.
بعد25 يناير كانت هذه السنوات التي شهدت نمواً متزايداً في فنون الأماكن العامة. الجرافيتي يغزو كل الشوارع، والفعاليات الغنائية أصبحت تقام مجاناً في الميادين العامة مفتوحة للجمهور. أصبح هناك فعالية الفن ميدان، وهي مهرجان غنائي يقام في ميدان عابدين وفي عدد من المدن المصرية كل شهر. وأصبحت هذه مساحة يغني فيها العديد من الأسماء الموسيقية والغنائية دون رقيب وبحرية تماماً. والجرافيتي أصبح هناك جاليرهات ومؤسسات فنية ترعاه وترعى فنانيه. الكل كان سعيداً وفي أحسن حال. المثقفون يطالبون بتحرير وزارة الثقافة، ويقدمون الخطط التي تشمل إتاحة استخدام موردها من قبل جميع المواطنين لا الفنانين الذين تختارهم الحكومة. تكبر الأحلام بتحرير الثقافة والفن في مصر من الرقابة، وإتاحة حرية الابداع والتعبير للجميع.
مع اقتراب وصول الإخوان للحكم، أغلق منتدى الفنون بالإسكندرية مقره وتوقف عن أنشطته، وحتى الآن يرفض بسام إعطاء توضيحات أو تعليقات عن السبب في ذلك. المرحلة التي صاحبت وصول الإخوان للحكم شهدت أيضاً محاولتهم لفرض السيطرة على الثقافة والفن.
"الفن الثوري" الذي ظهر كممارسة للابداع الفني تحمل خطابا سياسيا واضحا ومباشرا داخلها، أخذت رسائله تتغير بداية من السخرية من مبارك ونظامه، ثم المجلس العسكري، ثم أخيراً الإخوان. قطاع كبير مما عرف بصفته فنا ثوريا كان فنا انفعاليا وليس "شرح حسابي متماسك". يخرج كرد فعل لأحداث سياسية صغيرة، وبالتالي يتغير بتغير الأحداث. وبدلاً من أن يؤثر الفن على الإعلام، كان الإعلام هو الذي يقود الفن. بالتالي بزوال الحدث السياسي تصبح الرسالة التي يحملها الفن شيئا من الماضي، قطعة من التاريخ لا فنا ثوريا.
إذا كان الفن الثوري هو أغاني ورسوم وأعمال فنية كلها تسخر من مبارك وتنتقده، فأين الثورية في تلك الأعمال الآن، بعد زوال هذه المرحلة؟ بعد عام واحد من زوال حكم الإخوان، اختفت كل الأغاني والرسوم والأعمال الفنية الانفعالية المختلفة التي كانت تنتقد الإخوان، وتقدم نفسها بصفتها فنا ثوريا. وأصبحت جزءا من الماضي. قيمتها تأتي من ارتباطها بالتاريخ وما كان. يجعلنا هذا نتساءل هل هذا كان فنا ثوريا؟ أم صورة من صور الفن الاستهلاكي؟
تلك الأيام كانت عصيبة على أي فنان أو عامل في المجال الفني أو الثقافي، فالضجيج السياسي والصراع مع الإخوان كانت معركة شهدت ضغوطا على الجميع لكي يكون جزءا منها. ولقطاع من الفنانين كان من المهم الحفاظ على استقلالهم بعيداً عن الاستقطاب السياسي، ولقطاع آخر كانت الثورة لا تعني معارضة الإخوان فقط بل معارضة الإخوان والجيش، وهو ما كان غير مرحب به في الحسابات السياسية وقتها حيث اعتقدت القوى المدنية أنها تحتاج إلى الجيش من أجل إزاحة الإخوان من الحكم.
شهدت هذه المرحلة أيضاً تحالفات قوى بين ما يعرف بالفن الثوري والشركات الكبرى في مصر، فالفن الثوري أصبح رائجا بعد الثورة، وشركات المشروبات الغازية وغيرها من الشركات الاحتكارية الكبرى في السوق المصري أصبحت تستخدم فرق "الميدان" لتقديم إعلانات لمشروباتها. والآن وصلنا لمرحلة كان الفن الثوري يتحول لفن دعائي تجاري، بل وبدأت تلك القيم التجارية حول الابتسام، السعادة، وغيرها من قيم التنمية البشرية تتسلل إلى الإبداع الفني. لتنتج أعمالا غاية في التسطيح.
وسط كل هذا. كان هناك فنانون قرروا النزول إلي أسفل القاع، البعد عن كل هذا الضجيج والرضا بقاعات ضيقة هامشية على أطراف المدن لتقديم فنهم. علي طالباب على سبيل المثال، كان بصبر يستكمل مشروعه مبتعداً عن الخطابة الثورية والعبارات السياسية المباشرة، أو للدقة يحول هذه الخطابة من كونها خطابا جماعيا إلى معبر عن الأنا الفردية. بدلاً من توجيه الخطاب للجموع من أجل الثورة فأعمال طالباب هي تعبير عن الحيرة والخوف من بشاعة الواقع والفقر. "أم.سي. أمين" مغني الراب والذي قدم العديد من الأغاني السياسية المباشرة يتجه للتعاون مع مغني المهرجان ليقدم ما سيعرف "بالراببجية" وهو مزيج بين فن المهرجانات الشعبي المصري وفن الراب.
تعود الأمور إلى أماكنها القديمة قبل 25يناير، يوماً بعد يوم. والبعض يرى أن الأمور تعود إلى ما هو أسوأ من قبل25 يناير. الفن الثوري الانفعالي الذي كان قد نجم السنوات الماضية يخرج مرة ثانية من السوق. تنصرف عنه شركات الدعاية والإنتاج الكبرى، بعدما حلبته واستغلته لآخر قطرة. يتم التضييق على الفن الجديد في مساحته الخاصة التي نجح في انتزاعها وخلقها بعد ثورة 25 يناير.
مؤخراً ألغت وزارة الداخلية فعالية الفن ميدان، ورغم تدخل وزير الثقافة جابر عصفور لإقامتها، إلا أن وزارة الداخلية كررت رفضها. وزارة الداخلية أصبحت تطارد فناني الجرافيتي، وعدنا لمرحلة يتم القبض فيها علي أشخاص وسجنهم لسنوات طويلة لكتابتهم عبارات سياسية تنتقد النظام على الجدران. يستمر التضييق مع القانون الجديد الذي يجرم تلقي أي تمويل من الخارج لإقامة أي مشروعات في مصر، الأمر الذي سيقلص كثيراً من عمل عشرات المراكز الثقافية، وأماكن أخري مثل منتدي الفنون الإسكندرية وكلها أصبحت مهددة بالإغلاق وبالسجن الآن.
قطاع من الفنانين المصريين خصوصاً من قدموا منهم تحت لقب "فنان ثوري" غادر البلاد نتيجة تهديدات مباشرة وغير مباشرة أبرزهم جنزير فنان الجرافيتي، ورامي عصام الذي برزت أغانيه أثناء ثورة25 يناير وحصل مؤخراً على لجوء سياسي في السويد. بعد أربع سنوات من25 يناير، يبدو الفن الثوري الآن، لاجئاً سياسياً في الخارج، أو منزوع المعنى والقيمة بعد استهلاكها من قبل الشركات التجارية التي تمثل جزءا من النظام الذي هتفوا بإسقاطه.
واقرأ أيضا:
عن الثورة والنظرية والأيديولوجيا والدين / مراحل الخداع: وهكذا خدعنا وما نزال / الاستراتيجيات العشرة لخداع الجماهير