مفهوم الضحية عبر تاريخ البشرية كثير التكرار منذ القدم، ولا يزال هذا المفهوم تستعمله الشعوب والحكومات بصورة دورية شرقاً وغربا، ينطبق هذا المفهوم على سلوك الفرد كما هو الحال مع الشعوب والمجموعات الدينية والعرقية المختلفة.
هناك مصطلحات عدة تثير الارتباك ويجب التمييز بينها وهي:
١- الضحية: إنسان تم الاعتداء عليه أو استغلاله.
٢- عقلية الضحية Victim Mentality: صفات شخصية يكتسبها الإنسان الذي يعتبر نفسه ضحية سلوك وآراء الآخرين رغم غياب الدليل على ذلك.
٣- عقدة الضحية (أيضاً عقدة الشهيد): الإنسان الذي يبحث عن المعاناة وظلم الآخرين لسد احتياجات نفسية داخله.
٤- موقف الضحية: إنسان يعتقد بأنه على الصواب أخلاقيا٫ ولا يتحمل مسؤولية أفعاله٫ ويستحق عطف ومساندة الآخرين.
٥- هوية الضحية: هو تركيز وتعريف الإنسان لنفسه على آثار الاعتداء عليه وتمسكه بهذا التعريف والهوية.
التفكير كالضحية ولعب دور الضحية في الحياة يؤدي إلى ولادة صفات شخصية لا تختلف تماماً عن أحد أبعاد الشخصية البشرية وهو بعد العصابية - الذهانية - بعبارة أخرى يمكن القول أن هناك ثلاثة أنواع من صفات الشخصية يمكن حصرها في هذا المجال وهي:
1- العقلية العصابية Neurotic Mentality .
2- العقلية الذهانية Psychotic Mentality .
3- العقلية الضحية Victimization Mentality .
يتصف الشخص الذي يتمسك بعقلية عصابية بعدم التوازن العاطفي والميل إلى اكتساب صفات شخصية وسلوكية هشة وغير مستقرة ويصبح كثير الشكوى من الألم والمعاناة والحاجة إلى عناية اجتماعية وعائلية وطبية. أما الفرد الذي يتمسك بعقلية ذهانية فتراه يسقط اللوم على الآخرين ولا يتحرج بإعلان غضبه وعدائه نحو الغير رافضاً القبول بأية مسؤولية شخصية.
يجب الانتباه إلى أن استعمال مصطلح الذهان في العلوم النفسية واللغات الدارجة يختلف تماماً عن استعماله في المجال الطبي النفسي.
أما المتمسك بعقلية الضحية فهو يجمع بين الاثنين فيصبح سريع الغضب يوماً وينهار عاطفياً يوماً آخر. يسرع الناس أحياناً لنجدته ويضيقون به ذرعاً يوماً آخر وهكذا. ومتى ما وصل الفرد إلى أريكة الطبيب النفسي فتراه يخرج منها حاملاً لصقة طبية نفسية وهي تشخيص اضطراب الشخصية الحدية.
الجمع بين العقليات الثلاثة
ليس من الإنصاف القول بأن العقليات الثلاثة ثابتة في أي فرد أو مجموعة بل تميل إلى التغير وتتفاعل مع الظروف البيئية وبصورة مستمرة، رغم أن علم النفس يضع العصابية Neuroticism والذهانية Psychoticism على صفات الشخصية ولكن هذا الإطار نادر الاستعمال في الممارسة السريرية هذه الأيام ولا يتجرأ أحد على وصف شخصية الفرد بالعصابية أو الذهانية عند دراسة أبعاد شخصيته. وبالرغم من ذلك فإن بعض العصابية - الذهانية - للشخصية خضع لدراسات علمية عميقة. وعلى ضوء ذلك وفي هذا المقال سيكون استعمال مصطلح العقلية لفصله عن مفاهيم العصابية والذهانية لصفات الشخصية.
ذكريات الضحية:
هناك الكثير من الآراء حول استرجاع ذكريات الضحايا في الطفولة والبالغين، الرأي المقبول هو أن خزن واسترجاع الذكريات يبدأ بعمر 3 – 4 سنوات، ما يخزنه الطفل ويستطيع استرجاعه في عمر 6 -7 سنوات قد يفقده في عمر عشر سنوات وهذا هو العمر الذي يتم فيه صقل قابلية ومقدرة الذاكرة.
ما يخزنه الطفل كذلك من ذكريات يتأثر بانتباه الوالدين له والحديث معه، وقد يتم ترسيخ بعض الذكريات من جراء هذا التواصل الكلامي. على ضوء ذلك يمكن الاستنتاج بأن بعض ذكريات الطفولة يتم ترسيخها من جراء حديث الوالدين المتكرر مع الطفل على شكل سؤال وجواب، هذه الظاهرة يمكن تفسيرها علميا حيث أن منطقة الحصين التي تعمل كقرص لخزن الذكريات متصلة مع مراكز السمع والكلام في المخ والتي بدورها تعنى بتطور قابلية الطفل على الكلام. بعبارة أخرى كلما تطورت المهارات الكلامية تطور معها قابلية الإنسان على خزن واسترجاع الذكريات.
يتم استعمال مصطلح النَّساوة الطفولية أو فقدان الذاكرة الطفولية Infantile Amnesia على هذه الظاهرة ويواجه الطبيب النفسي أزمة القبول بحديث المريض أو رفضه. هناك من الكثير من الملاحظات يجب الانتباه إليها:
1- الحديث عن ذكريات مؤلمة دون عمر 3 سنوات: وبالتفصيل يمكن أن يكون مجرد ذكريات وهامية تم ترسيخها أحياناً بالتواصل مع الآخرين ودخول الفرد في عملية نفسية علاجية تحليلية ويتم تشخيصها بذكريات زائفة False Memories.
2- هناك رأي آخر يميل إلى تصديق جميع الذكريات المؤلمة: لأن مثل هذه الذكريات تم ترسيخها في مخ الإنسان من جراء قوة العواطف المرافقة لها من خوف وإرهاب.
3- وهناك رأي آخر يناقض الرأي الثاني وهو أن المصاب باضطراب كرب ما بعد الصدمة (Post-Traumatic Stress Disorder (PTSD يلجأ إلى استعمال عملية نفسية وهي الانفصال Dissociation لتحمل الألم والتعذيب والرهاب، من جراء ذلك ترى أن المصاب حقاً بهذا الاضطراب تلاحقه ذكريات أولية Primary Memories من صوت ولون وكوابيس بدون تفاصيل وتزوره لثواني فقط ليلاً ونهاراً.
هذه الظاهرة تفسر أحياناً بعدم قابلية ضحايا التعذيب في السجون والمعتقلات على استرجاع التفاصيل الدقيقة عند استجوابهم في المحاكم ويتم رفض دعواهم بحجة الكذب والتلفيق.
هناك أدلة علمية كذلك تشير إلى اضطرابات عضوية في مخ المصاب باضطراب الكرب ما بعد الصدمة تتميز بضعف الفعالية الكهربائية في الفص الجبهي مما قد يفسر أحياناً عدم مقدرة الضحية على توضيح الذكريات والألم الذي يشعرون به. ولكن مخ الطفل غير مخ البالغ، كما يمكن القول بأن الطفل أكثر تقبلاً من البالغ لاقتراحات الآخرين، ولكن دخول الأخير في عملية نفسية علاجية تحليلية قد تدفعه أحياناً نحو التقهقر العاطفي والمعرفي ويبدأ بكتابة قصة حياته بصورة مثيرة لإرضاء معالجه والاستمرار في جلسات أصبح مدمناً عليها.
الضحية على أريكة المعالج النفسي:
ليس كل من يلعب دور الضحية هو ضحية وإن كان هو نفسه يصدق ذلك. هناك الإنسان الذي قضى فترة طويلة من عمره يلعب دور المعتدي بعقلية ذهانية ولكن سرعان ما تحدث أزمة في حياته لا يستطيع السيطرة عليها وتراه يلجأ إلى دور الضحية.
خير مثال على ذلك رجل كشفت الأيام خيانته الزوجية فسرعان ما يتوجه إلى الجلوس على كرسي اتهام اكتئابي ويدعي أنه ضحية لزوجة فشلت في تلبية احتياجاته، كثيرة الوفاء والإخلاص لأمها. كذلك الأمر مع الإنسان ذو العقلية العصابية فتراه قد يتحول إلى -ويتقمص- دور الضحية مع شدة الضغوط الاجتماعية وفشل الطبيب النفسي في علاجه وعدم تفهم المجتمع لاحتياجاته الناقصة وتلبيتها. من هنا يأتي تشابك العقليات الثلاث في حياة كل فرد. أما ضحايا المجتمع فأمرهم أشد بكثير من المريض المعروف بسيرته الذهانية أو العصابية.
يتم استقبال ضحايا الاعتداء الجنسي في الطفولة والمراهقة وبعد البلوغ بحماس من قبل الكثير من الأطباء والمعالجين النفسيين، المريض بحاجة إلى رواية قصته إلى من يستمع إليه ويرحب بالعرض. لكن مشاكل ضحايا الاعتداء الجنسي والعنف المنزلي والتعذيب تحتاج إلى أكثر من عملية كلام ويجب توخي الحذر من تحول جلسات العلاج النفسي إلى مجرد رواية قصة متكررة والحديث عما حدث وبالتفصيل الممل.
ما يجب التركيز عليه هو الحاضر واحتياجات الضحية والتفاعلات النفسية الناتجة من عقلية الضحية.
توضيح السلوك الناتج من عقلية الضحية وتأثيره على تواصل المريض مع الآخرين في غاية الأهمية فطالما ما ينتهي أمره بالتهميش اجتماعيا وعائلياً.
الكثير من العائلات تشعر بالغضب من فتاة كشفت سر عائلي نتيجته إصابة جميع أفراد العائلة بوصمة يصعب تجاوزها، ولكن عدم كشف هذه الأسرار على المستوى العائلي والاجتماعي لا يؤدي إلا إلى توارثها جيلاً بعد آخر وتفسخ العائلة والمجتمع على حد سواء.
العلاقة بين المعالج النفسي والضحية لا تخلو من الارتباك بين الحين والآخر. رغم أن المعالج النفسي يحرص في البداية على توضيح أهداف العلاج ومدته وعدد جلساته ولكن هذا لا يعني بالضرورة استيعاب المريض لخطة العلاج بل وحتى أهدافها.
قد يتحول المعالج النفسي من نصير إلى عدو بين جلسة وأخرى ويتم نقل الكثير من المشاعر والعواطف التي تسيطر على عقلية الضحية تجاه المعالج النفسي. الكثير من الضحايا ينظرون بعين الريبة نحو المعالج ويصعب عليهم أحياناً فهم نظراته وطريقة تعامله أثناء فترة العلاج، (يصعب على الضحية أحياناً التواصل مع المعالج النفسي بصورة صحية). البعض يتصور بأن المعالج لا يصدقهم ويسخر منهم.
يجب توخي الحذر في تشخيص الاضطراب النفسي بصورة دقيقة في جميع الضحايا وعدم الاكتفاء بأن الفرد هو ضحية فقط، كذلك ليس كل من هو ضحية يعاني من اضطراب كرب ما بعد الصدمة والانتباه أيضاً إلى الاكتئاب والإدمان والسلوك الانتحاري.
يجب على المعالج عدم الوقوع في فخ تبني الضحية وزيارتها في محل سكناها وتلبية احتياجاتها الاجتماعية. يجب أن لا يسمح للمريضة الاتصال هاتفياً بالمعالج خارج أوقات العلاج والمصيبة الكبرى في العلاج النفسي ولادة علاقة عاطفية بين المريضة والمعالج فنهاية مثل هذه العلاقات كارثة للطرفين.
متى ما شعر المعالج النفسي عدم القدرة على مساعدة المريضة فيجب عليه الإقرار بذلك، وإذا كانت علامات اضطراب الشخصية الحدية شديدة فيجب تحويل المريضة إلى الفريق المختص بهذا الاضطراب.
المصادر:
1- Beck M (2011). Blank for the memories. Wall Street Journal. Published 31 May 2011.
2- Chalavi S, Vissia E, Glesen M, Nijinhuis E et al(2014). Abnormal hippocampal morphology in dissociative identity disorder and post-traumatic stress disorder correlates with childhood trauma and dissociative symptoms. Human Brain Mapp. Wiley Periodicals, Inc.
3- Jawad S( 2012). Borderline Personality Disorder. Maganin.com
واقرأ أيضا:
كيف نبحث وكيف نكتب الحقيقة / دروس الحيوان للإنسان (حرب القردة) / دروس الحيوان للإنسان (حمام السلام)
التعليق: ولكن إلى متى سيظل هذا التصنيف دائما عصابي وذهاني وضحية ؟
لماذا أخذ الطب النفسي في التباطؤ ؟
ولماذا لم يتم تصنيف المرض حتى الآن تصنيفا كميائيا بدلا من مصطلحات لا تغير من الواقع هل أفلس الطب النفسي وأفرغ ما في جعبتة؟