منذ لحظة الإعلان عن تأسيس التحالف الدولي لمكافحة تنظيم الدولة (داعش) كان لتركيا موقف فارق ومختلف عن باقي الدول، فامتنعت عن توقيع "اتفاق جدة" رغم إعلانها اللفظي عن المشاركة في التحالف، وقد فسر الأمر حينها على أنه تدبير وقائي منها لحماية طاقم قنصليتها في الموصل المحتجز لدى التنظيم.
لكن تحرير الرهائن أو الإفراج عنهم لم يغير كثيراً من الموقف التركي، الذي اكتفى بالتعهد بتقديم الدعم في المجالات اللوجستية والإنسانية والاستخباراتية. بينما وضعت تركيا ثلاثة شروط لمشاركتها الفاعلة في معركة عين العرب/كوباني وسوريا بشكل عام، هي المناطق الآمنة وحظر الطيران وتدريب المعارضة السورية، وفق رؤيتها التي تدعو إلى عدم الاكتفاء بمحاربة التنظيم، بل إنهاء أسباب وجوده، أي إسقاط نظام الأسد.
والآن، وبعد أشهر طويلة من بدء "الحرب"، ما زال الموقف التركي لم يتغير كثيراً، رغم عدم حماسة واشنطن في نقاش شروط أنقرة، وميلها للتعامل والتعاون مع المجموعات المقاتلة على الأرض، مثل قوات الحماية الكردية والمنظمات الشيعية المقاتلة في العراق وسوريا.
لكن الكثير من الظروف المحلية والإقليمية تبدلت مؤخراً في اتجاه تخفيف الضغط عن تركيا، مثل انتهاء معركة عين العرب، وخفوت حدة الاعتراضات الكردية الداخلية، وسير قطار عملية السلام مع الأكراد، وتغير رأس النظام في السعودية، والإشارات الكثيرة على إمكانية التعاون بين الرياض وأنقرة في عدد من الملفات تأتي في مقدمتها الأزمة السورية، الأمر الذي وضع السؤال مجدداً في إطار البحث، بل وحتى الشائعات. فهل تستعد تركيا لدخول الحرب البرية في سوريا الآن؟
والحقيقة أن الإجابة عن هذا السؤال تحتاج فهماً عميقاً للسياسة الخارجية التركية ومبادئها الراسخة التي تقوم عليها، وأيضاً لإدراك المتغيرات المحلية والإقليمية التي قد تؤثر في قرارها. فالسياسة الخارجية التركية، فيما خص الأزمة السورية والنزاعات بشكل عام، تقوم على عدة دعائم رئيسة، هذه أهمها:
أولاً، تجنب الدخول في الصراعات المباشرة.
ثانياً، تصفير المشاكل أو تقليلها ما أمكن.
ثالثاً، عدم الانخراط في أي عمل عسكري دون غطاء دولي (قرار أممي أو شمال أطلسي).
رابعاً، عدم الدخول في معركة دون وضوح الرؤية والاستراتيجية والأهداف المحددة.
خامساً، التعامل كدولة مستقلة ذات رؤية ومصالح وقرار ذاتي، وعدم الانجرار لتنفيذ أجندات الآخرين.
سادساً، عدم الابتدار بالهجوم والاكتفاء بالدفاع عن النفس في حال التعرض للاعتداء.
وتبدو هذه الدعائم الست مرتبطة بعاملين جوهريين، هما اعتماد تركيا - حتى الآن على الأقل - على القوة الناعمة وليس الخشنة، ورغبتها في تجنب النزاعات والصراعات المباشرة لحماية اقتصادها من آثارها المدمرة، وهي التي بنت نهضتها وتجربتها الحديثة على عاملي الاستقرار والتنمية الاقتصادية في المقام الأول.
إذاً، ربما تفسر هذه العوامل والمبادئ التعامل التركي مع الأزمة رغم سقفه المرتفع فيها (الإصرار على رحيل الأسد وعدم التعامل معه)، وقد تفسر أيضاً عملية إجلاء حامية ضريح سليمان شاه من سوريا لنزع فتيل أي مواجهة قد تضطر لها في سبيل الدفاع عنها، وعدم الدخول في صراع مباشر مع تنظيم الدولة حتى الآن. لكن، هل تستطيع تركيا الاستمرار في هذه السياسة المحافظة في ظل التغول الإيراني في المنطقة، من سوريا إلى العراق، مروراً بلبنان ثم اليمن؟
إن أي عمل، بما في ذلك القرارات السياسية والعسكرية، يبنى على عاملي القدرة والإرادة، وتبدو الاثنتان غائبتين حتى الآن عن القرار التركي. فقد ورث العدالة والتنمية دولة منكفئة على نفسها وفاقدة لعناصر التأثير في الخارج، كما انتهج هو سياسة القوة الناعمة (بعكس أنياب القوة الإيرانية الخشنة مثلاً)، وما زال مفتقداً للقدرة على التأثير بشكل مباشر، بينما يبدو قراره السياسي راغباً في تجنب المواجهة حفاظاً على مكتسباته التنموية والاقتصادية التي حققها حتى الآن ويرغب في إنجازها.
لكن الأسابيع الأخيرة شهدت عدة متغيرات على صعيد الرؤية التركية، فقد أقر البرلمان التركي اتفاقية التعاون العسكري والصناعات الدفاعية مع قطر التي تتيح لتركيا نشر قواتها العسكرية في قطر في حال الحاجة لذلك، وهو تحول لافت يحمل معنى التمدد وزرع الأذرع أو القواعد المتقدمة. بينما قد يحمل تهديد إيران المتواصل والمتصاعد أنقرة على عدم الاكتفاء بالموقف الدفاعي، وهو ما قد يعني تفعيل عناصر المواجهة غير المباشرة (عبر الوسائط والفاعلين المحليين)، بل ربما المواجهة المباشرة في مرحلة متأخرة جداً.
خلاصة القول أن عناصر الاستراتيجية التركية إزاء الأزمة السورية لم تتغير كثيراً ولذلك فلا أتوقع انخراطاً تركياً مباشراً في الحرب البرية في المدى المنظور، ليس قبل تنفيذ شروطها التي تتجاهلها واشنطن. بينما أتوقع استمرار تركيا في تقوية العناصر المقاوِمة للنفوذ الإيراني على الأرض بالشكل غير المباشر الحالي.
لكن استمرار التهديد الإيراني وتصاعد تغولها في المنطقة بما يهدد المصالح التركية المباشرة، إضافة للتغيرات الطفيفة على مستوى الإرادة والقدرة التركيتين، كل ذلك قد يحمل نذر مواجهة تركية إيرانية غير مباشرة أو ربما مباشرة إذا ما استمرت الظروف على نفس الوتيرة والنسق، ولكن في مرحلة لاحقة ومتأخرة جداً.
واقرأ أيضاً
غزة والأمن القومي المصري.../ فلسطين ومناخ التحولات العربية/ الهجوم على رفح.. التوقيت والأهداف/ هل ما زال الـفيسبوك عالماً افتراضياً!؟/ الثورة وكرة القدم/ أردوغان وحلم تركيا الجديدة/ الموقف التركي من العدوان على غزة/ بين حرب تموز/يوليو والجرف الصامد/ تركيا وخارطة المنطقة الجديدة/ الانتحار والإلحاد والعنف.. ثلاثية مترابطة