عزيزتي الأم الشابة، هل تأكلين ولدك؟ سمعنا كثيرًا عن أن القطة الأم قد تأكل أولادها إذا خافت عليهم أحيانا. أي أن ذلك يأتي من شدة الحب. لكن هل يمكن أن يحدث شيء مشابه لذلك على مستوى البشر؟
قد يشعر البعض أن الاتهام قاس بعض الشيء لا سيما أن الأمهات اللائي سنتحدث عنهن من أصحاب النوايا الطيبة، أولئك الحالمات برؤية أولادهن في مركز أفضل، ولكن حسن النوايا لا يعفي من المسئولية لا سيما عندما يكون الضرر واضحا للجميع.
أصبحت من خلال عملي كطبيب أشاهد بصفة شبه يومية، وأؤكد -بصفة شبه يومية- أطفالا يعانون من درجات كبيرة من الإجهاد بنوعيه البدني والنفسي في متلازمة مرضية يمكن أن نطلق عليها متلازمة الأم المتطرفة. وهنا لا أعني التطرف الوحيد الذي أصبحنا نتكلم عنه، بل اعني نوعا آخر من التطرف هو التطرف والمبالغة في تقدير إمكانيات الطفل.
فمع زيادة الاهتمام والوعي بأهمية الرياضة على مستوى الطبقات المتوسطة وما يعلوها بدأ يظهر في مصر صراع محموم لدى العديد من الأمهات بحثا عن تحقيق حلم قديم (ربما كان حلم الأم نفسها يوما ما في أن تصبح بطلة) أو حلم حديث أتى من رؤيتها لأبناء الصديقات أو الأخوات الذين حققوا نتائجا رياضية متميزة في مرحلة مبكرة من أعمارهم. وهنا يبدأ التعامل مع الطفل كما لو كان إنسانا آليا ستتم تغذيته بسلسلة من الأعمال لينفذها فورا على أكمل وجه، ولأن الأمر لا يتم سوى بناء على حلم الأم، والأب أحيانا.
يجد الطفل نفسه منخرطا في حياة بائسة رغم أنها لا تبدو كذلك لمن ينظر إلى الأمر بسطحية، فهو مطالب بالاستيقاظ فجرا من أجل الذهاب إلى المدرسة ثم العودة لإنهاء الواجبات المدرسية بسرعة الصاروخ ثم الإنطلاق إلي النادي بصفة شبه يومية لساعات طويلة تصل إلى ما يزيد عن الساعات الخمس في بعض الألعاب الأكثر شعبية لدى الأم المتطرفة (مثل السباحة والجمباز)، وقد تكون هناك مرات إضافية على هيئة تدريبات خاصة تضمن له التفوق على أقرانه، وطبعا لا ننسى مواعيد حفظ القرآن ولا مانع من بعض دورات اللغات أو الرسم، وهكذا يجد الطفل الذي لم يتخط عمره السابعة أو الثامنة نفسه في دائرة ضيقة، فروض لا تنتهي وهو مطالب بإنجازها جميعا وطبعا أي تأخر منه أو تقاعس أو حتى إجهاد يؤدي إلى المزيد من الضغط عليه لكي يصبح الطفل المثالي الذي تنشده الأم.
ويتطور الأمر بالتدريج ليصبح صراعا محموما بين رغبات الأم وقدرات طفلها، فمن المتوقع مثلا مع ذلك الجدول المغلق تماما أن تتدهور نتائج الطفل الدراسية، فهو مجهد في الصباح أثناء تلقي الدروس وفي حالة عجلة دائمة أثناء آداء الواجبات المدرسية، ولا يجد وقتا لمذاكرة متأنية أو لفهم أعمق وبالطبع ستغضب الأم وترى أنه مقصر ولن تفكر ولو للحظة في أنه ذلك يأتي من زيادة الحمل عليه، وستبدأ في تأنيبه وربما عقابه رغم أنه معاقب بالفعل بما يمكن أن نطلق عليه الأشغال الشاقة.
ومع انتشار متلازمة الأم المتطرفة وتحولها إلى "موضة" أصبحت أرى العديد من الأطفال الذين تتآكل طفولتهم التي توصف دائما بأنها تتميز بعدم وجود مسئوليات ضخمة تفوق سنواتها، ولم يعد غريبا أن تجد طفلا مثقلا بهموم أحلام الأم التي تحدثه دائما عن أملها الكبير فيه. وبمرور الوقت تتآكل طموحات الطفل نفسه، فيكره الرياضة والتعليم وكل ما هو مفروض عليه، فكل ما تفعله من أجله الأم – أو من أجل تحقيق ذاتها فيه – لم يعد بالنسبة له أكثر من قيود ينتظر اليوم الذي يستطيع أن يقول فيه لها جميعا لا، ليتحول مشروع السوبر مان فجأة إلى مراهق يكره كل ما أجبروه عليه في طفولته، فيزهد في الرياضة والتفوق والأنشطة ويستمتع فقط بفعل اللا شيء.
قد يبدو الأمر تافها في عيون البعض لكنه ليس كذلك، فهناك الآلاف من الأطفال الذين تقف صعوبة ظروفهم المادية والإجتماعية في طريق تكوين شخصيات صالحة وهذا يحتاج إلى ما يشبه المعجزة لتعديله، أما أن تصبح رغبات الآباء وإمكانياتهم المادية المتوسطة أو المرتفعة هي الوسيلة التي تغتال طفولة الأبناء فهذا بالتأكيد يحتاج إلى وقفة. ولست في حاجة بالتأكيد لشرح ما يصاحب ذلك من بعد الطفل عن والديه وعدم توافر الوقت له ليتواصل مع أسرته، والأم المسكينة أيضا كذلك فهي أيضا مسئولة عن متابعة كل شيء وعن مرافقة الطفل ومتابعته في حياته المشحونة.
عزيزتي الأم المتطرفة، إن الحق الأول لكل طفل في طفولته هو أن يستمتع ويلعب ويحب الحياة إلى أن يعرف حقيقتها عندما يكبر، لذلك علينا جميعا أن نمنحهم ذلك الحق، وأن نحقق له توازنا مطلوبا بين المفروض عليه مثل التعليم، وبين الأنشطة الأخرى التي خلقت في الأصل من أجل الرفاهية وتنفيس الضغوط، أم أن يصبح كل ما يفعله في حياته مهام قاسية لا تعرف الرحمة، فهذه هي جريمة لن يغفرها لنا لاحقا عندما يجيد الحكم على الأمور.
إنني لا أدعو إلى تجاهل الرياضة والأنشطة ولا أقلل من قيمتها إطلاقا، كل ما في الأمر هو أنني أدعو الجميع إلى التعقل في التعامل مع الأمر، وأن يكون ذلك في نطاق قدرات الأبناء، وأن نتذكر دائما أننا نتعامل مع طفل وليس مع..... رجل المستحيل!
واقرأ أيضاً:
التنشئة الأسرية الموجهة نحو الصلاح الإنساني / كيف أتصرف عندما يخطأ طفلي؟!