التغيرات العصبية الدماغية المصاحبة للخبرات الدينية
بدا لقرون عديدة، أن لا مكان في الكون المادي والعلوم المادية لمفهوم الوعي الشخصي Consciousness فمنذ عصر التنوير الغربي في القرن الثامن عشر، والميكانيكا النيوتونية تفترض وجود الكون المادي كليا دون وعي، وأنه يتطور وفقا لمجموعة من القوانين الفيزيائية التي لا تتغير. هذا النموذج النيوتوني الميكانيكي جعل أغلب العلوم الحديثة السائدة تستنتج أن العقل أو الوعي لا يمكن أن يوجد ككيان منفصل، وأن العقل أو الوعي به ليس إلا انعكاسا نتخيله لنشاط المخ وبالأحرى القشرة المخية في الدماغ. والحالات الذهنية والانفعالية المختلفة هي انعكاس أنماط معقدة من النشاط الكهربي والكيميائي تنشأ عن شبكات منتشرة مترابطة من العصبونات أو الخلايا العصبية، لكنها تكاد تكون مستعصية على الدراسة العلمية بمفهومها المادي، وظل علم النفس والطب النفسي يعانيان من عدم وجود لا إطار نظري مرضٍ ولا أدوات موضوعية لدراسة أو تعليل الوعي، وليس الوعي وحده كمفهوم ضام للأفكار والمشاعر والذكريات هو الذي ظل مستعصيا على الدراسة، وإنما ظلت الأعراض النفسية كذلك غير قابلة للدراسة ولا القياس بشكل مادي مثلها مثل أغلب الأعراض في التخصصات الطبية المختلفة، وظل الطب النفسي لعقود يوصف بأنه فرع من الطب لا علاقة له بالمخ Brainless Psychiatry خاصة حين كانت تسود أروقة الطب النفسي تلك المقولات المستمدة من التحليل النفسي بمدارسه المختلفة، فوصفه غير النفسانيين بأنه "طبنفس بلا مخ" ... لأنه كان يقوم على افتراضات ومفردات غير طبية مستمدة من نظرية التحليل النفسي مثل اللاوعي أو اللاشعور والكبت والإسقاط والإزاحة ..إلخ وكلها أشياء في الفراغ لا يوجد مركز جسدي يقوم بها، فضلا عن كونها تبدو مستغربة من المنطق العادي في كثير من الأحيان ... ورغم محاولة فرويد ادعاء العلمية والموضوعية لنظريته تماشيا مع معطيات عصر التنوير الغربي وعصر النهضة في أوروبا ذلك الوقت كما اتخذ موقفا معاديا للأديان وادعى أن يقدم نظرية علمية فإذاها تقوم على لا محسوسات كاللاوعي واللاشعور، وباختصار فإنك حين تقترب منها تكتشف أن النظرية ونتائجها أيضًا عصية على القياس بما يعني فشلها في أن تكون علمية كما ادعى فرويد وتابعوه.
كان على الطب النفسي وعلم النفس إذن أن ينتظرا التطور العلمي والتقني الذي جرى في مجالات تصوير المخ واكتشاف واختراع العقاقير العلاجية والإحصاء والقياس النفسي فضلا عن التسويق الذي مول أغلب الأبحاث التي غيرت الصورة تماما بل ودفعت كثيرين إلى توهم أن الطب النفسي يتحول إلى طب المخ وأن السيطرة الكيميائية على العقل والوعي ممكنة من خلال العمل على المخ ووصفه كثيرون أيضا بأنه أصبح "طب نفسي بلا عقل" Mindless Psychiatry .... ولعل أكثر ما يهمنا في هذا التقديم هو تطور أساليب تصوير المخ Neuro-imaging والتي تطورت من تصوير تركيبي أحادي البعد يعكس التركيب Structure لا الوظيفة Function إلى تركيبي متعدد الأبعاد ومن التسجيل الوظيفي للتغيرات الفسيولوجية الكهربية عبر رسام المخ الكهربائي البدائي (Electroencephalography ( EEG إلى المسح الطبوجرافي للمخ Brain Mapping وغيره ثم إلى التصوير الوظيفي الذي أصبح يعكس كلا من التركيب والوظيفة ورغم أن تطور البحث الذي واكبه توجه في أغلبه إلى دراسة تأثير العقاقير أو طرق العلاج التي أثبتت كفاءتها على الأعراض المرضية ... إلا أن مهتمين على مستوى العالم اهتموا بدراسات التغيرات العصبية التي تصاحب الخبرة الدينية، أو الروحانية كما بدأت الدراسات وهذا ما سنرى بعضه في هذا المقال.
تعرف الروحانية بأنها مشاعر ذاتية فطرية، وأفكار وخبرات وسلوكيات بشرية تنشأ من البحث عن أو السعي نحو المقدس وقد بدأ الطبيب النفسي يوجين داكولاي Eugene d'Aquili أبحاثه عن الروحانية في وقت مبكر من سبعينيات القرن العشرين (D’Aquili et al., 1979)، حيث أراد دراسة الصلة بين وظائف المخ وتطور الروحانيات في الإنسان، وفي التسعينيات بدأت دراسة تغيرات المخ خاصة في النواقل العصبية التي تصاحب ممارسات التأمل، وقد تطورت -وما تزال- وسائل تصوير المخ ووسائل القياس النفسي بما منح العلماء فرصا متزايدة لدراسة التدين والتغيرات الدماغية المصاحبة له وقد اقتنصوها بالفعل وساعدتهم طرق التأمل الشرقية بشكل جدي في تلك الدراسات. ومبحثُ التغيرات العصبية الدماغية المصاحبة للخبرات الدينية وعلاقة ذلك بالصحة النفسية يعتبر من المباحث الجديدة النشطة، فهناك دراسات عديدة بحثت وتبحثُ في هذه النقطة (Ashbrook & Albright, 1997) و(Saver & Rabin, 1997) و(D’Aquili & Newberg, 1999)، ومن المعروف أن أهميةَ استخدام الدين في العلاج النفسي لم تكن من الأمور التي تخضعُ للدراسة العلمية إلا منذ فترةٍ وجيزة فقد كان لكلمات فرويد -وما يزال ربما- تأثيرها في تشكيل عقول الباحثين من علماء النفس ومن الأطباء النفسانيين لكن ظلت هناك ملاحظات يقابلها العاملون في حقل الطب النفسي تؤكد وجود علاقة إيجابية بين التدين والصحة النفسية لعلَّ أشهرها هو قلة معدلات الانتحار في الأشخاص المتدينين عنها في غيرهم؛ وكذلك بين اللجوء للروحانيات والقدرة على مناجزة العديد من الضغوط والخبرات النفسية المزعجة.
والنقطة التي أود الإشارة لها هنا هيَ هل إذا كانت الخبرةُ الدينية المصاحبة لممارسة شعائر الدين تحدثُ تأثيرًا أمكن قياسه وتحديد مكانه في الدماغ بل وتصويره باستخدام تقنيات تصوير المخ الحديثة فمثلاً إذا كان تغيرٌ يحدثُ في التركيب اللوزي Amygdaloid Formation أو الفص الجبهي للمخ Frontal Lobe فهل يمكنُ أن يكونَ لذلك دورٌ في علاج الاضطرابات النفسية التي أمكنَ تصوير تغيرات وظيفة المخ في مناطق مطابقة لتلك التي تتغيرُ حالتها الوظيفية أثناء ممارسة الشعائر الدينية؟ ..... ولاحظوا أن ما يفعلهُ الدواء النفسي المحترم جدا في عصرنا هذا هو إحداث تغيير في نشاط المخ في أماكن معينة منه كما يتضح في كثير من الدراسات التي تسوق للعقاقير المختلفة، وقد بدأت الدراسات فعلا على تأثيرات التأمل البوذي (Austin et al., 1999) وكذلك على بعض أنواع الصلوات المسيحية (Beauregard et al., 2007) لكنني لا أعرف من سيقوم بتمويل بحثٍ يحاول تجريب أثر استخدام الخبرة الدينية المصاحبة لممارسة الشعائر في العلاج النفسي مع تصوير ما تحدثه من تغيرات في الدماغ.
من المعروف مثلاً أن هناك علاقة ما بين الفص الصدغي للمخ Temporal Lobeوبين التدين كما تثبتُ لنا متابعةُ عديدين من مرضى التشنجات التي يكونُ مصدرها هو الفص الصدغي للمخ؛ فبعضُ هؤلاءِ المرضى تتمثلُ نوبات الصرع لديهم في حالةٍ من الوجد والنشوة الدينية أو الانجذاب الصوفي Ecstasy وبعضُ هؤلاء المرضى يعانونَ بعد فترةٍ من حياتهم مع ذلك المرض من تغير في الشخصية (Geschwind , 1979) يتميزُ بزيادة الاهتمام بالأمور الدينية أو التدين المفرط Hyper Religiosity والرسم أو الكتابة المفرطة Hypergraphia والتي يظهر فيها الاهتمامُ بالتفاصيل ويصف بعضهم رسومهم أو كتاباتهم تلك بأنها كتابةٌ قهريةٌ كما يعاني الكثيرون منهم من الوسوسة ولعل في الشكل المقابل والذي يمثل رسوم واحدٍ من هؤلاء المرضى ما يبينُ معنى الرسم أو الكتابة المفرطة والتي تذكرنا برسوم مريض الوسواس القهري.
إذن فهناكَ علاقةٌ بينَ الفص الصدغي للمخ وبين التدين وبين الوسوسة والأفعال القهرية وهناكَ من الدراسات الحديثة ما يثبتُ علاقة الجهاز الحُوفِيِّ Limbic System الموجود في باطن الفص الصدغي للمخ بالخبرات الدينية وهو المسئول أيضًا عن العديد من الوظائف المعرفية والشعورية في الإنسان لكن من عندنا يقوم بمثل تلك الدراسة؟؟؟
وأما إذا نظرنا إلى المسارات العصبية للسيروتونين في الدماغ فإننا سنجدُ أنها تشملُ مناطقَ كالقشرة القبل جبهية Prefrontal Cortex والنوى القاعدية Basal Ganglia وكذلك قشرة الجهاز الحوفي Limbic Cortex وكذلك النواةُ اللوزية Amygdaloid Nucleus والتي ترتبطُ مع الفص الصدغي بالعديد من الوصلات العصبية التي يؤدي النشاطُ فيها إلى إضفاء صبغةٍ كونيةٍ عميقةٍ وأهميةٍ لكل ما يحسُّ به الشخص من حوله ويدركهُ وكذلك أيضًا الوطاء Hypothalamus وكلها من المناطق التي ثبتَ أن لممارسة الشعائر الدينية تأثيرا عليها (D’Aquili & Newberg, 1999)و(Buck, 2000)؛
كما أن لها تداخلاً وتشابكًا مع المسارات العصبية للدوبامين أيضًا والذي ثبتَ أن لممارسة الشعائر الدينية تأثيرا عليه أيضًا كما ثبتَتْ علاقتهُ باضطراب اللوازم الحركية Tic Disorders وباضطراب الوسواس القهري في الأطفال ولكل من هذه الاضطرابات علاقة بالنوى القاعدية وبالمهاد وبالمسارات العصبية Neural Circuits الموجودة ما بينهم وبين القشرة المخية الجبهية (Worthington et al.,1996) و(Posner, 1998) و(Peterson, et al., 1999)، فهل يمكنُ أن يكونَ المرءُ طموحًا ليقول أن من الممكنِ إحداثُ التأثيرات التي تحدثها العقاقير الدوائية من خلال طرق أخرى منها ممارسة الشعائر الدينية؟ وليس فيما استطعتُ الاهتداء إليه من الأبحاث التي قام بها المسلمون إلا بحثٌ من ماليزيا (Axhar et al.,1994) وأجريَ على مرضى اضطراب القلق العام مع استخدام الدواء ودون تصوير وظيفي للمخ بالطبع ولكنني أتمنى أن نستطيع إجراء المزيد من مثل هذه النوعية من الأبحاث.... لعلنا نستطيع التوصل إلى إثبات علمي لما ندعيه نحن كنفسانيين مؤمنين... خاصة وأنه أصبحت هناك طرق علاج تستند إلى مفاهيم مستمدة من الديانات الشرقية رغم أنها لا تحمل أكثر من تدريبات للتركيز واستشعار بالرضا.
ومن المناطق المخية التي ثبتت علاقتها بالخبرة الدينية وفي التوجه الديني أيضًا قشرة المخ الجبهية الحجاجية Orbito-Frontal Cortex ولها العديد من الارتباطات مع الفص الصدغي بالطبع ولكنَّ لها العديدُ من الوظائف ومن هذه الوظائف ما نستطيعُ وصفهُ بالتحقق من الخطأ Error Checking ، ومن المعروف أن لتغيرات نشاط القشرة الحبهية الحجاجية دورا كبيرا في اضطراب الوسواس القهري، فمن المفترض أن زيادةَ النشاط في هذه المنطقة يؤدي بمرور الوقت إلى ما يشبه تحميلها بشحنةٍ زائدةٍ Supercharged تؤدي إلى وسوسة المريض باحتمال وجود خطأ ما في الأفكار حتى الدينيةَ منها (Kolak, 1995) وهوَ ما قد تكونُ له علاقةٌ بنوعية الأفكار التسلطية التي تحملُ معنى التجرؤ على المقدسات، أو التي يحدثُ فيها اجترارٌ لأفكارٍ تشكيكيةٍ ربما يستسلمُ لها البعضُ من مرضى الوسواس القهري.... أو مرضى الفصام وأحيانا الذهانيين بصفة عامة.
وأختتم هذه النظرة السريعة بعرض لما اكتشف حديثا من وجود اختلافات بين مخ المؤمن ومخ الملحد أظهرتها الدراسات الحديثة فضمن أبحاث عديدة تم تصوير المخ تركيبيا بالرنين المغناطيسي Magnetic Resonance Imaging وقورنت أمخاخ الذين يمارسون التأمل والتركيز أو الصلاة كجزء من روتين حياتهم الروحية بأمخاخ آخرين لا يصلون ولا يمارسون التأمل وكانت النتائج مذهلة فهناك بالفعل اختلافات فأمخاخ ممارسي التأمل أو الصلوات أكثر سمكا خاصة الفصوص الجبهية Frontal Lobes كما أن نشاط الفص الجبهي أعلى في مخ المؤمن مقارنة بالملحد وكذلك كان المهاد Thalamus مختلفا لكن السؤال الذي يبقى بلا إجابة كما يعلق نيوبرج (Newberg, 2012) هو هل أدمغة المتدينين والمتأملين في الأصل مختلفة عن غير المتدينين ولهذا تدينوا أم أن أدمغتهم تغيرت بسبب ممارسة الأنشطة الدينية أو الروحية وهو السؤال الذي سيبقى بلا إجابة حتى يمكن إجراء دراسات طولية بحيث يتم فحص أدمغة ومتابعة المتدينيين أو الملتزمين الجدد مثلا لمدة سنة أو سنتين أو أكثر ثم يعاد تصوير الدماغ وتجرى المقارنة، كذلك أمكنت مقارنة نشاط المخ بين المتدينين والملحدين باستخدام التصوير الوظيفي للمخ حيث طلب من مجموعة من الملحدين المتمرسين في تمارين التأمل أن يركزوا تأملهم على الرب أثناء التصوير الوظيفي للمخ فلم تظهر الفصوص الجبهية لديهم زيادة في النشاط مقارنة بالمتدينين الذين طلب منهم ذلك، كما أظهرت دراسة تصوير وظيفي لأدمغة مجموعة من الراهبات الفرنسيسكان ليس فقط زيادة في نشاط الفصوص الجبهية أثاء صلاة التركيز Centering Prayer وإنما أيضًا ما يمكن اعتباره إلغاءً لعمل أجزاء المخ التي تفصل الإحساس بالذات من الإحساس بالكون (Elliot, John., 2003) .... ما يزال هذا المبحث بحاجة إلى المزيد ولعل الله يوفقنا إلى البحث فيما فيه الخير للناس.
المراجع:
1- D’Aquili, E., Lauglin C, and McManus J. (1979) The Spectrum of Ritual: A Biological Structural Analysis. New York: Columbia University Press, 1979.
2- Ashbrook, J. & Albright, C. (1997): The Humanizing Brain: Where Religion & Neuroscience Meet. Cleveland, OH:The Pilgrim Press.
3- D’Aquili, E. & Newberg, A.B. (1999) : The Mystical Mind: Probing the Biology of Religious Experience. Minneapolis: Fortress Press.
4- Saver, J.L. & Rabin, J. (1997) : The neural substrates of religious experience. In S. Salloway, P. Malloy, J.L. Cummings (Ed.,), The Neuropsychiatry of Limbic and Subcortical Disorders. (pp. 195-207). Washington, D.C.: American Psychiatric Press.
5- Austin, James. Zen and the Brain. Cambridge, MA: MIT Press, (1999). An excellent overview of brain function, particularly of neurotransmitters and how they relate to meditation and other types of spiritual practices.
6- Beauregard, Mario, and Denyse O’Leary.(2007): The Spiritual Brain. New York:HarperCollins, 2007.
7- Geschwind , N. (1979) : Behavioral Changes in Temporal Lobe Epilepsy. Psychol. Med , V 9, P 217-219.
8- Buck, O. (2000): Basic Structure and Function of the Brain. Paper presented at the PT 1722 God and Gray Matter course of the Bangor Theological Seminary, Bangor, ME.
9- Axhar, M.Z. Varma, S.L. &Dharap,A.S.(1994) ”religious psychotherapy in anxiety disorder patients” Acta Psychi. Scand.,V. 90,P 1-3.
10- Kolak,D. (1995) : In Search of God: the Language and Logic of Belief (Wadsworth 1994). See, also, Daniel Kolak, "Mysticism and the Experience of God," in The Experience of Philosophy, Kolak & Martin, eds., Wadsworth 1995, pp. 244-256 Daniel Kolak, "The Glue of Belief," ibid, pp. 238-240.
11- Newberg A.B. (2012) : The Spiritual Brain: Science and Religious Experience. Course Guidebook. Published by: www.thegreatcourses.com
12- Elliot, John. (2003). If You’re happy and you know it you’re a Buddhist. The Sunday Times, 25th May 2003 pp. 16.
13. وائل أبو هندي (2003): الوسواس القهري من منظور عربي إسلامي، عالم المعرفة إصدار يونيو 2003 عدد 293.
واقرأ أيضًا:
الاستشفاء بالقرآن في الطب النفسي المعاصر/ تصوير الدماغ والطب النفسي أهي للمستشار أو مستشيره ؟ / الدين والطب النفسي مشاركة