أشرنا في الجزء الأول من هذه المقالة الدين والعلاج النفسي1:إلى العلاقة بين الطب النفساني والعلاج النفساني وبين الدين والروحانيات وبينا كيف تحركت في الغرب من القطيعة التامة والهجوم المتبادل إلى القبول باستقلال كل منهما عن الآخر مع الإهمال المتبادل، ثم ما يبدو أخيرا وكأنه نوعا من التعاون أو التكامل بين العلاج النفساني والروحانيات بشكل عم، وأما فيما يتعلق بتفاعلنا نحن في العالم العربي مع هذه القضايا الشائكة فإنني أستطيع رصد عددٍ من الإضاءات التي سبقتني والتي عاصرتها وشاركت ببعضها في مجتمعاتنا العربية، ففي مجال الطب النفساني في مصر كانت جهود د. جمال ماضي أبو العزايم الذي يعتبر من أوائل المنادين بالاستعانة بالدين في العلاج النفساني وقام بالاشتراك مع د. أسامة الراضي وآخرين بتأسيس الجمعية العالمية الإسلامية للصحة النفسية سنة 1984 وصدرت عنها مجلة فصلية هي "النفس المطمئنة – مجلة الطب النفسي الإسلامي" وما تزال تصدر اليوم، وهذا فضلا عن العديد من المقالات والدراسات التي ظلت تتلمس طريقا لربط العلاج النفساني بالدين..... واستمرت بعد ذلك جهود الدكتور أسامة الراضي في السعودية ثم مجموعة مستشفى الأمل بجهود أ.د محمد حافظ الأطروني وأ.د محمد المهدي وكان ذلك في سبعينيات القرن العشرين وموجها بالأساس إلى ابتكار طرق مفيدة لعلاج الإدمان، وفي نفس الوقت تقريبا في مجال علم النفس بدأت جهود أ.د مالك بدري من السودان والذي كتب أطروحته تحت عنوان متى يخرج علماء النفس المسلمين من جحر الضب؟
ويبدو أن كتابته البحث بالإنجليزية شكلت عائقا بينه وبين أغلب دارسي علم النفس العرب خاصة في مصر فظل لا يعرف عنه كثيرون حتى صدرت ترجمة عربية له أخيرا تحت عنوان "أزمة علماء النفس المسلمين" وقد ترجم البحث أيضًا للعديد من اللغات، وأيضا بدأت كتابات أ.د عثمان نجاتي من مصر التي حملت عناوين مثل القرآن وعلم النفس ومدخل إلى علم النفس الإسلامي ...إلخ، ومن الملاحظ أن ممارسة العلاج النفسي في المملكة العربية السعودية خبرة مشتركة عند كل هؤلاء الأساتذة، والحقيقة أن تأثير النهضة السعودية على علاقة ممارسة الطب النفساني والعلاج النفساني بالدين في المجتمع العربي الإسلامي ما يزال مستمرا، رغم إمكانية القول بأن جهات اهتمام أخرى بدأت في الظهور.
وفي عام 1997م تأسست الرابطة العالمية لعلماء النفس المسلمين في ماليزيا برئاسة عالم النفس السوداني مالك بابكر بدري، وهو من أشهر علماء النفس في العالم، ولديه العديد من المؤلفات الرائعة والقيمة في مجال علم النفس الإسلامي، وانضمت كل من بريطانيا واستراليا وماليزيا ومصر لهذه الرابطة الوليدة، وفي العام 2003م انتقل مقر الرابطة من ماليزيا إلى السودان، وقد تأسست هذه الرابطة لتحقيق عدد من الأهداف البناءة والتي تساهم في تقدم مجالات علم النفس المختلفة بالأبحاث والمقالات وإقامة المؤتمرات التي تساهم في إثراء هذا المجال بالعديد من التجارب.
ومن أبرز أهداف الرابطة أسلمة وتأصيل علم النفس، خلق شبكة لربط علماء النفس المسلمين فيما بينهم، وتصميم الاختبارات النفسية وتقديم الاستشارات في المواضيع المتعلقة بالجوانب الصحية والتنظيمية والإكلينكية، والإسهام في التوثيق لعلم النفس في البلدان المختلفة بدعم جهود تبادل المطبوعات، ومساعدة الباحثين للذهاب خارج بلدانهم للاستفادة من الجامعات والمعامل والمكتبات وكافة المؤسسات الأخرى، وتشجيع تبادل الطلاب والباحثين، فضلاً عن التعاون مع المنظمات الوطنية والعالمية في المواضيع ذات الاهتمام المشترك، والمشاركة في البحوث الهادفة لتطوير العلوم المختلفة، والعمل من أجل نظرة وتفهم أكثر إيجابية لعلم النفس الإسلامي، وأخيراً تأسيس مكتبة متخصصة تعنى بعلم النفس الإسلامي.
وفي سنة 2001 تأسست الشبكة العربية للعلوم النفسية ومثلت جسرا يربط العاملين في التخصص من الناطقين بالعربية وكان موقفها من علاقة الدين والبعد الروحي في الإنسان بالعلاج النفسي واضحا، وقد عملت الشبكة وعلى مدي 12 عاما من مسيرتها على اعطاء البعد الديني مكانته في العلوم النفسية العربية، وساهمت بشكل كبير في التصدي لعلم النفس الأحادي البعد (المادي، عالم الشهادة، الالحادي) الذي يهمش الإيمان بالغيب كبعد أساسي من أبعاد الشخصية وهو ما يظهر في العديد من إصداراتها خاصة سلسلة "الراسخون"، بل يمكن القول بأن الشبكة أرست تيارا في علوم النفس العربية يحترم الدين والتدين وينزله المكانة التي هو جدير بها كمكون أساسي من مكونات شخصية الإنسان، وفي أغسطس سنة 2003 انطلق موقع مجانين.كوم وكان الهدف الأساسي لهذا الموقع: التواصل بيننا كأطباء نفسانيين ومهتمين بالصحةِ النفسية والاجتماعية، -على اختلاف خلفياتنا التعليمية، ووحدة خلفيتنا الثقافية المؤمنة بالله-، ثم تواصلنا جميعًا مع جذورنا الثقافية والفكرية، كي نحسن التعامل مع الناس في مجتمعنا. ولا بدَّ لنا من أن نواجِهَ الكثير من الأفكار المغلوطة، لا أن ندير لها ظهورنا مستريحين إلى اتهام ثقافتنا كلها بالتخلف. وبهذا نستطيع تقديم ما ينفع العالمين، عقلاءَ ومجانين، نسأل الله تعالى أن يوفقنا لذلك ويعيننا عليه. وصدق ربنا إذ يقول: ((فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ)) [الرعد:17].
ومنذ كان محاضرا في جامعة الملك سعود أواخر التسعينيات بدأ د. طارق الحبيب في تطور آخر التوجه إلى المجتمع وليس إلى المتخصصين كما غلب على توجه من سبقوه، فكان أن توجه إلى المجتمع السعودي أولا فأقام الندوات والمحاضرات وأصدر الكتب ومن أهمها مفاهيم خاطئة عن الطب النفسي، ثم توجه بعد ذلك إلى المجتمع العربي بشكل عام عبر الفضائيات ليستهدف تصحيح المفاهيم المختلة عند العامة والخاصة وتقديم رؤية تبين بوضوح أن للاستعانة بالدين فوائد لا يمكن إغفالها في ممارسة المعالج النفسي، حتى نجح في سنة 2007 في إقامة مؤتمر العلاج بالقرآن بين الدين والطب في الفترة من 10 إلى 12 أبريل، بقصر الإمارات بإمارة "أبو ظبي" وشارك فيه نخبة متميزة من العلماء المتخصصين في العلوم الشرعية والطبية ونخبة من الممارسين للعلاج بالقرآن وكانت في الجلسة الافتتاحية مشاركتنا هي القرآن يتحدى.
وإذا كان كل ما سبق هو بعض ما قام به أطباء نفسانيون أو علماء نفس في المنطقة العربية على المستوى الرسمي الاجتماعي فإن كل هذا لا يعكس بالضرورة ما يدور بين الطبيب المعالج ومريضه، فالواقع يقول أن الغالبية العظمى من المعالجين النفسانيين في مجتمعاتنا يرحبون أثناء ممارستهم العملية بأن يستعين المريض بالصلوات وزيارة دور العبادة ما استطاع، إضافة إلى أن هناك من الأطباء النفسانيين من يمارس دوره في المزج بين الدين والعلاج النفسي على مستوى الكتابات ومن هؤلاء كثيرون في شتى بلدان العالم العربي وحديثا في الشتات العربي الجديد، ومن أمثلة الأطباء النفسانيين الذين يكتبون محاولين المزج بين الدين والطب النفسي نجد د. محمد كمال الشريف والدكتور محمد عمر سالم وغيرهم**.
أشرت قبل استعراض المحاولات العربية إلى تميز السنوات العشر الأخيرة بانتشار أشكال وأصناف للعلاج الروحاني وطرق التأمل والاسترخاء المختلفة والاسترخاء المقصود هنا يختلف نوعا عن الاسترخاء التصاعدي Progressive Relaxation المستخدم في علاج القلق والكرب وغيرهما (Jacobson , 1964) نظرا لمصاحبته حالة من الوعي ذات طابع روحاني متميز بالقبول أو الرضا، والمقصود هو القبول أو الرضا بالخبرة النفسية مقرونا بالتأمل فيها والالتزام بطرق استجابة معينة تكون نتيجتها استشعار الخبرة قدر الإمكان كخبرة تعاش وتأملها على طريقة عالم أو خبير لكن ليس كقاضي أي تأملها برضا واطمئنان وصولا إلى حالة اليقظة.
وبشكل عام فإن كمية الأبحاث التي تحاول دراسة العلاقة بين الصحة العقلية أو النفسية والتدين أو الروحانيات قد زادت باضطراد في السنوات الأخيرة ففي حين نشرت 6,282 دراسة فقط على مدى قرنين من الزمان (في الفترة من 1806 إلى 1999) فقد شهدت السنوات الثماني التالية لسنة 2000 (2000 – 2008) نشر 7,145 دراسة أي أكثر مما نشر في قرنين (Koenig ,2008) ولابد أن ذلك سيثمر عن فهم أعمق.
وتوالت وتكاثرت الأبحاث واشتهرت في الفترة الأخيرة طريقة لعلاج عدد من الاضطرابات النفسية اسمها "العلاج بالقبول والالتزام" Acceptance And Commitment Therapy... ويعتبرها البعض الموجة الثالثة من ع.م.س ويسمونها حينا العلاج وراء المعرفي وحينا يسمونها العلاجات المبنية على القبول Acceptance-based models وحينا العلاجات المبنية على اليقظة الراضية Mindfulness-based models . والقاسم المشترك الأعظم بين كل تلك العلاجات هو أن التركيز فيها لا يكون على الحدث النفسي المزعج (الأفكار أو المشاعر) بقدر ما يكون على فعل أو رد فعل الشخص نفسه لذلك الحدث إذ يتعلم خلال العلاج كيف يكون رد فعله على الحدث النفسي المزعج هو الرضا والتأمل ويكون ذلك غالبا عن طريق الوصول إلى حالة اليقظة الراضية Mindfulness أو الوعي الآني.... كذلك فإن تأثير طرق العلاج الصينية والشرقية عموما واضح في أغلب تلك الطرق اللاجية الحديثة.
وتختلف هذه الطرق العلاجية عن العلاج المعرفي السلوكي التقليدي في أنه بدلا من محاولة تعليم الناس وتدريبهم على تحسين مراقبة أفكارهم ومشاعرهم، والأحاسيس والذكريات والخبرات الخاصة الأخرى -خاصة غير المرغوب فيها سابقا!- فإنهم يتعلمون الوعي والقبول بها مع الالتزام فقط بملاحظتها.... ومن المهم هنا أن نلاحظ أمران : الأول هو أن غياب استعانة الأطباء والمعالجين النفسانين بالدين كان له بلا شك دورا معتبرا في السماح بهجوم العلاج بالروحانيات على ميدان العلاج النفسي وأما الأمر الثاني والذي يستدعي كثيرا من التأمل فهو عقد المقارنة بين العلاجات المبنية على القبول أو على اليقظة الراضية أو الوعي الراضي - أيا كانت ترجمة Acceptance - والعلاجات التي تتمثل في طرق التناول الديني لنفس المشكلات؟ هل يختلف القبول عن الرضا؟... وهل الالتزام Commitment بالاستجابة بطريقة معينة نتيجة القبول والرضا، يختلف عن الالتزام Commitment بمعناه الديني؟
وختاما أتساءل أيضًا إذا كنا نحن المعالجين النفسانيين معنيين أولا وأخيرا بمساعدة المريض أفليس علينا الانتباه إلى أن وجود مشكلات في القياس النفسي أو البحث العلمي في مسألة علاقة العلم بالدين أو بالروحانيات وكذا قياس تأثير التدين أو الروحانية على الصحة النفسية كل ذلك لا يجب أن يؤثر على ممارستنا الإكلينيكية والتي يجب أن نبقى معنيين فيها بما يعود بالنفع المباشر على المريض؟ وأعدكم بمقال آخر أو أكثر نقارن فيه بين التدين والروحانية ونعرض كذلك لطرق وأساليب الموجة الثالثة من العلاج المعرفي السلوكي.
المراجع:
1- Jacobson , E. (1964) : Progressive Relaxation. Chicago : University of Chicago Press.
2- Koenig H.G (2008): religion, spirituality and health: research and clinical applications. Presented at: NACSW Convention 2008 February, 2008, Orlando, FL.
** أرجو من السادة الزملاء إعلامي بما فاتني من جهود الزملاء أو الأساتذة في هذا المضمار.
واقرأ أيضًا:
الاستشفاء بالقرآن في الطب النفسي المعاصر / التغيرات العصبية الدماغية المصاحبة للخبرات الدينية
التعليق: السلام عليكم دكتورنا الفاضل
بارك الله بكم، بلغكم رمضان وتقبل منكم الطاعات.
أعجبني المقال وأريد توضيح إضافة عدة نقاط
في الأردن كان الدكتور محمود أبو دنون والدكتور عاصم أبو فرحة من الأطباء النفسانيين ذوي التوجه الديني والذين كانوا يقومون بتدعيم الجانب الديني عند المرضى وخاصة الدكتور عاصم أبو فرحة والذي يوجه مراجعيه الى ضرورة إبقاء الصلة مع الله سليمة، والحث على الصلاة والعبادات والصبر، وقد كان هناك طبيب نفساني عراقي مقيم في الأردن يدعى الدكتور عبد المجيد السامرائي من ذوي التوجه الإسلامي في العلاج الطب نفسي وهو متخصص في طب نفس الأطفال. أما في العلاج النفسي السريري غير الدوائي، فقد كان الدكتور عبد الرحمن ذاكر الهاشمي من المتخصصين الذين وجهوا الطب نفسي شرعي وهو يعقد الكثير من المحاضرات في الأردن للناس عموماً،
في السعودية أيضًا نجد الدكتور خالد الجابر يعمل على التأصيل معرفي بقالب شرعي، وقد نشر ورقة عليمة هامة في عام 2013 التقيت به في المؤتمر السنوي للجمعية الأوروبية للعلاجات السلوكية المعرفية، وقد كانت ورقته حول (الصبر) كمفهوم مرافق لاستجلاب الأمل في العلاج المعرفي.