5 – التفسير الإسلامي للسلوك:
هذا اسم اقترحه البعض، وهو اسم لمقرر في بعض الجامعات السعودية، والمآخذ التي يمكن أن تؤخذ على مصطلح ((علم النفس الإسلامي)) وذكرت هناك في أثناء مناقشة المصطلح يمكن أن تقال هنا والجواب الذي ذكر هناك يمكن أن يذكر هنا. والفرق بين المصطلحين هو أن ((علم النفس الإسلامي)) يبدو أدق في التعبير عن حركة التأصيل من ((التفسير الإسلامي للسلوك))، كما أن المصطلح الأخير عام لا يخص علم النفس فقط، بل يمكن أن يكون التفسير النفسي الإسلامي أو الاجتماعي الإسلامي، وهذا قيد آخر لابد من إضافته إذا أريد استعمال هذا المصطلح في علم النفس.
والخلاصة هي أنه بالرغم من أنه لا زال بين الباحثين جدل حول اسم هذه الحركة، إلا أن ملامحها بدأت تتضح وتصبح موضع قبول عند كثير منهم. إن علم النفس الإسلامي ليس فرعاً من فروع علم النفس الديني، وموضوعه ليس فقط دراسة السلوك الديني عند المسلمين أو التراث النفسي في الحضارة الإسلامية، وليس مجرد تفسير الآيات والأحاديث التي لها علاقة بالنفس، ولا أيضاً رفض كل ما هو موجود في علم النفس المعاصر.
إن الواضح من التعاريف التي سلفت هو أن علم النفس الإسلامي أو التأصيل الإسلامي عملية لا تعني إلغاء علم النفس أو العلوم الاجتماعية، وإنما تعني إعادة بنائها وفقاً للتصور الإسلامي، كما تعني أيضاً التزام الخلق الإسلامي في البحث وفي مسار العلم فلا يوجه وجهة تخالف الشريعة أو تضر بالمجتمع بأي وجه من الوجوه. وهذا القيد لا يقل في أهميته عن القيد الأول، وإذا كان القيد الأول يعني بالأصول النظرية للعلم فإن هذا يعنى بتطبيقات العلم.
هذا فيما يتعلق بالمحتوى أما فيما يتعلق بالاسم فأي اسم اتسعت له اللغة وكان معبراً عن أهداف حركة التأصيل الإسلامي لعلم النفس يجوز استعماله ولا مشاحة في الاصطلاح. وعلى هذا يرى الباحث أن مصطلحات علم النفس الإسلامي أو التأصيل الإسلامي أو التوجيه الإسلامي كلها مصطلحات جائزة ممكنة الاستعمال من ناحية اللغة ومن ناحية المعنى، ولا حرج في استعمال أي منها.
والتحدي الذي يواجه المعنيين بالتأصيل في المستقبل هو التحدي الذي يواجههم الآن، وهو زيادة العناية بتحديد مفهوم التأصيل في جانبيه النظري والعملي. إن تحديد الأسس العلمية التي يجب أن يبنى عليها التأصيل، والضوابط الأخلاقية التي تضبط مسار العلم فلا يخرج عن نفع الإنسان إلى ضده ركيزتان من ركائز التأصيل الإسلامي لعلم النفس بل العلوم الاجتماعية عامة. وحركة التأصيل الإسلامي لعلم النفس مدعوة إلى استكمال هذين الجانبين. وتقويم ما قدمته حركة التأصيل فيما يتعلق بالحديث عن نظرية المعرفة وشروط التأصيل وهذا ما سوف يتطرق له البحث فيما يأتي إن شاء الله تعالى.
نظرية المعرفة:
العلوم العامة ومنها العلوم الاجتماعية تخضع لأطر تحدد مجالات بحثها ومناهجها، ومنها تستمد المسلمات التي تستند إليها. وهذه الأطر هي من نوع المسلمات التي يتلقاها الباحثون عادة بالتسليم ولا يعرضون لها بنقاش، بل ربما لا يشعرون بهيمنتها عليهم وتحكمها في أنماط تفكيرهم. والمناسبات التي يقف فيها الباحثون متسائلين عن جدوى الإطار الذي يحكم مسيرتهم العلمية قليلة، ولا تكون عادة كما يرى كون (1970م، Kuhm) إلا في حال واحدة: عندما يعجز الإطار المعرفي عن تفسير بعض الظواهر التي يدرسها أو يعجز عن الإجابة على بعض الإشكالات العلمية التي تثور في أثناء البحث.
ومع شعور عدد من دارسي التأصيل بقصور الأطر المعرفية التي تنطلق منها العلوم الاجتماعية في الغرب عن الوفاء بحاجاتهم وتحقيق أهدافهم في التأصيل، اتجهوا إلى زعزعة هذه الأطر والمسلمات والبحث في نظرية المعرفة نفسها وكان التصور الذي يقودهم إلى هذا البحث هو هل نظرية المعرفة التي تستند إليها العلوم الوافدة من الغرب تتفق مع المفهوم الإسلامي لنظرية المعرفة؟
من الذين بحثوا هذه القضية جعفر شيخ إدريس (1411هـ) في محاضرة ألقاها في مؤسسة الملك فيصل الخيرية عام 1407هـ، وانتهى إلى أن الإطار الذي تنطلق منه العلوم الإنسانية إطار إلحادي مادي يؤمن بالمادة ويحصر مناهجه في المحسوس فقط. وبحث القضية أيضاً إبراهيم رجب (1412؛ 1416هـ) وانتهى من خلال المنهج التاريخي الذي استعمله إلى أن المنهج السائد الآن يستند إلى ظروف الصراع المرير الذي نشأ في أوروبا بين الكنيسة والعلم، فبسبب هذا الصراع فقط استثنى الباحثون الدين من ميدان بحثهم وقصروا بحوثهم على العالم المادي المحسوس لاغير، ونسبوا ذلك إلى العلم، وسموا هذا العمل بحثاً علمياً وما توصلوا إليه حقائق علمية.
ويتفق مع هذين الباحثين عدد ممن كتب في نظرية المعرفة ك عبدالرحمن الزنيدي (1412هـ) في دراسته المقارنة عن مصادر المعرفة في الفكر الديني والفلسفي في ضوء الإسلام، وراجح الكردي (1412هـ) في دراسته عن نظرية المعرفة بين القرآن والفلسفة.
ومن التحديات التي تواجه الباحثين في التأصيل تحديد مسلمات الإطار الإسلامي وتوظيف هذه المسلمات في البحث العلمي توظيفاً يرفع التناقض من ذهن الباحث المسلم. ومحمد عثمان نجاتي (1411هـ) ممن حاول تحديد المسلمات التي يرى أنها تحكم الإطار المعرفي الإسلامي فذكر منها أركان الإيمان ما عدا الإيمان بالقضاء والقدر وذكر منها وحدة الحقيقة وطبيعة الإنسان الثنائية وأن الإنسان خُلق خيّراً ذا إرادة واختيار وأن القرآن والسنة مصدران أساسيان لمعلوماتنا اليقينية عن الإنسان[1].
والمسلمات التي هي موضع اتفاق عند عدد من الباحثين في التأصيل (1987م Idris، أبو حطب 1413هـ، نجاتي 1411هـ، الصنيع، 1416هـ) هي وحدة الحقيقة، فلا توجد حقيقة علمية وأخرى دينية؛ فإما أن تكون الحقيقة علمية أو لا تكون بغض النظر عن مصدرها، والمسلمة الأخرى هي أن الكتاب والسنة مصدر ثابت للحقائق العلمية. والتحدي الذي يواجه المشتغلين بالتأصيل هو الجمع بين ما جاء في القرآن وما ثبت عن طريق العلم، أو هو توظيف هاتين المسلمتين في البحث العلمي.
والقول بوحدة الحقيقة واعتبار الوحي مصدراً يقينياً لها يجعل عالم النفس أمام ثلاثة أسئلة ضخمة، هي:
1 - هل يتعارض اتخاذ الوحي مصدراً للحقيقة مع دعوى الموضوعية في علم النفس وبقية العلوم الاجتماعية.
2 - كيف يستطيع عالم النفس أو الباحث في العلوم الاجتماعية عامة دفع التعارض إن وجد بين ما ثبت عن طريق الوحي وما ثبت عن طريق هذه العلوم؟
3 - كيف يستطيع الباحث الربط بين المفاهيم النفسية الشرعية ومقابلاتها من المفاهيم التي جاءت عن طريق علم النفس أو غيره من العلوم الاجتماعية؟
وقد حاول المشتغلون بالتأصيل الإجابة على هذه التحديات الثلاثة بما يأتي:
فيما يتعلق بالسؤال الأول: فقد ناقشه عدد من الباحثين، منهم محمد امزيان (1412هـ)، الذي ناقش مفهومي الوضعية والمعيارية في البحث الاجتماعي، وبيّن الخلفية التاريخية والفلسفية لنشأة مفهوم الوضعية في الفكر الغربي؛ وكذلك جعفر شيخ إدريس (1408هـ) في مقال نشره في مجلة المسلم المعاصر ناقش فيه دعوى التعارض بين إسلامية العلوم وموضوعيتها. وقبل عرض ما توصل إليه الباحثون في هذه المسألة يجب تحديد المقصود بالموضوعية في العلوم الاجتماعية.
مصطلح الموضوعية في العلوم الاجتماعية بدأ مع كونت (امزيان، 1412هـ) حينما دعا إلى تقسيم المعارف إلى ذاتية معيارية ووضعية أو وصفية تقديرية، والأخيرة فقط هي التي تستحق الوصف بالعلمية عنده. والعلوم الاجتماعية توصف بأنها علوم موضوعية لأنها تهتم بما هو كائن لا بما ينبغي أن يكون، والمنهج الذي تنتهجه هو المنهج الوصفي التقديري، الذي يصف الظاهرة كما هي في الواقع. وحينما توصف بأنها موضوعية فلأنها ترفض الأحكام المسبقة سواء كان مصدرها الدين أو سواه. ولهذا يلح الباحثون في العلوم الاجتماعية على تجرد الباحث من كل فكرة سابقة تؤثر عليه في توجيه بحثه.
وهذا المطلب أصبح الآن موضع نظر عند كثير من الباحثين الغربيين بعد التطور الذي حصل في الفيزياء، فنظرية هايزنبرج مبدأ عدم اليقين (Uncertainty Principle) ألقى ظلالاً من الشك حول الموضوعية الصارمة. وموجز هذا المبدأ كما شرحه هايزنبرج هو أنه يستحيل على الباحث تحديد موقع الإلكترون وسرعته في وقت واحد (محمود زيدان، 1982م). ولهذا فمحمد امزيان (1412هـ) وجعفر إدريس (1408هـ) كلاهما يقرران أن الباحث يستحيل عليه أن يخلي ذهنه تماماً من الاعتقادات والميول والأفكار السابقة، كما يقرران أيضاً أن الإطار المرجعي لهذه العلوم هو إطار إلحادي مادي معاد للدين.
ويقرر جعفر أن أمامنا إذن إطارين فلسفيين يمكن أن توضع فيهما العلوم الاجتماعية: أحدهما هو الإطار الغربي وهو إطار إلحادي مادي كما سبق، وثانيهما هو الإطار الإسلامي المستند إلى الوحي، والباحث مجبر على أن يأخذ أحدهما. وإذا كان الأمر كذلك فما المقصود بالموضوعية؟ يقرر جعفر شيخ إدريس أن الموضوعية إذا كان المقصود بها هو أن يكون الباحث مستعداً لقبول ما دلت عليه المشاهدة وما كان نتيجة لازمة للتجربة أو لازماً عقلياً من لوازمها وأن يكون أميناً في نقل النتائج التي توصل إليها حتى لو خالف ذلك اعتقاداً سابقاً له، إذا كان هذا هو المقصود بها فإن هذا لا يتعارض مع إسلامية العلوم واتخاذ الوحي مصدراً للمعرفة.
ويقرر جعفر شيخ إدريس (1408هـ) أن ما يعترف به الإطار الإلحادي من حقائق ليس شيئاً خاصاً به أو ناتجاً عنه وحده، وإنما هو أمر مشترك بينه وبين الإطار الإيماني لأنه ليس في الإطار الإيماني ما يمنع من إدراك أية حقيقة تدرك في حيز الإطار الإلحادي (ص16).
أما ميزة الإطار الإيماني كما يرى جعفر فهي أنه إطار العقل الكامل، أي إنه ((يساعد على إدراك حقائق ومؤثرات وتفسيرات أخرى لها نتائج نافعة في حياة الناس العلمية والعملية والنفسية لا مجال لها داخل الإطار الإلحادي)) (ص16).
خلاصة ما سبق أنه لا يوجد تعارض بين اتخاذ الوحي مصدراً للعلوم الاجتماعية وموضوعية هذه العلوم.
أما السؤال الثاني فعرض له جعفر شيخ إدريس (1987م، Idris) في بحث له، حيث ناقش العلاقة بين ما ثبت بالعقل وما ثبت بالنقل ومدى إمكانية تعارضهما، أو بعبارة أخرى مدى أمكانية التعارض بين القضية الدينية والقضية العلمية، وأفاد بأنه يمتنع وقوع تعارض بين حقيقتين دينية وعلمية أو بين ما ثبت بالوحي وما ثبت عن طريق العلم.
والتعارض إذا وقع إما أن يكون سببه سوء فهم لهما جميعاً أو لإحداهما، أو يكون سببه أن ما يظن أنهما حقيقتان ليستا في الواقع حقيقتين، أو أن إحدى الحقيقتين ليست كذلك، أي إن ما يظن أنه حقيقة علمية ليست حقيقة علمية أو ما يظن أنه حقيقة دينية ليست كذلك. وإذا افترضنا وجود تعارض بين قضيتين علمية ودينية فالجمع بينهما لا يكون إلا بتأويل إحداهما كي تتفق مع الأخرى، ويورد جعفر شيخ إدريس رأياً لشيخ الإسلام ابن تيمية في هذا الصدد مؤداه تقديم الأرجح من القضيتين وتأويل الأضعف دلالة أو سنداً كي تتفق مع الأقوى.
وأما السؤال الثالث فالتحدي الذي يثيره تحد ضخم يصدم كل باحث في علم النفس ولا سيما المشتغلين بالتأصيل، فالباحث النفساني يجد فيما يظهر له مفاهيم في القرآن والسنة يرى أنها متفقة مع مفاهيم وردت في علم النفس فيفسر الأولى بالأخرى أو الأخرى بالأولى، ويرى أن عمله تأصيل. ومحاولات المشتغلين بالتأصيل في الإجابة على هذا السؤال لا تكاد تخرج عن واحدة من ثلاث: التأويل أو الإسقاط، والتوظيف والاشتقاق، والتفسير بالحقائق العلمية مع اصطحاب التصور الإسلامي.
المراجع
إدريس، جعفر شيخ (1411هـ). مناهج العلوم الإنسانية ومشكلاتها. ذكر في: مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية: محاضرات الموسم الثقافي لعامي 1406 – 1407هـ. الرياض: مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية. ص171 – 209.
رجب، إبراهيم (1412هـ). مداخل التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية. مجلة المسلم المعاصر، 16، 63، ص43 – 79.
رجب، إبراهيم (1416هـ). التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية: المفهوم – المنهج – المداخل – التطبيقات. الرياض: دار عالم الكتب.
الزنيدي، عبدالرحمن بن زيد (1412هـ). مصادر المعرفة في الفكر الديني الفلسفي: دراسة نقدية في ضوء الإسلام. هيرندون: المعهد العالمي للفكر الإسلامي.
الكردي، راجح (1412هـ). نظرية المعرفة: هيرندون: المعهد العالمي للفكر الإسلامي.
نجاتي، محمد عثمان (1411هـ). منهج التأصيل الإسلامي لعلم النفس. مجلة المسلم المعاصر، ع57، ص21 – 45.
الصنيع، صالح بن إبراهيم (1416هـ). دراسات في التأصيل الإسلامي لعلم النفس. الرياض: دار عالم الكتب.
أبو حطب، فؤاد (1413هـ). نحو وجهة إسلامية لعلم النفس. (ذكر في) أبحاث ندوة علم النفس. المعهد العالمي للفكر الإسلامي. 129 – 241.
إدريس، جعفر شيخ (1408هـ). إسلامية العلوم وموضوعيتها. مجلة المسلم المعاصر. 13، 50، ص5 – 19.
امزيان، محمد محمد (1412هـ). منهج البحث الاجتماعي بين الوضعية والمعيارية. هيرندون: المعهد العالمي للفكر الإسلامي.
زيدان، محمود (1982م). من نظريات العلم المعاصر إلى المواقف الفلسفية. بيروت: دار النهضة العربية.
المراجع الأجنبية:
- kuhn, T. S. (1970). The structore of scientefic revolutions (2nd ed). Chicago: Umiversity of Chicago Press.
- Idris, Jaafar S, (1987). The Islamization of sciences: its philosopy and methodology. The American Journal of Islamic Social Sciences, 4, 201 – 208
[1] لم يتضح للباحث لماذا استثنى نجاتي عقيدة القضاء والقدر من القائمة ولا سيما أنه أورد أركان الإيمان، ولعل إغفالها كان سهواً منه.
يتبع : .............. التأصيل الإسلامي لعلم النفس4
واقرأ أيضًا:
الاستشفاء بالقرآن في الطب النفسي المعاصر / فاعلية العلاج النفسي الديني في الوسواس القهري(2) / التغيرات العصبية الدماغية المصاحبة للخبرات الدينية / الدين والطب النفسي مشاركة