أدرك الإنسان منذ القدم الارتباط القائم بين الجسد والروح (النفس)، وكان هذا الارتباط موضوعاً أساسياً من المواضيع الفلسفية التي شغلت الإنسان في بحثه عن إجابات لأسئلة كثيرة حول نفسه والعالم من حوله. لقد عرف أهمية الإحساس بالراحة (النفسية) من أجل قيام وظائفه الجسدية بعملها على أكمل وجه والعكس كذلك، ولاحظ هذه العلاقة القائمة في أكثر من وجه. شغلت هذه القضية الفلاسفة والأطباء الصينيين القدماء والإغريق والعرب، وما زالت حتى اليوم تشكل واحداً من أهم الموضوعات الطبية والنفسية، وأكثر الموضوعات إثارة للجدل سواء من الناحية المفاهيمية أم المضمونية.
ونحن نلاحظ الارتباط بين الجسد والنفس في حياتنا اليومية من خلال بعض الحوادث البسيطة، كأحاسيس الانقباض في المعدة أو آلام الصدر، أو عندما يكاد رأسنا ينفجر من شدة الحزن أو الغضب، أو لأي سبب آخر. وكثيرة هي الشكاوى التي نراجع بسببها الطبيب؛ ليقول لنا بعد إجراء الفحص بأن كل شيء على ما يرام، وليس هناك من سبب للألم في القلب أو الرأس أو المعدة أو القولون، وينصحنا بالراحة وعدم الإجهاد. وربما حوَّلنا إلى متخصص نفسي؛ للاستفسار عن وجود مشكلات مهنية أو صراعات أسرية.
وفي الواقع فإن بعض المشكلات والإرهاقات المهنية والصراعات الأسرية يمكن أن تعبر عن نفسها على شكل آلام وأوجاع مختلفة، خصوصاً عندما تكون هذه المشكلات والصراعات من النوع الذي لا يستطيع الفرد التغلب عليه بسهولة. إنها تستطيع إثارة الآلام الجسدية المختلفة. وعندما تتثبت أو تتجلى هذه المعاناة المُعَذِّبة على شكل مرض جسدي واضح، فإننا نطلق عليها تسمية المرض النفسي الجسدي. ومن حيث المبدأ يمكن لكل عضو من أعضاء جسدنا أن يستجيب بشكل مرضي على الخوف والتكدر والشعور باليأس، على الرغم من أن الشخص غالباً ما يكون من الناحية العضوية سليماً. ولعل تجربة ابن سينا حين ربط كل من الحمل والذئب في مكان واحد بحيث لا يستطيع الذئب الوصول إلى الحمل، والتي قادت إلى موت الحمل، إحدى التجارب المبكرة في هذا المجال التي تحاول اكتشاف الارتباط بين الانفعالات والجسد.
ومن جهة أخرى فإن المشكلات والإرهاقات المهنية والصراعات الأسرية يغلب أن تتجلى على شكل اضطرابات نفسية كالاكتئابات والمخاوف والقسر، أي ما يسمى بالاضطرابات ذات الشكل العصابي، والتي لا يجوز هنا الخلط بينها وبين الاضطرابات والأمراض النفسية الجسدية، أو التي تسمى حديثاً الاضطرابات النفسية ذات الشكل الجسدي أو الاضطرابات الفيزيو نفسية. ولكن ليس نادراً أن تختلط الاضطرابات العصابية النفسية مع الاضطرابات النفسية الجسدية.
وفي أحيان كثيرة يقف الطبيب عاجزاً أمام مثل هذه الأمراض؛ بسبب عجز الأدوية عن تحقيق الشفاء، بل في كثير من الأحيان يمكن أن تكون الأدوية ضارة سواء من ناحية التأثيرات الجانبية، وإمكانات التعود عليهان أو من ناحية أنها تدفع المريض للاستسلام لآلامه وترسيخ الاعتقاد لدية بوجود خلل عضوي، وإبعاد مسؤوليته الشخصية عن آلامه. فالدواء يرمز إلى أن الأسباب خارجية وغير متعلقة بالمريض، وبالتالي تعفيه من تحمل المسؤولية الذاتية.
ومن واجب المريض هنا أن يكون أكثر فاعلية، وأن يبحث عن الأسباب الكامنة خلف آلامه وشكواه. وقد تكفي بعض التوجيهات البسيطة، والمعلومات التوضيحية من الطبيب، أو المتخصص النفسي الإكلينيكي؛ كي يتمكن المريض من مساعدة نفسه، ومن المهم هنا أن يدرك المريض أن لكل إنسان حاجات مختلفة، وعندما يتم قمع أو كبت هذه الحاجات وعدم الاعتراف بها، فإنها ستعبر عن نفسها بطريقتها، أي يمكن أن تقود إلى الاضطرابات النفسية الجسدية.
التفاعل بين الجسد والنفس:
ليس هناك اتفاق حتى الآن حول مصطلح ((النفسي الجسدي)) الذي ظهر في ثلاثينيات وأربعينيات هذا القرن على يد المحللين النفسيين الألمان المهاجرين إلى الولايات المتحدة الأمريكية والطب النفسي الأمريكي، ويوجد حول هذا المصطلح رؤى مختلفة تتمثل في الرؤية التقليدية للطب، أي بشكل مبسط البحث عن علاقة سبب بنتيجة، والرؤية المنطلقة من الوحدة البيولوجية والنفسية والاجتماعية للإنسان، وترى الرؤيا التقليدية للطب أن المرض النفسي الجسدي يتمثل في أنه على الرغم من عدم وجود مرض عضوي محدد، فإن المريض يشكو من أوجاع وشكاوى مختلفة ليس لها سبب واضح (بعد)، أو أن العوامل النفسية تسبب بوضوح حدوث مرض جسدي ما، كالقرحة الهضمية مثلاً، وهي أمراض يمكن معالجتها بالطرق التقليدية للطب كالأدوية وحدها، أو بالتدخل الجراحي، فالطب التقليدي من هذه الزاوية يرى أن المرض النفسي الجسدي عبارة عن فئة من الأمراض كأمراض الاستقلاب أو الأمراض المعدية.
وقد قادت هذه الرؤية الطب التقليدي إلى أزمة في الربع الثاني من هذا القرن؛ بسبب عجز هذا المفهوم للمرض من الإجابة عن تساؤلات كثيرة ونشوء التحليل النفسي الذي قلب المفهوم التقليدي السائد حول المرض. أما الرؤية الأخرى فتنطلق من كلية الإنسان، من أنه عبارة عن وحدة تفاعلية بين العوامل الجسدية والنفسية والاجتماعية.
إنها تنظر للإنسان ككائن بيولوجي مغروس في شبكة اجتماعية معينة تحدد له في كثير من الأحيان الكيفية التي عليه أن يستجيب بها لإرهاقات وتفاعلات معينة، والطريقة التي عليه أن يمرض بها، ويسهم هو كذلك بدوره في هذه التفاعلات من خلال أسلوب استجابته، ووفق هذه الرؤيا يؤثر كل اضطراب نفسي أو اجتماعي على الجسد، وكل اضطراب جسدي على النفس ولكن ليس بطريقة خطية وحيدة الاتجاه، وإنما بطريقة تفاعلية دائرية متشابكة التقاطعات.
وعندما يتم تجاهل أحد هذه الجوانب فإن العلاج غالباً لا يقود إلى نتائج مثمرة مهما بلغت دقة التقنية المستخدمة وفاعلية تأثيرها. ومعروفة هي مثلاً التأثيرات المختلفة للمادة نفسها على أشخاص مختلفين. فمن يحقق مكاسب ثانوية مثلاً عن طريق المرض كالحصول على مزيد من الاهتمام والرعاية، وتنازل الآخرين عن حقوقهم له، فلن تؤثر فيه الأساليب العلاجية التقليدية التي لا تأخذ هذا التشابك البيولوجي النفسي الاجتماعي بعين الاعتبار.
كما وأن هناك تشكيلات أو منظومات اجتماعية وأسرية تحافظ على العرض المرضي من أجل تحقيق توازن معين في المنظومة؛ لأن الشفاء سيولد بلبلة في توزيع الأدوار والتوازنات. ولا توجد حدود بين هذا التفاعل الدائم من ناحية الشخص، ولكن من ناحية المعالج لابد من وجود حدود ضرورية؛ بسبب عدم وجود أي مجموعة مهنية تستطيع الادعاء بأنها تمتلك وحدها الكفاءة اللازمة لمراعاة جميع الجوانب.
وهنا ينبغي على من يتعامل مع مثل هذه الأمراض أن يكون على دراية جيدة بحدوده وإمكاناته، سواء أكان طبيباً أم معالجاً نفسياً، وأن يقوم بتحويل المريض الذي يشكو من أوجاع نفسية جسدية إلى المتخصص الآخر إذا ما وجد أحدهما أن مساعدته لم تأت بالنتائج المرغوبة.
وهناك رؤية تقول بأن كل مرض هو في النهاية مرض نفسي جسدي، غير أن هذه الرؤيا عبارة عن رؤية أحادية الجانب. فليس وراء كل إصابة بالأنفلونزا مثلاً مشكلة نفسية إذ أن كثيرًا من الأمراض تكون عضوية خالصة كما وأن بعضها يكون موروثاً. وعلى العكس كذلك فإن بعض المشكلات ذات طبيعة اجتماعية - نفسية. والرؤية الكلية للوحدة التفاعلية بين الجسد والنفس وحدها تتيح لنا إمكانية معرفة الحدود التخصصية والطبيعة البيولوجية الاجتماعية - النفسية للأمراض.
وفي الواقع فإن كل مريض يعرف بنفسه فيما إذا كانت شكاواه وآلامه على علاقة بطبيعة حياته أو بعلاقاته المُعاشة. ولا يحتاج المتخصصون سوى إلى تأكيد ذلك له في غالبية الأحيان (ويتجلى ذلك من خلال جمل وعبارات مثل لقد "طقَّت مرارتي من شدة قهر" "مديري سيسبب لي الجلطة بتصرفاته"). وفي أحيان أخرى يتمثل دور المتخصص في مساعدة هذا الشخص على إدراك هذه المعرفة وتقبلها.
والمؤشرات التي يمكن للمتخصصين وللمريض والأقارب تفسيرها تتمثل في علاقة الشكاوى، ونموها بأزمات معينة في الأسرة، أو في الحياة الزوجية أو في المهنة بشكل خاص. وانطلاقاً من النظرية المنظومية في فهم التشكيلات الأسرية والاجتماعية والتي تفسر هذه العلاقات بما يشبه نظرية الأواني المستطرقة، أي كل خلل في جانب ما سيقود إلى محاولة التوازن من الجانب الآخر، يتضح اليوم أكثر فأكثر بأن المريض حامل العَرَضْ ليس وحده المسؤول عن مثل هذه الأزمات وليس وحده هو المريض، وإنما للآخرين كالأسرة والزوج مسؤوليتهم في المشاركة بذلك أيضاً، وأن المنظومة ككل قد تكون مريضة، وما المريض إلاّ حامل لعَرَضْ المنظومة ككل وبشكل خاص لدى الأطفال الذين غالباً ما يعبرون عن أزماتهم النفسية الناجمة عن خلل العلاقات الأسرية من خلال الأعراض المرضية التي تهدف إلى تخفيف حدة الصراعات والمشاحنات وإعادة التوازن للمنظومة من خلال الاهتمام بالمرض أكثر من المشكلات.
وفي واقع الأمر تشير الدراسات في هذا المجال إلى انخفاض نسب الطلاق، وحدة المشكلات النفسية في الأسر التي تمتلك طفلاً مريضاً بمرض نفسي جسدي مزمن، على الرغم من أن حدة الإرهاقات والمشكلات الناجمة عن المرض أكبر مما هو عليه الأمر لدى الأسر التي لا تمتلك طفلاً مريضاً. وعلى المعالج هنا فهم هذه الارتباطات، بدون اتهام أي شخص بها وتحميله الذنب. وهذا الشيء بالذات أمر صعب جداً.
ويمكن القول بشكل مبسط أن الأمراض والاضطرابات النفسية الجسدية تنشأ كتعبير عن أن أسلوب الحياة والتفكير السائد حتى الآن عند الشخص لم يعد صالحاً لحل المشكلات الجديدة الناشئة، أو لهذه المرحلة من الحياة. إنها تنشأ كنتيجة مباشرة أو غير مباشرة لنمط الحياة المتبع حتى الآن، والخَطِر في كثير من جوانبه بدون أن يعي الفرد خطورة هذا النمط بالضرورة؛ لأنه ربي على هذا الأسلوب وتعلمه فأصبح جزءاً منه، جزءاً من شخصيته وعاداته. كما تنشأ نتيجة أسلوب الحياة العصرية التي تجبرنا على قمع انفعالاتنا، ومشاعرنا، ولا تسمح لنا بالتعبير الصريح عنها إلى درجة لا نعود ننتبه فيها إلى هذه المشاعر، وكيفية عملها وتأثيرها فينا، بل وننساها أحياناً لتعود وتعبر عن نفسها بأسلوبها الرمزي وفق مبدأ الحتمية النفسية في التحليل النفسي، أو التنافر بين ما هو قائم وبين ما يرغبه الفرد وفق رؤية روجرز.
بالإضافة إلى ذلك يعتقد بوجود مناطق ضعف مبرمجة بيولوجياً تسهم في أن هذا الشخص يصاب بصداع وآخر بالقرحة المعدية، أو بالتحسس الجلدي، وهي رؤيا نادى بها الكسندر في أواسط هذا القرن، وتقول بوجود تشكيلات معينة من الصراع تقود إلى أمراض نفسية جسدية معينة وبوجود مناطق في الجسد قليلة الإثارة ومناطق أخرى مفرطة الإثارة محددة بنيوياً. وهناك جدل حول هذه الرؤيا، غير أن لها ما يبررها بشدة أيضاً. وهناك كذلك عوامل البيئة كالظروف المهنية غير الملائمة والمشحونة بالصراع والظروف السكنية غير المناسبة والعلاقات الأسرية والاجتماعية والظروف الاقتصادية، ووجود ملوثات معينة في الأرض والماء والهواء. ويطلق العلماء على هذا تسمية التسبيب متعدد العوامل.
أما كيف يحصل التثبيت أو تمركز العرض، أي التجلي الواضح للمرض الجسدي، وأحياناً التضرر العضوي الفعلي، فذلك يتعلق بالتمسك الأحادي الجانب حول أسباب المرض، وبالطرق القديمة من الحلول، أي من خلال مكافحة الأعراض بالأدوية، أو بالبحث عن المذنب، والتوقعات المبالغ بها التي يحملها المريض تجاه الطبيب صانع المعجزات. كل هذه الأشياء تعيق تحمل المسؤولية الذاتية اللازمة للمريض وللأقارب في البحث عن الحل.
تــمـرد الجــســد:
عندما تصل الصراعات اللاشعورية إلى مرحلة يصبح فيها الجهاز النفسي غير قادر على الحفاظ على الضغط الداخلي ضمن سيطرته، وعندما يرفض الجسد الاستمرار في اللعبة اللاشعورية التي نمارسها، وتفشل وسائل دفاعنا في الحفاظ على التوازن، أو عندما يصل التنافر إلى مرحلة عدم إمكانية تحقيق الانسجام بين مفهوم الفرد لذاته، وبين الممارسة الواقعية لهذا المفهوم، أو عندما يتهدد نظام المنظومة بالانهيار نتيجة عدم التوازن في علاقات المنظومة الاجتماعية، أو الأسرية يتمرد جسدنا علينا بأسلوبه الخاص بإجبارنا على حل الصراعات أو التنافر المسبب للصراعات، وإن كان ذلك بطريقة رمزية ولا شعورية على الغالب، و على حساب إحساسنا الجسدي بالراحة والعافية أيضاً. إنه يتمرد حتى لو كان في ذلك إحساس بالألم الجسدي، ولكن ربما كان الألم الجسدي أخف وطأة من الألم النفسي. وفيما يلي أمثلة على أشكال هذا التمرد:
عصاب القلب بين الاستقلالية والاهتمام:
عصاب القلب تسمية قديمة صنفها فرويد ضمن عصابات القلق، وشهدت في سبعينيات وثمانينيات هذا القرن جدلاً كبيراً حول تصنيفها كصورة مرضية مستقلة، ويطلق عليها البعض آلام القلب الوظيفية، وتتمثل في مخاوف المريض المتمركزة حول القلب، ويمكن أن تؤدي إلى الإصابة بأعراض شبيهة بالذبحة القلبية بدون أي سبب عضوي لذلك، أي بتسرع مفاجئ للقلب (نوبات هلع) وارتفاع في ضغط الدم، وارتجاف، وتعرق، واضطرابات في النظر، وتنفس متسرع، ودوار، ولكن بدون الإصابة بالإغماء. ويعاني المريض من خوف مرعب وخوف من الموت بالقلب، حيث تستمر النوبة بين دقائق معدودة حتى عدة ساعات أحيانا. وغالباً ما يظهر بين سن 18 -40 لدى كلا الجنسين مع ميل لغلبة الأعراض بين الذكور. وتظهر النوبات بفواصل تتراوح بين بضعة أيام حتى بضعة أسابيع.
وتظهر بين الفترات الخالية من النوبات مجموعة من الآلام كأوجاع القلب، وعدم الاستقرار الداخلي، والأرق والضعف وآلام في الجهاز المعدي والمعوي، وخوف من مواقف متنوعة، وانحطاط عام. وعلى الرغم من أن الأعراض تشبه أعراض الذبحة القلبية، إلاّ إن القلب وجهاز الدورة الدموية يكونان سليمين كلية، بل إن الدراسات تشير إلى العكس من ذلك. فاحتمال أن يتطور الأمر إلى ذبحة قلبية حقيقية لدى مرضى عصاب القلب أمر نادر الحدوث، على الأقل ليس أكثر من احتمال إصابة أي شخص آخر سليم بذبحة قلبية من السكان ككل. ولا يوجد أدوية فعلية لمعالجة عصاب القلب، أو لإزالة نوبات الخوف والقضاء عليها، بل إن كثيرًا من الأدوية يمكن أن تسبب كتأثير جانبي لها أعراض آلام قلبية عصابية.
وتكمن أسباب الخوف المرعب الذي يعيش فيه عصابي القلب في الخوف من الانفصال والفقدان. وينشأ خوف الانفصال هذا منذ الطفولة بسبب التعلق الشديد بين الطفل والوالدين (الأم بشكل خاص)، التي تعيق نمو الاستقلالية عند طفلها من خلال خوفها المفرط الذي تعاني منه لا شعورياً هي أصلاً، وينعكس في خوفها المبالغ به على طفلها. وفي مرحلة الرشد يتم نقل هذه التعلقية إلى الشريك (الزوج أو الزوجة) أو إلى أي شخص موثوق آخر يحل محل الأم رمزياً. فعصابي القلب تعوزه الشجاعة للاستقلالية هذه الشجاعة التي يمكن أن يستمدها من أم تحبه، ولكنها غير خوافة ولا مفرطة الاهتمام به.
وهذا هو في الواقع جوهر الصراع اللاشعوري لدى عصابي القلب ، أي الرغبة في التعلق بشخص يحبه وفي الوقت نفسه الرفض اللاشعوري لهذا التعلق الحامي والمفرط القلق، وبالتالي الرغبة بالاستقلالية. وهو ما نطلق عليه تسمية صراع الإقدام الإحجام. وغالباً ما يكون منطلق الأعراض أو النوبة المفاجئ من خلال التهديد الفعلي أو المتصور بانفصال الشريك (كالطلاق أو موت الزوج أو الزوجة أو حتى مجرد تصور هذا أو التلويح به). فعلى الرغم من أن المريض يخاف من زوال تعليقته بالآخر، إلاّ إنه يأمل دائماً بالاستقلال وتذوق طعم الحرية.
ويمكن التمييز بين نمطين من الشخصية ضمن بنية الشخصية لدى مرضى عصاب القلب يتميز الأول بالتعلق القلق، والواضح بشخص ما، ويسعى للحفاظ على صحته، ويتجنب أي نوع من الإرهاقات الجسدية، ويراقب بقلق وبشكل دائم نشاط قلبه بكل تفاصيله، ولا يندر أن يقود نفسه من خلال هذه المراقبة إلى حدوث نوبة الهلع. ويمتلك هذا النمط القناعة المطلقة بأنه مريض جداً. أما النمط الثاني فيتميز بأنه يحاول الدفاع عن نفسه ضد أي شكل من أشكال التعلق، ويتميز أصحابه بالنشاط، ومحاولة برهان إمكاناتهم الذاتية وبشكل خاص من خلال النشاطات الرياضية، ولا يستطيعون تحمل كونهم ضعفاء أو مرهقين، ويكافحون باستمرار ضد هذه المشاعر. وغالباً ما تقود السلبية والاسترخاء، والأدوية المهدئة لديهم إلى تزايد في عدد النوبات. وخلف هذه الارتكاسات غالباً ما تكمن الرغبة بالدفْء الانفعالي والأمان والثقة والخوف من العالم المرعب.
وتتمثل الخطوة الأولى للشفاء من إقرار المريض بأن سبب آلامه يكمن في النفس، وأخذ ذلك على مأخذ الجد. فبقاء عصاب القلب بدون علاج يقود في النهاية إلى الاكتئاب. ومن المهم أن يصبح المريض أكثر استقلالية ويتمرن أكثر فأكثر على تحمل مسؤولية ذاته. وهنا يمكن لطبيب متفهم أو لمعالج نفسي أن يقدم المساعدة. وللأسف فإنه مع التقدم الحديث في الأجهزة التقنية الطبية التي غالباً ما يتم استخدامها للبحث عن أسباب عضوية، وخصوصاً من الطب العضوي التقليدي يتم تجاهل الأسباب النفسية، ومفاقمة التمركز العضوي بلا نتيجة. وغالباً ما تطلق على هؤلاء المرضى عندئذ تسمية مرضى المراق (التوهم المرضي) أو المرضى الكاذبين مع تجاهل العوامل النفسية في فهم المرض.
ويمكن لأفراد الأسرة والأقارب أن يساعدوا المريض على الشفاء من خلال اهتمامهم به، ومساعدته على تخطي مرحلة الانفصال. ولكن لابد من الحذر هنا من عدم جعله يتعلق بهم من خلال الاهتمام الزائد عن الحد. ومن المهم جداً إتاحة الفرصة للمرضى، وخصوصاً الشباب منهم؛ لاختيار طريقهم بأنفسهم، وعدم تقييدهم بقيود الأهل ورغباتهم ومساعدتهم على تنمية الاستقلالية خارج المنزل.
ارتفاع ضغط الدم وارتباطاته النفسية:
يعتبر ارتفاع ضغط الدم من الارتكاسات الطبيعية على المتطلبات من جميع الأنواع، وخصوصاً في المواقف المثيرة والمسببة للتوتر. ولكن الارتفاع المستمر لضغط الدم يحمل معه عواقب وخيمة. ومشكلة ارتفاع ضغط الدم أن المريض لا يلاحظ ذلك على الإطلاق، حيث يشعر على الأغلب بالصحة والعافية. لذلك يغلب أن يتم اكتشاف وجود ضغط دم مرتفع في أثناء إجراء الفحوص الروتينية أو في سياق مرض آخر.
فإذا ما تم التأكد بعد سلسلة قياسات مختلفة من وجود ارتفاع في ضغط الدم، فلا بد من البدء بالعلاج بسبب الآثار المضرة المحتملة لارتفاع ضغط الدم كتبدل جدران الأوعية، أو اضطراب التروية الدماغية التي تسبب الشعور بالدوار، وتراجع الذاكرة واضطرابات في الرؤية. كما يمكن أن يسبب الضغط المرتفع الذبحة القلبية أو السكتة الدماغية. وقد ساد الاعتقاد لفترة طويلة أن ضغط الدم يرتفع بشكل طبيعي مع التقدم في العمر، غير أن هذه الفرضية باتت اليوم غير صحيحة، ومن هنا لابد من أخذ ارتفاع الضغط الشرياني في سن الشيخوخة مأخذ الجد وعدم إهماله.
وتتصف شخصية مرضى ارتفاع الضغط الشرياني بأن هؤلاء المرضى يعيشون مع الشعور بأن عليهم توكيد أنفسهم وإثبات ذاتهم. وغالباً ما لا يستطيعون العيش إلاّ تحت ضغط الوقت. وهذا الاتجاه الحياتي لا يتم اكتسابه من خلال التربية فحسب، وإنما من خلال مجرى الحياة ككل. وكثير من المرضى يقومون بإخفاء مشاعر كالخوف والغضب والحنق على المحيطين بهم، وبالتالي يسهمون بتضخيم توترهم الداخلي.
ويتحررون بشكل مؤقت عندما يتمكنون من تفريغ غضبهم، إلاّ إن هذا التفريغ غالباً ما يكون عندئذ شديداً لدرجة أنهم يصطدمون بارتكاسات المحيطين بهم، وبالتالي تزداد سيطرة المريض على نفسه أكثر فأكثر؛ كي لا يصطدم بمثل هذه الارتكاسات. وحتى عندما يكون مفرط النشاط، ومستعدًا للبذل والعطاء فإنه يعتقد أن الآخرين يستغلونه، أو أنه لا يلقى الاعتراف المناسب من قبلهم، الأمر الذي يقود إلى ارتفاع شدة الميول العدوانية تجاه الأشخاص المحيطين به.
ويمكن للتوتر والغضب في الأسرة أو مع الزملاء في العمل أن يجعل الضغط الدموي دائم الارتفاع. ويشكل التبديل المستمر لمكان العمل والسكن خطراً إضافياً لارتفاع ضغط الدم مقارنة بالأشخاص الذين يعيشون ضمن شروط حياتية مستقرة. في كل هذه الأشياء يشعر المريض بالخيبة، ويحاول تحقيق تعويض بديل عن خيبته من خلال ازدياد الطعام والشراب. وبالتالي يزداد إرهاق القلب والدورة الدموية، وبالتالي خطر الإصابة بالذبحة القلبية.
وبسبب عدم شعور المريض بارتفاع ضغط الدم بالمرض فإنه على الغالب لا يقوم بتناول الدواء بصورة منتظمة. وهذا الأمر على غاية الخطورة فالتناول المنتظم للأدوية يخفف من العواقب الخطيرة لارتفاع الضغط. غير أن الدواء ليس هو الإمكانية الوحيدة بحد ذاتها لتخفيض ضغط الدم فالتغذية الصحيحة المتوازنة، والنوم الكافي وتنظيم أوقات الفراغ يمكنها خفض ضغط الدم. كما يمكن تعلم طرق الاسترخاء الذاتي وطرق سلوكية أخرى تساعد على تخفيض ضغط الدم واستقراره.
يتبع................... جسدك مرآة نفسك2
واقرأ أيضًا:
كيفَ تَـخْـتَـلُّ صورة الجسد؟ / الأكل الانفعالي Emotional Eating / ضوء الصباح، هل هو علاج ضد السمنة؟ / ردًّا على هل اتخاذ الصورة معيارا شِرْك