لا شك أن الطب النفسي هو أكثر الفروع الطبية تأزماً مقارنة بالاختصاصات الطبية الأخرى وأبسط ما يوضح ذلك استعمال المصطلحات الأولية للأمراض الطبنفسية. المصطلحات التالية جميعها واحدة وهي:
1- اضطراب طبنفسي Psychiatric Disorder
2- اضطراب نفسي Psychological Disorder
3- اضطراب عقلي Mental Disorder
استعمال مصطلح عقلي Mental واجه معارضة خفية وعلنية من العاملين في مجال العجز التعليمي أولا وتم استحداث مصطلح خدمات العجز التعليمي بدلاً من التخلف العقلي Mental Retardation رغم عدم ارتياح الطب النفسي العام لمصطلح عقلي ولكن استعماله لوصف الخدمات والاضطرابات الطبنفسية هو المصطلح المقبول في معظم بلاد العالم هذه الأيام.
هذه المقدمة تعكس الارتباك الموجود في الطب النفسي في تقديم الخدمات وتصنيف الأمراض الطبنفسية التي يتجاوز عددها 300 استناداً إلى المجلد التشخيصي والإحصائي الخامس للجمعية الأمريكية للطب النفسي. توقع الكثيرون بأن هذا المجلد في آخر طبعة له سينتقل من وضع الاضطرابات النفسية من أصناف Categories معرفة بأعراض طبنفسية إلى أبعاد Dimensions تربط الاضطرابات النفسية المختلفة. لم يحدث ذلك ولكن الارتباك لم يتوقف باللجوء إلى استعمال مصطلح أكثر ارتباكاً وهو طيف Spectrum .
استعمال المصطلح في الممارسة السريرية:
عندما يقول الطبيب النفسي لمستشيريه بأن المريض يعاني من اضطراب طيف التوحد أو الثناقطبي أو الوسواس القهري فإن ما يفهمه المريض مباشرة هو إصابته باضطراب نفسي جسيم. أما مفهوم الطبيب لهذا المصطلح فهو غير ذلك ويمكن أن يعني ما يلي:
1- وجود اضطراب نفسي لابد من علاجه.
2- وجود اضطراب نفسي طفيف يشبه اضطراب نفسي جسيم.
3- ثقة الطبيب بوجود أعراض طبنفسية متواجدة في اضطرابات نفسية وعدم مقدرته على الوصول إلى تشخيص نهائي.
4- عدم قناعة الطبيب بوجود اضطراب نفسي جسيم.
5- استجابة الطبيب النفسي إلى مطالبة من يستشيره بالحصول على تشخيص طبنفسي.
على ضوء ذلك فإن استعمال هذا المصطلح يفتقر إلى الشفافية في الاتصال بين الطبيب ومريضه لأن ما يعنيه الطبيب غير ما يفهمه المريض. قد يسهب الطبيب في شرح ما يعنيه ولكن المريض حين يخرج من عيادة الطبيب لا يوجد إلا مصطلح واحد في ذهنه وهو التشخيص الطبنفسي الذي توصل إليه الطبيب لنفسي.
التشخيص الطبنفسي عملية دقيقة وتشمل:
1- وجود أعراض طبنفسية سريرية مؤكدة تتجاوز عتبة معينة.
2- جمع الأعراض الطبنفسية للوصول إلى تشخيص طبنفسي.
أما استعمال مصطلح الطيف فهو لا يبالي باستعمال العتبة بتقييم العرض الطبنفسي ولا يعير اهتماما لجمع الأعراض الطبنفسية وبدلاً من الوصول إلى تشخيص طبنفسي واضح ينتهي الأمر باللجوء إلى مفهوم مرتبك للمريض والطبيب على حد سواء.
الاستعمالات المختلفة للطيف:
مفهوم الطيف لا يختلف عن مفهوم البعد إذا تم تطبيقه على الأعراض الطبنفسية أو تشخيص الاضطرابات العقلية ومنها الفصام والاضطرابات الوجدانية والحصار المعرفي (الوسواس القهري) والتوحد.
الطيف الذهاني Psychotic Spectrum :
الفصام هو أهم وأخطر وأكثر الاضطرابات الطبنفسية تحديا للعلم والخدمات الصحية والاجتماعية والصحية. حضارة الأمم يمكن قياسها بحجم وطبيعة الخدمات التي تقدمها للمرضى المصابين بالفصام. كان اكتشاف عقار الكلوربرومازين Chlorpromazine خطوة نقلت الطب النفسي إلى عصر جديد. كانت الغاية من استعمال هذا العقار هو للتخدير وتم اكتشاف فعاليته صدفة. ليس هذا فحسب ولكن هناك أيضاً الإبرونيازيد Iproniazid وهو أول مضاد للاكتئاب تم تسويقه لعلاج التدرن وتم اكتشافه فعاليته الوجدانية بالصدفة.
لكن عالم الصدف هذه الأيام تطور إلى عالم الجينات من أجل العثور على تفسير وعلاج للأمراض. رغم الجهود العلمية الواسعة والباهظة الثمن في العثور على هذه الجينات لكن النجاح لم يحالفها وتم استحداث مفهوم لتوسيع مفهوم الاضطراب والمساعدة في العثور على جينات الفصام. من خلال هذا البعد أو الطيف بدأ الباحثون تصنيف جميع الاضطرابات الذهانية واضطرابات الشخصية الفصامانية Schizoid والشخصية الفصامية Schizotypal وكأنها اضطراب واحد يختلف في حدته من مريض إلى آخر. لا يوجد دليل مقنع يشير إلى أن هذا التصنيف يساعد في علاج المريض في الممارسة السريرية أو في تقديم الخدمات واستهداف المرضى المصابين بالفصام.
تطور أمر طيف الفصام من خلال البحوث الجينية واقترح الباحثون من جامعة كاردف (ويلز-بريطانيا)4 استحداث طيف خاص للأمراض الذهانية كما هو موضح أدناه.
هذا النموذج لا يختلف تماما عن النموذج العلاجي العقاري1 الشائع الاستعمال في الممارسة المهنية ولكن فائدته متواضعة جداً في التواصل مع المريض وتنسيق الخدمات المحلية للمواطنين.
الطيف الوجداني والثناقطبي Bipolar Spectrum :
تم عزل الفصام عن العلة الهوسية الاكتئابية Manic-Depressive Illness منذ عدة عقود وبالرغم من استحداث مصطلحات متعددة للإشارة إلى الاضطراب الأخير فإن هذا المفهوم لا يزال موجوداً ومقبولاً من العاملين والكثير من المستخدمين للخدمات الصحية النفسية.
الطيف في الاضطرابات الوجدانية ليس حديثاً ويشير إلى أن الاكتئاب والهوس هما على بعد واحد لاضطراب يؤدي إلى عدم التوازن في المزاج والوجدان. الأعراض الطبنفسية من سلوك وأفكار وهلاوس ووهام مطابقة للحالة الوجدانية ويمكن تفسيرها بالرجوع إلى دراسة الحالة الوجدانية للمريض.
العلة الهوسية الاكتئابية هو ما نسميه اليوم اضطراب الثناقطبي. المصطلح الأخير أصبح شائع الاستعمال جماهيريا وأقل وصمة من الأول ولكن ما صاحب ولادة هذا المصطلح هو استحداث بعد جديد نسميه طيف الثناقطبي2. مع مرور الوقت بدأت العتبة السريرية للأعراض والتشخيص تنخفض تدريجيا لتشمل تقلبات مزاج لا تتجاوز بضعة أيام ومن ضمنها نوبات هوس طفيفة من جراء استعمال مواد كيمائية محظورة وأعراض جانبية لمضادات الاكتئاب وأخيراً وليس آخراً اضطراب الشخصية الحدية. في الوقت الذي كان الطب النفسي يعتبر انتشار العلة الهوسية الاكتئابية نادرة الانتشار نرى اليوم بأن هناك ما يمكن اعتباره وباء الثناقطبي.
طيف التوحد أو الطيف الذاتوي Autistic Spectrum :
ليس هناك اضطراب تحوم حوله الشبهات في الطب النفسي هذه الأيام مثل اضطراب الذاتوية ومفهوم الذاتوية. جميع أعراض الذاتوية قابلة للطعن فيها وأما معدل انتشاره في المجتمع فهو أيضاً عرضة للانتقاد. المراكز الأمريكية تتحدث عن واحد من كل 68 طفل أمريكي مصاب بالتوحد وهذا أكثر من تعداد سكان العديد من الأقليات العرقية والدينية وبالتالي علينا وضع الذين يصنفون بهذا الاضطراب كأقلية أو طائفة عرقية عصبية نفسية.
هناك الكثير من كبار العلماء الذين قدموا خدمات جليلة للإنسانية تم منحهم وسام الذاتوية "التوحد" من قبل بعض الباحثين بصورة عشوائية5. هنري كافنديش عالم بريطاني كان مولعاً بالقياسات. يقال أنه كان يستعمل نفس الطريق يوميا للتنقل من البيت إلى المختبر ولا يغير وجبات طعامه ولا يبالي بتغيير نمط ملابسه وقليل الاتصال مع الناس ولا يحب النظر نحوهم. لكن هذا العالم الجليل لم يتردد بأن يسمح لكل من هب ودب أن يستعير من مكتبته ما يشاء وبدون مقابل واكتشف للإنسانية الهيدروجين ومفهوم الهواء القابل للاشتعال وهو أول من توصل إلى تقدير كتلة الكرة الأرضية. كل هذا ويقول البعض بأنه كان مصابا بالتوحد! بدلاً من وصفه بفرد جند طاقاته الفكرية والشخصية في جهاد البحث عن الحقيقة العلمية.
طيف الذاتوية كثير الاستعمال في الممارسة السريرية ولا ينصف من هو حقاً يعاني من هذا الاضطراب ولا ينصف كذلك من يطلب منحه هذا الوسام وأهله وأقرانه.
تم جمع ثلاثة مجموعات من ملاحظات الآخرين لإنسان آخر وهي:
٠ التفاعل الاجتماعي.
٠ السلوكيات والهوايات.
٠ التواصل اللفظي وغير اللفظي.
التفاعل الاجتماعي مع الآخرين يخضع لظروف شخصية وبيئية وعائلية بالإضافة إلى القابلية الفردية للفرد. كذلك الأمر مع السلوكيات والهوايات والتواصل اللفظي وغير اللفظي مع الآخرين. تقييم هذه المجموعات الثلاثة يخضع لتحيز معرفي من قبل الوالدين والكادر التعليمي. تقييم هذه المجموعات قلما يعطي جواباً قطعيا بوجود أو عدم وجود اضطراب ذاتوي ويخرج المستشير حاملاً وسام طيف الذاتوية أو طيف أعراض ذاتوية. كل ما يكسبه الطفل والمراهق أحياناً وصمة طبنفسية يحملها طوال عمره لا تعينه على السعي لتغيير سلوكه وتحدي ظروف الحاضر والمستقبل وصياغة شخصيته في إطار إنساني اجتماعي بحت يختص بها دون غيره من الناس.
الطيف الحصاري (الوسواسي) Cognitive Siege:
اضطراب الحصار المعرفي (الوسواس القهري) كان اضطرابا منفصلا عن بقية الاضطرابات وقليل الانتشار يتميز بأفكار تداهم الإنسان الذي يدرك سخافتها ويحاول مقاومتها. يصاحب ذلك أعراض قلق وبالتالي يستجيب الإنسان للفكرة ليتخلص من القلق. كان المفهوم مستقلاً عن الفصام بل كان في تصور البعض يوفر الحصانة ضده. النموذج أدناه يوضح المفهوم القديم لهذا الاضطراب والذي ساعد في استحداث العلاج السلوكي والمعرفي السلوكي للاضطراب.
بدأت الدراسات الميدانية تتحدث عن اضطراب أكثر انتشارا وتم تطبيب السلوك القهري والأفكار الحصارية في جميع الأعمار رغم أن مفهوم الفكرة الحصارية كعرض مرضي في جميع الاضطرابات النفسية لم يكن خافيا على أحد ولا حتى أن الفكرة الحصارية بحد ذاتها والطقوس المصاحبة لاضطراب الحصار المعرفي قد تكون طبيعية للغاية.
بعد نقل الحصار المعرفي إلى مجموعة اضطرابات القلق تم استحداث مجموعة خاصة به وتبع ذلك استحداث مفهوم طيف الحصار المعرفي أو طيف الوسواس القهري3. هذا الطيف لا ينصف من هم مصابون باضطراب الحصار المعرفي ويمثل محاولة يائسة لتطبيب سلوك بشري اكتسبه الإنسان لأسباب بيئية وعائلية ويتحمل مسؤوليته الإنسان الذي يمارسه مثل الإدمان والسلوك الجنسي المتهور ولعب القمار. كذلك تم حشر الذاتوية والمراق والخطل الجنسي في هذا الطيف وذلك على الرغم من تواجدهم في أطياف أخرى.
لا يوجد دليل مقنع على أن استحداث هذا الطيف ساهم في تحسين تقديم الخدمات الصحية ونتائج العلاج للمرضى المصابين بالحصار المعرفي أو من تم ضمهم إلى الطيف نفسه. كذلك لم يساهم الطيف في اكتشاف جينات الحصار المعرفي أو غيره من اضطرابات الطيف.
نقاش عام:
هناك حقيقة لا جدال فيها وهي أن طريقة عمل الدماغ والجهاز العصبي المركزي أقل وضوحاً من بقية أجهزة الجسم. لا يزال العلاج في الطب النفسي رغم تطوره في العقود الأخيرة عشوائيا إلى حد ما وينطبق ذلك على العلاج النفسي والبيولوجي على حد سواء. كذلك لا يزال تصنيف الاضطرابات النفسية يستند على جمع كتل من الأعراض السريرية فقط تتميز أحيانا بعدم وضوع العتبة التي تفصل بين ما هو طبيعي وما هو مرضي. وعلى عكس جميع الاختصاصات الطبية الأخرى لا توجد فحوص مختبرية موضوعية تؤكد أو تنفي التشخيص الطبي.
لا يدعي علماء الجهاز العصبي بأنهم على وشك غزو الطب النفسي والأمراض العقلية واكتشاف الحقيقة. البحث عن أسباب بيولوجية لتفسير المتلازمات المختلفة في الطب النفسي بدأ منذ عدة قرون وفي كل مرحلة يكتشف العلم بأن الوحدة البيولوجية التي تمثل مفتاح اللغز تتقلص المرحلة بعد الأخرى.
كان العلم يفسر الاضطرابات النفسية بتدفق السوائل والأبخرة في الجسد قبل القرن الثامن عشر ولكن مع اكتشاف الطاقة الكهربائية وتطور علوم التشريح بدأ العلم يطارد التيارات الكهربائية في الجهاز العصبي. ثم جاء دور تصوير الرنين المغناطيسي ليساعد في التركيز على مناطق منفصلة من الدماغ ووظائفها. الآن دخل العلم مرحلة التركيز على الاتصالات بين الخلايا العصبية المختلفة فيما نسميه علم الاتصالات Connectomics .
كان استحداث مفهوم الاطياف وسيلة في البحث ومن ثم العثور على تلك الوحدة الصغيرة في دماغ الإنسان التي هي بمثابة مفتاح اللغز لتفسير الاضطرابات النفسية وطرق علاجها. كل ما يعنيه الطيف هو أن معظم الناس يتعرضون للمسة من اضطراب نفسي في مرحلة ما ولكنها قد تدوم لفترة أطول في أقلية كبيرة منهم الذين يتم تشخيصهم باضطراب نفسي صغير أو جسيم.
لم تكن الغاية من استحداث الأطياف تطوير الخدمات الصحية ولا زيادة عدد المرضى الذين يستخدمون هذه الخدمات. هذا المفهوم لم تستوعبه الخدمات الصحية النفسية في المجتمع الذي لا يزال ينظر بعين الريبة إلى المبتلين بالاضطرابات النفسية. الفائدة العلمية لاستحداث مفهوم الأطياف من أجل العثور على مفتاح اللغز لا يمكن تطبيقها في الممارسة العملية وقد تؤدي إلى ارتباك هذه الخدمات وعدم التركيز على المستضعفين من المرضى الذين هم بأمس الحاجة إلى الرعاية الطبية النفسية والاجتماعية.
الطب النفسي لا يقتصر على العوامل البيولوجية فقط وحتى إذا تم العثور على الأساس البيولوجي لجميع الأمراض العقلية فإنه لن يمحو وينفي العلاقة بين اضطرابات المرضى الطبنفسية وظروفهم الاجتماعية وخبراتهم السابقة في الحياة. وعندما يأتي دور العلاج الأفضل لكل اضطراب فلن يحدث ذلك عبر قفزة مفاجئة في البحوث العلمية وإنما من خلال تغيرات تدريجية صغيرة. يحاول الطب النفسي البحث عن الوسائل لاكتشاف وتشخيص الأمراض الطبنفسية في مراحل مبكرة لتقديم العلاج الأفضل وإرسال المريض إلى المجتمع بصورة صحية.
مفهوم الأطياف لم يفي بوعده في هذا المجال وربما وجود الإنسان على نقطة معينة في الطيف أكثر احتمالا من تحركه إلى موقع آخر أشد خطورة. ربما هناك الحاجة إلى دراسة هذا الاحتمال بصورة أوسع لتوثيق استعمال مفهوم الأطياف في الممارسة السريرية. أما الآن فالدليل على ذلك يخلو من القناعة الكافية وبالتالي لا يدعم الإسراف في استعمال الأطياف في الممارسة السريرية.
المصادر:
1- سداد جواد التميمي (2015). النموذج العلاجي الطبي في الطب النفسي. موقع مجانين. تاريخ 11 يناير 2015.
2- Angst J, Ahdacic-Gross V, Rossier W (2015). Classification of Mood disorders. Psychiatr Pol 49(4):663-671. English Translation.
3- Bradford J (1999). The Paraphilias, obsessive Compulsive spectrum disorder, and the treatment of sexually deviant behaviour. The Psychiatric Quarterly 70)30: 209-219.
4- Craddock N, Owen M (2010). The Kraepelinian dichotomy going, going… but still not gone. Br J Psych 196(2):92-95.
5- Silberman S (2015). Neurotribes: the legacy of Autism and the Future of Neurodiversity. Allen and Unwin
واقرأ أيضًا:
الدفاعات النفسية والرغبات الجنسية ثنائية التوجه / أصوات / الكلام في الطب النفسي