ليست النفس عملها عملا آليًا، وليس عملها عملا روتينيًا، إنها غير الثابتة في رؤياها للأشياء، أو تقييمها للآخرين، أو أحكامها عليهم، إنها النفس في دوامة لا تنتهي من الولادة إلى الممات، فهي تنتقل عبر مراحل الحياة من النضج تارة، أو التفوق، أو التدهور، أو الإبداع، تارة أخرى، فلن تستطيع أن تركن لحال واحد، أو تخنع لظرف واحد، إنها المحرك لكل ما في الإنسان، فهي دينامية كما قال البعض ممن درسوا النفس، ودرسوا الإنسان في سلوكه وما يصدر عنه من أفعال أو أفكار، رغم أن علماء النفس وجدوا أن كل ما يصدر عن الإنسان له دلالة ومعنى، حتى وإن غاب عن التفسير.
دعونا نبحر في أغوار عمل النفس في أحزانها، وإدمانها للهموم، وأفراحها، وإن كانت ساعات الفرح تمر قصيرة على من يعيشها، ولكن ساعات الآلم طويلة حتى وإن كان ألم الضرس في ليلة مقمرة أو حالكة الظلام، تمر دقائقه طويلة لا تنتهي، كمن يتوجس من قرار ليس لصالحه، من طائش قد يودي بحياته، هي النفس في كلا الحالين، والنفس هي هي، في الأفراح وفي الأحزان، في استقبال الفرح الجديد، وفي استقبال حزن العزيز الذي رحل، أو لمن لا يسمع الشكوى!! وهو الحكم والخصم!!
النفس هي هي لها نفس الصفات في الصحة والمرض، ولا يكون ما ينتظمها في الوعي واليقظة، أو اللاشعور، هو هو، وإن ما ينطبق عليها في هدوئها، ينطبق عليها في هيجانها، وإزاء ذلك فنحن حينما نلتقي برجل أو امرأة وقد هاجت النفس عن رباطها لأن صاحبها تعرض لأواع المعاناة، ففاضت النفس عن رباطة جأشها وأفصحت عن خلجاتها بالغضب الشديد، فإنها تجنح لأن تكبت معاناتها ولو لفترة وجيزة، تعود بعدها ثائرة هائجة، والأسوأ من ذلك إذا لم تقو على التعبير عن انفعالاتها، وكتمته في نفسها، وأرتدت تلك الخلجات والانفعالات والشحنات نحو الداخل، فيكون التدمير لكل ما في داخل النفس من أجهزة تحرك أعضاء الجسد، وبعبارة أخرى فإن الخبرات الانفعالية المؤلمة سوف تأخذ تأثيرها في عمق النفس وربما تصيب بعض الأجزاء بالشلل أو بجلطات تعكس تأثيرها على الإنسان في حالته الجسدية، ذات المؤثرات النفسية في تحريك أعضاء الجسد.
إن النفس وهي تصارع الأفكار لغرض صدها أو تحييدها، لا تلتزم بقانون رد الفعل الآلي، بل تتعداه وتلجأ إلى استخدام الآليات الدفاعية "الحيل الدفاعية" لحماية نفسها من مواجهة القوى التي تتصارع مع ما تمثله من رغبات، عارضها المجتمع أو لاقت الرفض من داخل النفس في الوقت نفسه، هنا ينشأ الصراع ولا ندري هل تذعن النفس لمكاشفة نفسها بوساطة ما تحمله من موازنة متمثلة في (الأنا). فإذا فشلت تلجأ إلى أساليب معينة تجنبها المواجهة، ولهذا فهي أساليب غير مباشرة في التعامل مع تلك التي ترى في الرغبات حق طبيعي حتى وإن تعارضت مع الواقع أو قيم المجتمع وتقاليده.
تبدأ النفس ممثلة بمركز السيطرة "الأنا" في استخدام هذه الحيل بإسراف حتى تعجز هذه الحيل تماما من حماية النفس فيظهر الاضطراب النفسي. إن النفس الإنسانية تميل للتعبير عن ما يجول في حناياها عندما لا يسمح لها التعبير، أن تلجأ للحلم كموصل لإشباع الرغبات على المستوى المتخيل، وهو ما نشاهده في حياتنا اليومية في مرحلة المراهقة، عندما تحب فتاة مراهقة شاب، وتحيل بينها قسوة القيم وعادات المجتمع من الإعلان عن رغباتها في اللقاء أو الجلوس علنًا معه، فتلجأ إلى تكوين صور في المخيلة، فيكون الإشباع على المستوى المتخيل، وهو سلوك فعلي حرم من التعبير عنه، أو اللجوء إلى أحلام اليقظة كتعبير عن عدم القدرة للوصول لمن تحب، وهو في الأحوال يخفف وطأة النفس في مسعاها، ويبدد الشحنات ولو بشكل مؤقت!!
يقول د. عبد السلام عبد الغفار إن الكبت هو العملية الدفاعية ضد القلق الذي يثيره ويؤدي إليه اكتشاف الفرد لتلك الحفزات والأفكار التي تتعارض مع ما تراه الذات "الأنا" مناسبا للتعبير عنه في المجتمع، وهي بذلك تساعد على التعايش مع المجتمع الذي يفرض مطالب وقيود معينة على سلوك الفرد وعلى ما يشبعه، وعلى ما لا ينبغي أن يعبر عنه، وهي عملية تستدعي قدر معين من الطاقة النفسية، فإذا فشلت استنزفت الطاقة التي تحتفظ النفس بها لمواجهة التفاعل الشعوري مع البيئة الخارجية وأحداثها.
وهناك العديد من الحيل الأخرى التي تلجأ لها النفس في جهادها للحصول على الراحة النفسية مع تحقيق الإشباع، منها الكبت، التوحد "التقمص" التعيين والتعيين الذاتي، التكوين العكسي، التعويض، التبرير، الاستبدال "الإحلال –الإبدال، الإسقاط ، النكوص، الإعلاء والتسامي.
تلجأ النفس إلى عمليات التكثيف والإزاحة الرمزية، وهي كثيرا ما نستخدمها في حياتنا اليومية، وتظهر في سلوكنا الفعلي من خلال فلتات اللسان، وفلتات القلم، أو الزلات في أحاديثنا، أو هي حتى النكتة، كل تلك تعبير عن رغبات تخفيها النفس في عدم القدرة في المواجهة العلنية، وتبقى النفس تعلن عن هفواتها عندما تشتد عليها الضغوط الداخلية، أو الخارجية فتتداخل من شدة صراع هذه الضغوط وسطوتها، إلى أن تفقد زمام الأمور وتفلت، فيكون حينئذ العودة إلى أخيلة الطفولة، وهو مهرب لا يعرف عنه إلا صاحبه، وهي تعد بحد ذاتها إفراغ الانفعالات التي قد تؤدي إلى الاختلال المرضي، ولكن تعين صاحبها ولو لحين، وتحفظ لصاحبها اتزانه.
واقرأ أيضًا:
أفكاري .. مزقتني؟/ البناء النفسي في الإنسان، المعني والمبني