حتى بدايات الثمانينيات من القرن العشرين كانت معظم مدارس العلاج النفسي مبنية بشكل أساسي على فكرة العلاج القائم على فلسفة التغيير، بمعنى أن النظرة للاضطرابات النفسية بشكل أساسي على أنها خلل في نمط التفكير أو السلوك طبقا لمدارس العلاج المعرفي أو السلوكي أو حتى الحيل الدفاعية النفسية طبقا لمدارس العلاج الدينامي. وبناء عليه كانت معظم العلاجات تتجه لاكتشاف الخلل ومحاولة التعاون مع العميل في تغييره أو تصحيحه. ولكن هل هذا النموذج كان قابلا للتطبيق مع كافة التشخيصات؟ الواقع والأبحاث العلمية حتى ذلك الوقت لم تقل ذلك.
خلال تلك الفترة بدأ فريق من الباحثين في جامعة واشنطن بالولايات المتحدة الأمريكية في محاولة تطوير برنامج علاج سلوكي معرفي للمرضى ذوي الميول الانتحارية، والذين تم تشخيص معظمهم باضطراب الشخصية الحدية Borderline Personality Disorder نظرا لكونه من أكثر الاضطرابات شيوعا بين المرضى ذوي الميول الانتحارية المتكررة.
وهنا كانت البداية...عند محاولة تطبيق العلاج السلوكي المعرفي بأدواته التقليدية المبنية على اكتشاف الأنماط المعرفية والسلوكية الخاطئة وتصحيحها كان المعالجون يواجهون بمقاومة شديدة ونوبات انفعالية نتيجة شعور المرضى بأنهم دائما مطالبون بفعل ما لا يستطيعون أو ما يتجاوز قدراتهم. وعندما حاول المعالجون تغيير فلسفة العلاج تماما وتبنى علاج مبنى على قبول المريض تماما كما هو ومساعدته على قبول واقعه كما هو كذلك، حدث نفس النتيجة تقريبا وهي المقاومة والنوبات الانفعالية نتيجة شعور المرضى بأن المعالج لا يشعر بمعاناتهم نظرا لأنه لا يسعى لتغيير الوضع السيء الذي يعيشون فيه.
ومن هنا بدأت مارشا لينيهان، أستاذ علم النفس بجامعة واشنطن ومدير مركز الأبحاث والعلاجات السلوكية، وفريقها المعاون في البحث عن أسلوب جديد للعلاج قائم على فكرة الدمج بين القبول والتغيير في آن واحد. أن يستطيع كلا من المعالج والعميل تبني فلسفة علاجية قائمة على تغيير ما يمكن تغييره وقبول ما لا يمكن تغييره سواء في العميل أو بيئته المحيطة.
تعريف "الجدل" Dialectic هو فكرة الدمج بين نقيضين والوصول إلى توليفة تحمل صفات مشتركة بين النقيضين وتنتج كيانا جديدا بصفات أكثر فعالية. الجدل ليس الوصول إلى حل وسط، فالتوليفة الناتجة عن دمج الأبيض والأسود في النظرية الجدلية ليس رماديا ولكن قد يكون مربعات متبادلة كرقعة الشطرنج أو حتى أطياف متداخلة من الأبيض والأسود كالحمار الوحشي. النظرية الجدلية كانت بالأساس نظرية اقتصادية وفلسفية بدأها "هيجل" و"ماركس" ولكن تطورت لتدخل مجالات علمية مختلفة ومنها أخيرا العلاج النفسي عن طريق العلاج الجدلي السلوكي Dialectical behavior therapy .
إذن لنوجز تلك المقدمة فالعلاج الجدلي السلوكي هو علاج نفسي اجتماعي قائم على الدمج بين القبول والتغيير. وإذا كان من السهل من الاسم استنتاج ما هي مكونات التغيير في هذا البرنامج العلاجي وهي قائمة على أساسيات العلاج السلوكي والعلاج المعرفي مثل استخدام فنيات تحديد الأغلاط المعرفية وتعديلها، واستخدام آليات التعزيز الإيجابي والسلبي وإدارة العواقب والتعرض وغيرها من فنيات العلاج السلوكي المعرفي التقليدية.
ولكن كان التحدي في دمج فنيات مبنية على القبول وهنا كان الاتجاه إلى استنباط أدوات أخرى قائمة على "اليقظة" أو "الوعي باللحظة" Mindfulness وهي أحد الفلسفات الشائعة في الشرق الأقصى منذ آلاف السنوات. وربما يكون من أهم إبداعات مارشا لينيهان في هذه المدرسة العلاجية الجديدة هو قدرتها على تحويل مفهوم "اليقظة" من مفهوم غامض وخبرة روحانية ربما يصعب وصفها أو التعبير عنها إلى تعريف مبسط ومهارات أو خطوات سلوكية محددة يمكن من خلالها أن تعيش بيقظة أو تتحكم في زمام عقلك وتكون موجودا هنا والآن في معظم الوقت.
كما نرى أنه وإن بدأ العلاج الجدلي السلوكي كمنظومة علاجية للمرضى ذوي الميول الانتحارية ولكنه تطور الآن ليصبح أكثر العلاجات النفسية المؤيدة بالدليل العلمي لاضطراب الشخصية الحدية أو اضطرابات خلل التحكم في المشاعر بصفة عامة طبقا لأكثر من 17 بحثا علميا في 14 مركزا بحثيا مستقلا. كما أثبت العلاج الجدلي السلوكي فعاليته في مجموعة مختلفة من الاضطرابات كاضطرابات الأكل والاضطراب الوجداني ثنائي القطب واضطرابات تعاطي المخدرات المصاحبة لاضطراب الشخصية الحدية واكتئاب المسنين.
يتميز العلاج الجدلي السلوكي بكونه برنامجا متكاملا يتناول مختلف مقومات العلاج المتكامل من زيادة التحفيز واستمرار الدوافع نحو استمرار العلاج، واكتساب مهارات جديدة وأنماط سلوكية مختلفة وتعميمها في الحياة اليومية للعميل، والتدخل في تغيير بيئة العميل وتقليل التحديات بها قدر المستطاع، ونهاية بالمحافظة على تحفيز المعالج وضمان التزامه بالبرنامج العلاجي وحمايته من التعرض للإجهاد النفسي أو الوجداني.
لكي يتمكن العلاج الجدلي السلوكي من القيام بالوظائف السابق ذكرها ينقسم البرنامج العلاجي إلى أربعة مكونات رئيسية:
1) جلسات العلاج الفردية: وتتم بشكل أسبوعي مع المعالج الرئيسي ومدتها 40-50 دقيقة وفيها يتم استعراض أحداث الأسبوع عن طريق بطاقة المتابعة الاسبوعية والعمل على حل المشكلات بالإضافة إلى استمرار تحفيز العميل للاستمرار في العلاج والعمل على تحقيق الأهداف العلاجية قصرة المدى وطويلة المدى وكيفية التخلص من السلوكيات الانتحارية والسلوكيات المعطلة للعلاج والمعطلة لجودة الحياة بصفة عامة.
2) مجموعة تنمية المهارات: وتتم بشكل أسبوعي على مدار ستة أشهر ومدتها من ساعتين إلى ساعتين ونصف أسبوعيا حيث يجتمع مجموعة من 6-10عملاء من المشاركين في البرنامج العلاجي ويقود المجموعة معالج أساسي ومعالج مساعد.
تنقسم الجلسة إلى قسمين وبينهما استراحة 10-15 دقيقة. تبدأ المجموعة بتمرين من تمرينات "اليقظة" ثم يتم مناقشة واجب الجلسة الماضية ومراجعة تطبيق العملاء للمهارات التي تم تدريسها في الأسبوع السابق والصعوبات التي واجهتهم أثناء تطبيقها للتأكد من تدريبهم عليها بشكل صحيح، وبعد الاستراحة يقوم المعالج الأساسي بتدريس المهارة الجديدة وشرح واجب الأسبوع المقبل وقد تنتهي الجلسة بتمرين بسيط للتهدئة.
على مدار ستة أسهر تنقسم مهارات العلاج الجدلي السلوكي التي يتم التدريب عليها الى أربعة وحدات رئيسية وهي:
i. اليقظة Mindfulness: وتعنى بالتدريب على توجيه الانتباه في اللحظة الحالية بدون أحكام والتركيز على عمل شيء واحد في اللحظة الواحدة وتستغرق جلستين ولكن يتم إعادتها ثلاثة مرات على مدار برنامج المجموعة العلاجية.
ii. التحكم في المشاعر Emotion Regulation : وتعنى بالتدريب على تحديد المشاعر ووصفها وتقليل الحساسية للمشاعر وكيفية تغيير المشاعر المؤلمة بالإضافة إلى بناء مشاعر إيجابية على المدى القصير والبعيد وتستغرق 6-7 جلسات.
iii. العلاقات الفعالة Interpersonal Effectiveness : وتعنى بالتدريب على مهارات الطلب والرفض والاحتفاظ بعلاقات متوازنة وفعالة مع الاحتفاظ باحترام الذات وكذلك التدريب على مهارات بناء علاقات جديدة وإنهاء العلاقات المدمرة والمعطلة وتستمر من 7-8 جلسات.
iv. تجاوز المحنة Distress Tolerance : وهي مجموعة مهارات التعامل مع الأزمات وهي المشكلات التي ليس لها حل في الوقت الحالي وكيفية التعامل مع وقت الأزمات بدون التصرف باندفاع قد يدفع الأمور إلى وضع أسوأ وذلك بالإضافة إلى مهارات قبول الواقع لكي يتمكن العميل من التعامل مع المشكلات التي ليس لها حل في المستقبل القريب وتستمر 6-7 جلسات.
كما نرى من هيكل مجموعة تنمية المهارات فهي أقرب إلى تدريب عملي منها إلى شكل المجموعات العلاجية التقليدية، وهذا لا ينفي استفادة العملاء من روح المجموعة والتواجد مع مجموعة مختلفة من الأشخاص يعانون من نفس المشكلات ويشاركون في الطرح للأفكار والحلول ويمرون بمراحل مختلفة من التحسن والاستفادة من البرنامج العلاجي.
3) مكالمات التوجيه: حيث يتضمن البرنامج العلاجي إمكانية استقبال المعالج لاتصالات هاتفية من العميل لتلقي المشورة والتوجيه في بعض المواقف الطارئة التي لا تحتمل التأجيل حتى موعد الجلسة الفردية القادمة. وتتم المكالمات طبقا لمعايير وضوابط يتم الاتفاق عليها بين المعالج والعميل وغالبا لا تتجاوز دقائق معدودة.
4) اجتماع التشاور: حيث يجتمع الفريق العلاجي مرة أسبوعيا لمدة ساعتين للتشاور بخصوص البرنامج العلاجي وتقديم الدعم النفسي والمهني لبعضهم البعض والتأكيد على التزام أفراد الفريق العلاجي بتنفيذ البرنامج بأعلى كفاءة ممكنة.
وكما نرى مما سبق يحتاج العلاج الجدلي السلوكي إلى فريق من المعالجين لكي يتمكن من تطبيق هذا العلاج المتكامل حيث يتبنى فكرة كون مجموعة من المعالجين يعالجون مجموعة من المرضى مما يساهم في تقليل الضغط على الفريق العلاجي وفي نفس الوقت إيصال إحساس بالدعم المتواصل للعملاء.
العلاج الجدلي السلوكي هو أحد المدارس العلاجية القليلة التي تجمع بين وجود بروتوكول وآليات وخطوات واضحة للتعامل مع سلوكيات محددة كالسلوكيات المهددة للحياة والسلوكيات المعطلة للعلاج، بالإضافة إلى وجود روح وفلسفة تعمل على الدمج بين القبول والتغيير وتتيح للفريق العلاجي تطبيق برنامج مناسب لكل حالة بشكل مستقل من أجل الوصول لهدف محدد وهو “بناء حياة تستحق أن نعيشها".
التجربة المصرية
في عام 2013 بدأ كاتب المقال في العمل على تكوين أول فريق مصري للعلاج الجدلي السلوكي وذلك كجزء من العمل على نيل درجة الدكتوراه من جامعة الإسكندرية حول "فعالية العلاج الجدلي السلوكي للمرضى الذين يعانون من اضطراب الشخصية الحدية المصاحب لاضطراب تعاطى المخدرات". وبالفعل تطور العمل ليصل إلى تكوين فريق من أحد عشر طبيبا وأخصائيا نفسيا من مختلف الجامعات المصرية والعاملين بوزارة الصحة وأمانة الصحة النفسية بمصر، بالإضافة إلى ستة متدربين بمجموعات تنمية المهارات في الطريق لإعدادهم للانضمام للفريق العلاجي.
هذا كما قام الفريق بتقديم مجموعة من المحاضرات وورش العمل بالمؤتمرات المحلية والإقليمية بالإضافة إلى نشر أول ورقة بحثية عن العلاج الجدلي السلوكي بمصر في المجلة الأوروبية للطب النفسي European Journal of Psychiatry بعد أن قبلت للعرض بمؤتمر الجمعية الأوروبية للطب النفسي لعام 2015.
وفي الوقت نفسه بدأ الفريق في عمل مجموعات دراسية تطوعية للمهتمين بالعلاج الجدلي السلوكي للبالغين والمراهقين في مدينتي القاهرة والإسكندرية بداية من مايو 2014 وحتى الآن. وتقوم المجموعات على فكرة مناقشة الإطار النظري للعلاج الجدلي السلوكي وقراءة المراجع الأساسية الخاصة بالعلاج والاجتماع بشكل دوري للتدريب على فنيات بسيطة للعلاج تحت إشراف أحد أفراد الفريق العلاجي أو المتدربين. وتهدف تلك المجموعات إلى زيادة الوعي بهذا النوع من العلاج الحديث نسبيا بالنسبة للمعالجين المصريين مع إعطاء الفرصة للتعرف عليه عن قرب قبل الانضمام للتدريب الأساسي.
العلاج الجدلي السلوكي في نقاط بسيطة
٠ هو علاج نفسي اجتماعي متكامل يقوم على الجمع بين القبول والتغيير.
٠ ثبت فعاليته لمجموعة من الاضطرابات القائمة على خلل التحكم في المشاعر مثل اضطراب الشخصية الحدية.
٠ مجموعة من المعالجين تساعد مجموعة من المرضى.
٠ مجموعة تنمية مهارات العلاج الجدلي السلوكي تستمر لمدة 6 أشهر وتقوم بالتدريب على أربعة مجموعات من المهارات وهي اليقظة والتحكم في المشاعر والعلاقات الفعالة وتجاوز المحنة.
٠ يتم تطبيقه بشكل أساسي للمرضى خارج المستشفى ولكن يمكن أيضا تعديل البرنامج العلاجي ليناسب المرضى لمحجوزين بالمستشفيات لفترات طويلة.
٠ تم تطبيقه في مصر بداية من عام 2013 ويتم العمل على زيادة الوعي به والتدريب عليه في مصر والوطن العربي.
واقرأ أيضًا:
العلاج ماوراء المعرفي / العلاج الأسري الوظيفي للمراهقين / العلاج السلوكي وبرامج تأكيد الذات / جلسات العلاج النفسي ليست خلوة