مقدمة
تطرق الموقع سابقاً إلى تعريف مفهوم الشخصية واضطراب الشخصية الحدية Borderline Personality Disorder والمبادئ العامة للعلاج. عملية تشخيص هذا الاضطراب أصعب مما يتصوره الكثير1وهو أكثر من مجرد تأشير أعراض تم تسطيرها في مجلدات الطب النفسي ومن ثم جمع عدد هذه الأعراض والوصول إلى رقم يبشر الطبيب النفسي بنجاحه في الوصول إلى التشخيص الصحيح. استعمال مصطلح اضطراب الشخصية الحدية بسرعة بعد معاينة المريض عبر استشارة واحدة عملية محفوفة بالمخاطر ويحاول الكثير من الأطباء تجنبه ويفضلون صياغة كل حالة بمفردها مع التركيز على العوامل الاجتماعية والسلوكية والنفسية5.
هناك أيضاً البحث عن اضطرابات نفسية أخرى وأعراض طبنفسية وتقييمها واتخاذ القرار باستعمال العقاقير النفسية. يخرج جميع المرضى من عيادة الطبيب النفسي وفي حوزتهم وصفة عقاقير تشمل مضاداً للاكتئاب9 وموازنا للمزاج وأحيانا عقاراً لا ينصح الطب باستعماله إلا في الفصام4.
قد تعطيه العقاقير فسحة زمنية قبل وضع خطة علاج كلامية وعليه خلال هذا الوقت الوصول إلى القرارات التالية:
1- أين يجب تقديم العلاج؟
2- ما هو نوع العلاج الذي يجب تقديمه؟
3- ما هي فترة العلاج؟
4- ومن الذي يجب أن يقدم العلاج؟
تقديم العلاج قد يحتاج إلى دخول المريض إلى المستشفى. فترة العلاج في المستشفى قد تكون قصيرة في الحالات الطفيفة وقد تستغرق عدة أعوام في الحالات الشديدة.
العلاج في الحالات الطفيفة لا يتطلب أكثر من جلسات كلامية منتظمة لمساندة المريض مع الأمل بتطور الشخصية تدريجيا وانتقالها إلى مرحلة جديدة في الحياة تسد احتياجاتها الناقصة. الحالات التي هي أكثر من طفيفة أو متوسطة الشدة على الأقل فليس هناك إلا نوع واحد من العلاج يجب تقديمه وهو العلاج الجدلي السلوكي3 Dialectical behavior therapy .
هناك نوع آخر من العلاج الكلامي يدعى العلاج المبني على التعقل (Mentalization Based Therapy (MBT. ويستند هذا العلاج على قواعد المدرسة التحليلية النفسية ويركز على مساعدة المريض على استيعاب حالته العقلية وحالة الآخرين العقلية. وهو يساعد في الحد من السلوك الانتحاري وإن كان أقل شهرة من العلاج الجدلي السلوكي. هذا النوع من العلاج تكثر ملاحظته في معاهد العلاج النفسي العريقة في لندن.
فترة العلاج لا تستغرق أقل من عام8 والأهم من ذلك من الذي يجب أن يقدم العلاج. إذا كان الطبيب أو المعالج النفسي يمتلك الخبرة في العلاج الجدلي السلوكي وعلاج اضطراب الشخصية الحدية فعليه عمل ذلك وإلا ليس هناك أفضل من نصيحة المريض وأولياء أمره بالوصول إلى من يملك الخبرة لتقديم العلاج الذي لا يخلو من تحديات مستمرة.
العلاج الجدلي السلوكي (Dialectical Behavioural Therapy (DBT
العلاج الجدلي السلوكي هو أحد أنواع العلاج الكلامي والذي يرتبط دوماً بعلاج اضطراب الشخصية الحدية. تسمية العلاج تحتاج إلى بعض التوضيح وبالذات مصطلح الجدلي. كلمة Dialect تعني اللهجة الخاصة بمجموعة بشرية وفي هذا العلاج تعني أن العالم الذي يحيط بالإنسان يحتوي على حقيقة هي نتاج الصراع بين وجهات نظر مختلفة متعاكسة تماماً وبدلاً من القول بأن هذا الاستنتاج هو الأفضل ترى الإنسان يتمسك بوجهة نظر واحدة بعد فترة تحتوي على النقيضين.
بعبارة أخرى قد ينظر الإنسان إلى والده ويقول هو بأنه كان شريراً قاسيا لا يعرف الرحمة ولكنه أيضاً كان حريصا وحنونا على العائلة. الغالبية العظمى تصل إلى نتيجة واحدة وهي بأنه في نهاية الأمر ساعدني في الوصول إلى أهدافي في الحياة وينتهي الأمر ولكن المصاب باضطراب الشخصية الحدية يتمسك بالقوة والتساوي بالنقيضين. بعبارة أخرى اضطراب الشخصية الحدية يصاحبه دوماً الشعور بعاطفة تتغير بسرعة وسلوك يتوازى مع هذه العاطفة وهذه هي القاعدة التي تنطلق منها أعراض الاضطراب كلها.
هذا النوع من العلاج الكلامي يؤكد على ما يلي:
٠ القبول بالمريض كما هو.
٠ الحاجة إلى التغيير.
المعالج يعطي المريض ثقته ويقبل بأن السلوكيات التي تعصف به تمثل أفضل جهوده للتعامل مع الحياة بصورة عامة ولكن في نفس الوقت يشجعه على التغيير لأن بدون ذلك لا قيمة لوجوده ولا قيمة للحياة أصلاً. يجب القبول بأن العالم الذي نعيش فيه واحد يتكون من عدة أجزاء تتصل بعضها بالبعض الآخر.
يستعير هذا النوع من العلاج العديد من الأفكار وطرق العلاج من بوذية زين Zen Buddhism وفي مقدمتها مفهوم اليقظة Mindfulness والذي يركز على ضرورة الوعي الكامل بالعاطفة والفكرة والإحساس بالجسد في أية لحظة من أجل الشعور بالسيطرة على الحياة.
الإنسان المصاب باضطراب الشخصية الحدية حين يمارس سلوكاً يصاحبه الغضب ويلحق الأذى بنفسه وأحيانا بالآخرين، فتراه في حالة انفصال عن الوعي Dissociation. يستهدف العلاج رفع وعي الإنسان لاستعمال التعقل والجدل الفكري لاستيعاب سلوكه وعلاقته بمحيطه. ويستهدف العلاج أحيانا تشجيع الإنسان على الانفصال عن الواقع من أجل السيطرة على محيطه دون إلحاق الأذى بنفسه أو الآخرين.
بوذية زين لا تخلو من المتناقضات أحيانا وتركز على استيعاب الإنسان لتجربته والتعبير عنها في ممارساته اليومية عن طريق شعوره بالآخرين. هنا أيضا يسعى الإنسان ذو الشخصية الحدية إلى القبول بتجاربه الصدمية الماضية من أجل تغيير حاضره فبدون ذلك يبقى كما هو غير قابل للتغيير. شعار بوذية زين بأن الألم الذي يشعر به الإنسان ليس بسبب تغير الآخرين ولكن بسبب عدم قبوله هو بأن لابد من أن يتغير وعليه أن يتغير بالفعل. هذا هو بالفعل ما يحدث في علاج اضطراب الشخصية الحدية.
من صفات العلاج الجدلي السلوكي هو التزامه بالواقعية في التواصل مع المريض واستعمال مصطلحات عامة يفهمها المريض ويستوعبها. كذلك يتغير تفاعل المعالج مع مريضه مع الظروف ولكن لابد من استمرار عملية التفاعل حتى الوصول إلى أهداف العلاج. يشبه البعض التفاعل بين المعالج والمريض كرقصة بين اثنين إن تحرك أحدها تحرك الآخر وبسرعة من أجل استمرار العملية والانتقال من نقطة ما إلى أخرى وهكذا.
تكاليف العلاج الجدلي السلوكي أكثر بكثير من بقية أنواع العلاج الكلامي ويمكن القيام به في العيادات الخارجية والمستشفيات اليومية Day hospital وردهات الصحة النفسية ومدة العلاج لا تقل عن عام واحد على الأقل ويتضمن ما يلي:
٠ لقاء أسبوعي بين المريض والمعالج.
٠ لقاء جمعي كل أسبوع لتحسين المهارات الشخصية.
٠ اتصال هاتفي بين الجلسات لتحسين المهارات الفردية في التعامل مع الأزمات.
٠ لقاء أسبوعي بين أعضاء الفريق المعالج دون المريض.
تكمن فائدة العلاج في الحد من السلوك الانتحاري والانتحار بحد ذاته ولكن تأثيره أقل من ذلك في السيطرة على الأعراض الوجدانية2.
رغم أن الكثير من العاملين في الطب النفسي يترددون في تقديم هذا العلاج ولا حتى يقبلون به ولكن الحقيقة هي بأن العلاج الوحيد الذي تم تصميمه لاضطراب الشخصية الحدية ولا بديل له.
نتائج العلاج
ليس هناك اضطراب نفسي محاط بالغموض مثل اضطراب الشخصية الحدية فهو لا يختلف تماما عن تلك الصورة أدناه التي لا تتميز إلا بصفة واحدة لا غير: عدم الوضوح.
ولكن هل هو اضطراب يمكن علاجه؟
والإجابة نعم. رغم محاولة الطب النفسي ربط هذا الاضطراب بعوامل وراثية وجينية وبأن وراثة الاضطراب لا تقل كثيراً عن وراثة ارتفاع ضغط الدم وبالتالي لا يمكن تعديله إلا باستعمال العقاقير ولكن الحقيقة هي أن دور العقاقير في شفاء المرض محدود جداً أو الأصح لا دور لها.
يرتكز هذا الاضطراب على عاملين يثيران اهتمام الصحة النفسية:
٠ أولا عدم التوازن الوجداني 7وهو الذي يدفع المريض إلى استشارة الطبيب النفسي.
٠ ثانيا والأهم من الأول هو عدم قابلية المريض على الدخول في علاقات مستقرة. يمكن القول بأنهم يعانون من خوف مذعور من هجرة الآخرين لهم ولا يعرفون كيف يتعاملون مع هذه العقدة النفسية.
من جراء ذلك يلتجأ المريض إلى سلوك اندفاعي تهوري بلا يقوى على التعامل مع.
عدم التوازن الوجداني يخدع الطبيب بأن العقاقير هي الحل.
الاندفاع والتهور يمثل التحدي الأكبر في العلاج.
الدخول في علاقة مستقرة هو الذي ينقل المريض إلى مرحلة ناضجة في الحياة ويتخلص من الاضطراب.
نتائج العلاج أفضل بكثير مما يتصور البعض وما لا يقل عن 80% منهم يتحسنون لفترة لا تقل عن عام واحد10على أقل تقدير بعد العلاج الجدلي السلوكي ونفس العدد يتحسن لفترة لا تقل عن أربعة أعوام لو تمت متابعتهم لفترة عشرة أعوام6.
ولكن لكي يتحسن المريض على الطبيب النفسي ضمان تقديم العلاج الصحيح أو العثور على معالج نفسي أو طبيب نفسي يقدم العلاج الجدلي السلوكي.
المصادر:
1- Blechner M (1994). Projective identification, countertransference, and the "maybe-me. ". The Journal of Psychotherapy Practice and Research (8): 155–161
2- Bateman A, FonagyP (2008). 8-year follow up of patients treated for Borderline Personality Disorder: Mentalization Based Treatment versus treatment as usual. AM J Psych 165(5): 631-638.
3- Borderline Personality Disorder: Nice Guidelines. Nice.org.uk. 28 January 2009.
4- Chengappa, R; Ebeling, T; Kang, J.; Levine, Joseph P (1999). Clozapine reduces severe self-mutilation and aggression in psychotic patients with borderline personality disorder. G Clin Psych 60(7), 477 – 484.
5- Gunderson J (2001). Borderline Personality Disorder A Clinical Guide. American Psychiatric Association. Washington DC.
6- Gunderson J, Stout R, McGlashan T, Shea T, Morey L, Grilo C, Zanarini M, Yen S, Markowitz, Sainslow C, Ansell E, Pinto A, SkodolA(2011). Ten- year Course of Borderline Personality Disorder Psychopathology and function from the collaborative longitudinal personality disorders study. Arch General Psych 68(8): 827-837.
7- Koenigsberg HW, Harvey PD, Mitropoulou V, et al. (2002). Characterizing affective instability in borderline personality disorder. Am J Psychiatry 159 (5): 784–8.
8- Panos P, Jackson J, Hasan O, PanosA (2014). Meta-Analysis and systematic review assessing the efficiency of Dialectical Behaviour Therapy(DBT). Research on Social Work Practice 24(2): 213-223.
9- Rinne T, Wim van den Brink, LuukWouters, Richard van Dyck, (2002). SSRI Treatment of Borderline Personality Disorder: A Randomized, Placebo-Controlled Clinical Trial for Female Patients with Borderline Personality Disorder. Am J Psychiatry 159:2048-2054.
10- Zanarini M, Frankenburg F, Reich D, Fitzmaurice G (2009). Time to attainment of recovery from borderline personality disorder and stability of recovery: A 10 – year prospective follow- up study. Am J Psych 167(6): 663-667.
واقرأ أيضاً:
استشارات الشخصية الحدية