توطئة:
تعتبر قضية المرأة من القضايا التي ارتبطت بوجود الإنسان منذ القدم: وقد كتبت حولها الكثير من الدراسات والمقالات، ومن منطلقات مختلفة، ومتناقضة في كثير من الأحيان، ونحن في معالجتنا هذه سوف لن نتعرض إلى البحث فيما كتب حول المرأة من أجل تحديد الآراء والمواقف، لأن ذلك لن يفيدنا كثيرا فيما نقبل عليه، والذي يهمنا أن نصل إليه أن قضية المرأة لا تخص المرأة وحدها، ولا تخص الرجل وحده ولا تخص مجتمعا بعينه، إنها قضية الإنسان كما قضية الرجل وقضية الطفل وقضية العامل وقضية الشيخ، فهي كلها قضايا الإنسان.
والخطأ الذي يقع فيه الدارسون على اختلاف منطلقاتهم ومذاهبهم وعقائدهم وألسنتهم وألوانهم هو أنهم عندما يتعاملون مع قضية المرأة يفصلونها عن المسار العام للمجتمع، والواقع الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والمدني والسياسي. وهذا الفصل هو أكبر حيف يلحق المرأة، ويلحق المجتمع، ويلحق الواقع، ويلحق المعرفة العلمية التي يمكن اعتمادها في التعامل مع المرأة نفسها.
إن التعامل مع قضية المرأة في عمقه يجب أن يكون جزءا من التعامل مع المجتمع ككل، دون تمييز بين الذكور والإناث. فالمشاكل هي نفسها، سواء تعلق الأمر بالرجال أو بالنساء وسواء كان الذكور والإناث في مرحلة الطفولة أو المراهقة أو الشباب أو الكهولة أو الشيخوخة، وما يجب اعتباره في التحليل هو خصوصية مشاكل المرأة البيولوجية، وما يترتب عن ذلك من خصوصية الحقوق.
فتردي الواقع يصيب المرأة والرجل على السواء، والاستغلال يستهدفهما معا، وتدني مستوى التعليم، وانعدام الحماية الاجتماعية وضعف المؤهلات المساعدة على الاندماج الاقتصادي والاجتماعي والثقافي .كل ذلك يصيب مجموع أفراد المجتمع، سواء كانوا ذكورا أو إناثا. والحرمان من الحقوق المختلفة يستهدف الجميع .
وفي هذه المعالجة المتأنية سنتناول بالتحليل مفهوم المرأة كجنس. وككائن اجتماعي وكإنسان وكحقوق لنخلص إلى مفهومها كإنسان. ثم إن حقوق المرأة هي عينها حقوق الإنسان الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمدنية والسياسية مع التركيز على جانب الخصوصية، ثم موقف المتنبئين الجدد من قضية المرأة باعتبارها مجرد عورة. واعتبار عملها مجرد سبب في انتشار البطالة في صفوف الرجال واستغلاله في محاربة المخالفين لهم في الانتخابات، وفي المظاهرات المختلفة، ثم سبل تفنيذ دعاوي المتنبئين الجدد، وانطلاقا من التأكيد على إنسانية المرأة واعتبار عملها حقا، واحترام كرامتها، ونشر الوعي الحقيقي في صفوف النساء، وتمتعها بالحريات العامة والفردية؛
ثم علاقة المرأة بالتنظيم، وممارستها للعمل الحزبي والعمل النقابي والجمعوي، والحقوقي ثم اهتمام المرأة بوضعيتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية والقانونية والحقوقية، ثم نظرة الإسلام للمرأة من خلال النصوص ومن خلال التشريع والممارسة إنطلاقا من العادات والتقاليد والأعراف.
ثم النضال من أجل المرأة الذي يكون من أجل الحقوق العامة والخاصة، اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا ومدنيا وسياسيا. ثم كيف يجب أن ننظر إلى المرأة على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والمدني والسياسي؟ لنخلص في النهاية إلى أن المرأة إنسان، والنيل من إنسانيتها لا يجب أن يخضع للمساومة، وأنها كالرجل في الحقوق والواجبات وأن ما ينقصنا هو التحرر من عقدة التخلف التي تشدنا إلى التمسك بالنظرة الدونية للمرأة وأن نسعى إلى إنسانية المرأة بإعادة النظر في جميع القوانين حتى تتلاءم مع المواثيق الدولية من أجل تجاوز ما نحن عليه. إلى ما هو أفضل، تكون فيه المرأة بكافة الحقوق.
مفهوم المرأة / مفهوم الإنسان:
ولمعالجة قضية المرأة لا بد من الوقوف على مفهومين اثنين: مفهوم القضية، ومفهوم المرأة.
فمفهوم القضية ينصب على كل علاقة بالمرأة مما ينشغل الناس به، ومعرفة خواصه المختلفة ومحاولة الإجابة على التساؤلات التي تطرحها على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والسياسي، وصولا إلى إجابات نهائية تساعد على تجاوزها بصفة نهائية. فالقضية إذن هي كل اهتمام مركزي يحتل مركز الصدارة في تفكيرنا ويعمل على توجيه سلوكنا في اتجاه إيجاد حلول للمشاكل التي تنجم عنها.
ومن القضايا التي تفرض نفسها على اهتمامات الناس الآنية والمستقبلية: قضية المرأة بكل تفاصيلها وتشعباتها في امتداداتها التاريخية والمستقبلية.
فما مفهوم المرأة التي تكون موضوعا للقضية؟
ومعلوم أن المجتمع ينقسم إلى جنس الذكور وجنس الإناث. وكنتيجة لهذا الانقسام الطبيعي تتميز المرأة بمجموعة من المميزات:
1) فهي كائن يختلف في طبيعته البيولوجية عن الرجل وتوكل إليه –بحكم الطبيعة– مهمة الإنجاب، كما توكل إليه –بحكم العادة– تربية الأولاد سواء كانوا ذكورا أو إناثا. وهو ما يقودنا إلى القول بأن جنس المرأة مختلف عن جنس الرجل اختلافا يترتب عنه بناء رؤيا، تصور، وتقرير وظيفة اجتماعية نفسية، واتخاذ موقف معين تجاهها.
وحسب النظرة الجنسية للمرأة، فإنها تتحول إلى مجرد متاع في يد الرجل، يحتكره فيحرص عليه، ويراقبه، وينسب إليه كل الدنايا ويخصه للاستغلال الجنسي، ويوظفه لتحقيق أغراض اقتصادية واجتماعية وسياسية للرجل، فهي خارج النظرة الدونية وخارج إرادة الرجل لاتساوي شيئا. عليها أن تكون كما يريدها الرجل المحكوم بتصور إيديولوجي معين، يسمونه "التصور الإسلامي" أو تصور بورجوازي متخلف يسمونه "التصور الحداثي" وفي التصورين معا يبقى كيان المرأة الجنسي غير حاضر وغير وارد في الممارسة اليومية للمرأة، لأنها تبقى رهينة لأحد التصورين المتناقضين، والمتصارعين في نفس الوقت لانتمائها إلى إيديولوجيتين متناقضتين.
والتصوران معا يتجسدان على أرض الواقع حيث نجد المرأة إلى جانب الرجل الذي يسدل لحيته لا يظهر منها أي شيء، لأنه يعتبرها عورة، يجب أن تخفى عن أعين الناس برؤيتها كما نجد رجلا بجانبه امرأة ولا يكاد يستر منها إلا القليل من جسدها يتعامل معها كبضاعة جميلة يعرضها ليتمتع الناس برؤيتها كما قد نجد امرأة تتعامل مع نفسها على أنها عورة أو متعة، فتخفي نفسها أو تعرض جسدها في السوق.
والتصوران معا تكون فيهما المرأة مستلبة والرجل مستلبا، والاستلاب لا يكون إلا إيديولوجيا، فالمرأة والرجل معا إما مستلبان بإيديولوجية المتنبئين الجدد التي تعيدنا إلى عصور الظلام أو بإيديولوجية البورجوازية التي تشيء كل شيء بما في ذلك الجسد سواء تعلق الأمر بالرجل أو المرأة. أما المرأة فلا رؤية لها في نفسها كجنس، لأنها لا تمتلك الوعي الكافي اللازم لإبداء رأيها أو امتلاك تصور عن كيفية تعاملها مع جسدها.
وقد كان من المفروض أن تسود في المجتمع تربية جنسية رائدة تستحضر الاستقلال النسبي لتصورات الأفراد والجماعات عن الجنس بصفة عامة، وعن المرأة، وعلاقة الرجل معها بصفة خاصة، حتى يتصرف الجميع على أساس تلك التربية ويتعامل مع المرأة في إطارها، وبما أن هذه التربية غير موجودة فإن النظرة الجنسية الدونية، والقمعية للمرأة تبقى سائدة.
2) والمرأة ككائن اجتماعي تلعب دورا رائدا في السير العادي للمجتمع، فهي ركيزة الأسرة التي بدونها لا تقوم قائمة، وهي المربية الأولى لأفرادها، والموجهة لسلوكهم، والحريصة على سلامتهم من الآفات التي قد يتعرضون لها، وهي التي تنسج شكل العلاقات التي تربط الأسرة بالمجتمع، وبالإضافة إلى ذلك فهي مساهمة في بناء اقتصاد الأسرة عن طريق العمل خارج البيت، أو منظمة لهذا الاقتصاد، وحريصة عليه وعاملة على استفادة الأسرة من الخدمات الاجتماعية المختلفة كالتعليم والصحة والسكن، والتشغيل…. وكل ما يمكن أن يؤدي إلى رفع مستوى الأسرة على جميع المستويات حتى تزداد اندماجا في المجتمع ويسهل اندماج أفرادها فيه. ومع ذلك فهي تعكس كل أشكال التخلف الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والسياسي نظرا للاعتبارات الآتية:
أ- النظرة الدونية التي تعاني منها سواء تعلق الأمر بإطار الأسرة، أو تعلق بالمجتمع ككل تلك النظرة النابعة من طبيعة جنسها، مما يترتب عنه تهميشها اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وسياسيا.
ب- بحرمانها من مجموعة من الحقوق التي يمتاز الرجل بالتمتع بها.
ج- انتشار الأمية بشكل مهول في صفوف النساء، واعتبارها مجالا لانتشار الأمراض الاجتماعية المختلفة.
د- اعتبارها مجرد متاع فيطلب منها أن تحتجب عن الذكور أو أن تعرض جسدها بشكل مكشوف في الشارع كما تعرض باقي البضائع التي يتمتع بها الناس.
وتخلف المرة يبقى القاعدة التي تسود ما لم يتم العمل على تجاوز الاعتبارات أعلاه.
3) ونجد المرأة كإنسان تشكل عمق الإنسانية بكل ما لهذا المفهوم من دلالة غير محدودة لا بالزمان ولا بالمكان، فهي الأم التي ورد فيها قول الرسول "ص" (الجنة تحت أقدام الأمهات) وتستحق أن يرد فيها الحديث النبوي الشريف: (من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال أمك، قيل ثم من؟ فقال أمك قيل ثم من؟ قال أمك قيل ثم من؟ قال أبوك). كما تستحق أن تكون لها نفس مكانة الرجل كما في قوله تعالى: (..... فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا) (الإسراء:23) وقوله في أخرى: (..... اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ......) (لقمان: 14) وهي الأخت والبنت والزوجة، وهي في جميع الحالات مكمن العواطف النبيلة التي قال فيها الشاعر حافظ إبراهيم:
الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعبا طيب الأعراق
وحتى تكون بمثابة البلسم الذي يعالج كلوم المجتمع، ودواخل النفوس يكون من اللازم العناية بها، ورعاية إنسانيتها والاهتمام بإعدادها الجيد لتحمل المسؤوليات المختلفة. وصفاء إنسانية المرأة يعتبر ضروريا لقيامها بدورها، كما أن هذا الصفاء يساعد على اندماجها، وإحلالها المكانة التي تستحقها.
إلا أن ما يخدش كرامة الإنسان بصفة عامة، وكرامة المرأة بصفة خاصة هو إلغاء إنسانيتها في العادات والتقاليد والأعراف، وفي الاجتماع والثقافة. وفي الاقتصاد والسياسة وفي القوانين العامة والخاصة، وباسم العقيدة في الكثير من الأحيان.
ويتجسد إلغاء الإنسانية في النظرة الدونية التي تتجسد في:
أ- التعامل مع المرأة على أنها دون مستوى الرجل ابتدء بمؤسسة الأسرة وانتهاء بالقوانين ومرورا بالممارسة اليومية للمجتمع حتى وإن كان هذا الرجل معتوها.
ب- اعتبارها مجرد متاع في البيت وتحفة نادرة تعرض في السوق، ومطية للتسلق الطبقي، وهو ما يرسخ في الممارسة اليومية للمجتمع إمكانية شرائها وبيع متعتها إلى عامة الناس وجعلها مثار إغراء أو منعها من مخالطة الناس.
ج- اعتبارها مثار الشهوات المختلفة، والمتدنية وسببا في الفتن المختلفة التي يعرفها الواقع بكل تجلياته.
د- اعتبارها عورة يجب حجبها عن الأعين حتى لا تسيء إلى المجتمع الذكوري، وكان الرجل ليس عورة من وجهة نظر المرأة.
ولذلك فإلغاء الدونية في الفكر وممارسة التربية على حقوق الإنسان والتعامل مع المرأة، على أساس مساواتها للرجل. وتحريم تبضيعها، واستحضار ضرورة تمتعها بحقوقها المختلفة وخاصة تمتعها بالحرية المنصوص عليها في المواثيق الدولية واستحضار كرامتها في التعامل معها.
4 ) والمرأة كحقوق تعتبر كالرجال في الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والمدنية والسياسية، بالإضافة إلى حقوقها كامرأة لها خصوصيتها. وللتمتع بتلك الحقوق عليها أن تساهم في تنشيط الجمعيات الحقوقية، وإنشاء الجمعيات الخاصة بحقوق المرأة.
غير أنها على مستوى التمتع بتلك الحقوق تجد نفسها محرومة منها بحكم العادات والتقاليد والأعراف وبسبب القوانين السائدة التي تتناقض في معظمها مع ما ورد في المواثيق الدولية مما يكرس حرمانها من تلك الحقوق، وهو حرمان أصبح قاعدة في معظم المجتمعات ذات الأنظمة التابعة، وخاصة المسماة إسلامية ولذلك فوضعية المرأة على المستوى الحقوقي في هذه البلدان يعتبر مترديا. ويقف وراء هذا التردي:
أ- إصرار الأنظمة الاستبدادية، وخاصة تلك التي تتستر بالدين الإسلامي على هضم حقوق المرأة على جميع المستويات، واعتبار ذلك الحرمان قرارا إلهيا، وبه وحده تبقى المرأة إما مندمجة في المجتمع، أو محرومة من ذلك الاندماج إذا هي حملت قسطا من الوعي يجعلها تسعى إلى المطالبة بحقوقها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمدنية والسياسية.
ب- تعود الناس على هضم حقوق المرأة بسبب النظرة الدونية التي تعاني منها، وهذا التعود يحضر بامتداداته الاقتصادية والاجتماعية وبأبعاده التاريخية والمستقبلية، وهو ما يجعله حاضرا في وجدانهم ومنتقلا إلى الأجيال اللاحقة من خلال النظام التربوي السائد، ولا يمكن اجتثاثه إلا بنظام تربوي نقيض.
ج- تدني الوعي الحقوقي في صفوف الناس بصفة عامة وفي صفوف المرأة بصفة خاصة، وهو ما ينتج عنه عدم معرفة تلك الحقوق وعدم الوعي بها مما يؤدي إلى عدم المطالبة بها. وهذا التدني يعتبر عاما في جميع المجتمعات ذات الأنظمة التابعة.
د- عدم تدريس حقوق الإنسان الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمدنية والسياسية في المدارس والمعاهد والجامعات مما يجعل الوعي بها واحترامها غير حاضر في وجدان وممارسة الأجيال الصاعدة ومما يجعل معرفة تلك الحقوق غير واردة، ولتجاوز عوامل التردي المذكورة، لا بد من إنضاج شروط تمتع المرأة بالحقوق العامة والحقوق الخاصة التي تتناسب مع وضعيتها كإنسان له بعده البيولوجي الذي يمارس بواسطته خصوصية معينة تقتضي حقوقا خاصة؛
بالإضافة إلى أبعاده الأخرى التي يشترك فيها مع الرجل، مما يقتضي تمتيعها بمجموعة من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمدنية والسياسية التي تستلزم الكونية والشمولية والجماهيرية والتقدمية والديمقراطية، وعدم تحولها إلى وسيلة للابتزاز من قبل جهة معينة لنكون بذلك متجاوزين للقيم المتخلفة التي تسعى إلى سجن المرأة في خانة التخلف على جميع المستويات.
يتبع.......... قضية المرأة / قضية الإنسان2
واقرأ أيضًا:
حجاب المسلمة، وجهةُ نظرٍ طبنفسية / مقاييس باربي في الميزان / استعباد النساء Subjugating Women / زينة المرأة والصحة النفسية