الغرور هو إيهام يحمل الإنسان على فعل ما يضره ويوافق هواه ويميل إليه طبعه. وهو حب الإنسان لنفسه بزيادة, وقد ينتج عنه الكراهية والحقد ونقصان التواضع (التعريف للجرجاني). والغرور السياسي هو أحد الآفات التي يمكن أن تصيب شخصا ممارسا للسياسسة أو تصيب نظاما سياسيا أو شعبا بأكمله فتجعله يشعر بتضخم الذات لدرجة كبيرة وبتضخم الإنجازات وعظمة التوجهات والتفرد الشخصي والتاريخي والزهو الطاووسي والنقاء العرقي, وبالتوازي مع ذلك يكون ثمة شعور شديد بالخوف والتوجس والشك وعدم الثقة في كل المحيطين على اعتبار أن المؤامرات تحاك في الداخل والخارج ضد الشخص وضد الدولة وضد الشعب.
وفي حالات الغرور السياسي تجد أوصافا كبيرة ومطلقة مثل الزعيم الملهم والقائد الركن وشعب الله المختار والدولة العظمى والجنس النقي والعرق المتفرد وأم الدنيا. والغرور السياسي ينشأ ويترعرع في ظروف الخوف والشعور بتهديد الفناء,وهنا يظهر قائد أو زعيم يشحن نفسه ويشحن الناس بمشاعر العظمة المبالغ فيها وينفخ في الذات الوطنية وفي النعرات العرقية أو الطائفية أو المؤسسية ويضخم في حجم الإنجازات التاريخية والحالية ويضخم في حجم الأعداء والمؤامرات والمخاطر ويقصي كل من ينافسه أو يعارضه ليتفرد بالرأي والرؤية والقرار والإرادة.
والغرور السياسي يتشكل من أنماط شخصية مثل البارانوية (الزورانية) والنرجسية والسيكوباتية, فالزورانية أو البارانوية هي الشك وسوء الظن والتعالي والاستبداد بالرأي واحتقار الآخر المختلف وتشويهه وتوقع وتخيل المؤامرات والدسائس والميل نحو الصراع دائما,..... أما النرجسية فهي الإعجاب الشديد بالذات والتمركز حولها والشعور بالتفرد والزهو والأنانية واستبعاد المنافسين,.... وأخيرا السيكوباتية وهي اضطراب السلوك الاجتماعي لدى الشخصية ويتمثل في الانتهازية, الكذب, العدوانية, النصب والاحتيال واللف والدوران, والخداع وتبديل الحقائق واستغلال الآخرين لتحقيق الأهداف الذاتية, وعدم التعلم من خبرات الماضي وتكرار نفس الأخطاء, وانتهاك حقوق الآخرين.
والغرور السياسي يلعب على أوتار الخوف والشعور بالدونية ليجعل الناس يتوقون للأمان ويسلمون قيادهم لمن يعدهم أو يمنحهم الأمان (حتى ولو جزئيا) ويمنحهم الشعور بالقيمة والكرامة (حتى ولو كان بالنفخ المبالغ فيه في الذات التاريخية أو الوطنية).
والغرور السياسي قد يبدأ في شخص ذي منصب قيادي مؤثر في ظروف بعينها, ولكنه سرعان ما ينتشر ليشمل حزبا أو مؤسسة أو طائفة أو شعبا أو أمة. وقد يعيش المغرورون سياسيا حالة من مشاعر العظمة والبهجة الزائفة فيغنون ويرقصون ويتباهون ويفخرون, ولا يستطيعون سماع صوت عاقل أو منبه أو محذر بل يعتبرون هذه الأصوات منتمية إلى طابور الأعداء الظاهرين أو الخفيين, أي من أعداء الوطن الذين يجب إبادتهم.
ومع الغرور السياسي تغيب الموضوعية والواقعية في التفكير وفي القرارات وفي الأفعال وتتكرر الأخطاء والأزمات والكوارث, وهنا يحاول المغرورون سياسيا الدفاع عن أنفسهم وذلك باستخدام آليات مثل الإنكار والتبرير والإسقاط والإزاحة, وقد تنجح هذه الآليات لبعض الوقت, ولكن إن آجلا أو عاجلا سيصل قطار الغرور السياسي إلى حالة ارتطام مروعة يدفع الجميع ثمنها من أمنهم وحياتهم ومستقبلهم.
وقد يصاب المصلحون بيأس من جدوى تنبيه المغرورين سياسيا من خطورة ما هم ذاهبون إليه فيتوارى هؤلاء المصلحون أو يترفعون أو ينتظرون عودة الوعي (أو بعض الوعي) لسكارى الغرور كي يستجيبوا لصرخاتهم بالتوقف عن الاندفاع المتهور والمجنون نحو الهاوية, ولكن هذا للأسف يزيد من احتمالات تزايد مخاطر الانهيار. وفي التاريخ الكثير من نماذج الغرور السياسي مثل حالة فرعون والإسكندر الأكبر ونابوليون وهتلر وموسيلسيني وصدام حسين وزين الدين بن علي وعلي عبدالله صالح وحسني مبارك ومعمر القذافي وغيرهم.
فها هو هتلر يقنع الشعب الألماني بتفوقه وتميزه العرقي على باقي البشر, وأنه جدير بهزيمة كل الجيوش وسيادة العالم, ويستعين في ذلك بقدرته الخطابية وكاريزمته الهائلة وجهاز إعلامه الضخم والمؤثر, وللأسف الشديد يندفع خلفه الشعب الألماني في حالة سكر تاريخي وانتحار جماعي ليفقيق على كارثة مروعة وليختفي الزعيم ويموت منتحرا.
وها هو القذافي يقف في المنبهرين بزعامته والمعتقدين في بطولته والمنسحقين أمام جبروته ومعجزاته وكراماته وأفكاره وترهاته يقول:
“أنا العقيد، أنا الزعيم، أنا قائد الثورة، أنا أمين القومية العربية، أنا عميد حكام العرب، أنا رئيس الاتحاد الإفريقي، أنا ملك ملوك إفريقيا، أنا زعيم إفريقيا، أنا عميد حكام العرب، أنا قائد الطوارق، أنا رئيس تجمع دول الساحل والصحراء، أنا قائد القيادة الشعبية الإسلامية، أنا إمام المسلمين, أنا قائد الجماهيرية الاشتراكية الشعبية الليبية العظمى”.
وآخر يقول عن نفسه: "ان مصر لم تنهزم في 67 لأنهم كانوا يقصدون كسر عبد الناصر وعبدالناصر لم ينكسر", ويقول في حماسة خطابية: "كلكم عبدالناصر" .
وصدام حسين ظل يهدد ويتوعد بهزيمة أمريكا وجيوش التحالف الدولي الذين أطلق عليهم متحدثه الإعلامي وصف "العلوج", لينتهي المشهد بتدمير العراق واحتلاله, واختباء الزعيم الركن والقائد الأوحد في حفرة, وليخرج منها لكي يقف عل منصة الإعدام بعد عدة شهور.
ويظهر المرشح الرئاسي الأمريكي دونالد ترامب ليلعب على أوتار التركيبة الأمريكية المشبعة بالخوف القديم والإحساس بالعظمة والتفوق, ويطالب بطرد المهاجرين غير الشرعيين وطرد المسلمين الإرهابيين, وللأسف الشديد يجد آذانا صاغية في المجتمع الأمريكي ويستغل خطابه الحماسي والعاطفي اللاعب على الغرائز العدوانية والعنصرية والإقصائية.
وكثير من الزعماء المغرورين كانوا يتورطون في وصف أنفسهم بأن لديهم صفات استثنائية وبأنهم جاءوا لإنقاذ البشرية وأنهم فلاسفة أو أطباء يشخصون أمراض البشر ويعالجونها, وأن الله منحهم هذه القدرة. ليس هذا فقط بل كان دراويشهم ومريديهم يعزفون على نفس الوتر فيطلقون عليهم أوصافا تعظيمية ترفعهم إلى مصاف الأنبياء أو حتى الألوهية.
والشخص المغرور سياسيا تراه يتحدث عن نفسه كثيرا وكأنه محور الأحداث ومحور الكون وتجد كلمة "أنا" تتكرر لديه بشكل ملفت للنظر, ويغضب كثيرا ممن لا يرون ولا يقدرون تضحياته وإنجازاته, ويعطي وعودا كثيرة بإنجازات هائلة ومشاريع ضخمة, ولا يهتم بدراسة جدوى تلك المشاريع وإنما يداعب خياله دائما الاحتفاليات الضخمة التي تواكب حركته وإنجازاته. وهو غير قادر على سماع الخبراء أو العلماء أو المتخصصين بل هو يكرههم ويعتبرهم معوقين لحركته, وربما يسخر منهم بأنهم لا يملكون مايملك من خيال وحلم وقدرة على تجاوز العقبات البيروقراطية والتفكير التقليدي, فهو يفكر بطريقة جديدة ويتحرك بشكل غير مسبوق وعلى الجميع أن يستمعوا له فقط, وألا يتكلموا إلا بإذنه, وأن يصمتوا إذا أمرهم بالصمت عن أمر ما, فهو أدرى بمصلحتهم منهم.
والمغرور سياسيا لا يكف عن المن والمعايرة (بشكل مباشر أو غير مباشر), فهو يذكر الناس دائما بأنه أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف وكساهم من عري, وعلمهم من جهل ووحدهم من فرقة, وأعزهم من ذل, وحماهم من أعداء الداخل والخارج المتربصين.
والمغرور سياسيا يعتبر أحلامه في المنام أو اليقظة إلهاما ووحيا يتحقق على أرض الواقع, ويعتبر خياله أمرا واقعيا واجب النفاذ, ولهذا يكره الحسابات السياسية أو الاقتصادية, ويختصر الخطوات في مباردات شخصية عاطفية أو سبحات كاريزمية أو تطمينات عاطفية أو حلولا سحرية.
والمغرور سياسيا لا يقترب منه إلا القادرون على تدليك نرجسيته باستمرار, وحجب الحقائق عنه حتى لا يقلق أو ينزعج, وتصوير أي معارض أو منتقد أو محذر أو ناصح بأنه طابور خامس لقوى الشر المتربصة دائما.
والمغرور سياسيا يبتلع الوطن في ذاته (أو حزبه أو مؤسسته أو طائفته أو جماعته) فيصبح هو الوطن والوطن هو, وبالتالي يصبح من يختلف معه أو يعارضه عدوا للوطن فينزع عنه ثياب الوطنية وينكل به بكل ما أوتي من قوة .
والمغرور سياسيا يتزايد أعداؤه في الداخل والخارج إما بسبب أخطائه أو أخطاء من حوله, ولكنه يرى عكس ذلك أغلب الوقت, ويزين له المحيطون به أن أصدقاءه يتزايدون وأعداءه يندحرون, وبهذا تكون الرؤية لديه ضبابية أو معكوسة ويفقد اتصاله بالواقع, وتبدو قراراته وخطواته غريبة وهادمة للذات دون أن يدري.
وإذا وصل شخص أو وصل نظام أو وصل شعب إلى حالة الغرور السياسي فإنهم لا يسمعون ولا يطيقون سماع صوت معارض أو منبه أو عاقل بل لا يسمعون إلا لأنفسهم ومستشاريهم وإعلامييهم الذين يزينون لهم ما يفعلون وينفخون في ذواتهم ويعظمون من إنجازاتهم, وهنا ترى سلوكا لا يتفق مع أي منطق أو عقل رشيد ويتعجب الناس كيف ومتى ولماذا؟!!!, ولكن حالة الانتفاخ والانتشاء والعظمة الكاذبة ماضية في طريقها لا يوقفها إلا الارتطام بجبل أو الوقوع في حفرة لا قرار لها.
إن حالات الغرور السياسي قد دمرت شعوبا وأمما وحضارات ولهذا تستدعي وقفة وانتباها من كل صاحب كلمة أو رأي أو نفوذ لينبه الناس ليستعيدوا وعيهم وليفيقوا من سكرتهم لأن لحظة السقوط لا تستثني أحدا, بل ان الإنسانية كلها قد تدفع ثمنا باهظا بسبب حالات الغرور السياسي.
واقرأ أيضًا:
متلازمة الغطرسة. . . والسلطة/ سيكولوجية السلطة/ السلطة والدولة!!/ أمراض السلطة(2) / الشخصية المتغطرسة: زملة هيوبريس أم متلازمة الغطرسة