يعَرَّفُ الألم بأنه خبرةٌ حسية أو انفعالية غير سارة ترتبطُ بضرر حقيقي أو منذر لأنسجة الجسد، أو يوصف من ناحية ذلك الضرر، ومعظمُ ما نعرفه عن آليات الألم مستمدٌ من التجارب على الحيوانات، وفي الحيوانات يكون المكوّنُ الوجداني للألم غير واضحٍ لذلك يفضل العلماء استخدام التسمية حس الأذية (حس الألم) Nociception التي تعَرِّف مُعَالجة المعلومات عن المنبهات الضارة في الجهاز العصبي وصولا إلى المستوى الذي يحدثُ عنده إدراكُها، والذي يحتملُ أنه عند مستوى القشرة المخية، وهذا التفريقُ مهمٌ لأن ضرر الأنسجة ليس بالضرورة مرتبطا بالألم وفي الإنسان يمكننا أحيانا أن نرى ذلك (الانفصال بين تعرُّضِ نسيج للضرر وحسِّ الألم) مع الإصابات الضارة التي تحدث في المواقف شديدة الكرب كالحروب على سبيل المثال.... وتشرح هذا نظرية تسمى نظرية "بوابة السيطرة على الألم" Gate control theory قدمها رونالد ميلزاك وباتريك وول سنة 1965 (Melzack & Wall, 1965) .
مستقبلات الأذية Nociceptors:
توجد مستقبلات الأذية في الجلد والأعضاء الحشوية والعضلات الهيكلية والقلبية وفي الأوعية الدموية، وتنقل المعلومات عن الأحداث الضارة إلى القرن الظهري للحبل الشوكي حيث ينزل العصب الوارد الأولي في أول مشابك المسار العصبية أساسا على عصبون بيني على عكس العصبونات الإسقاطية Projection Neurones التي تنزل على عصبون مستقل.
وعندنا نوعان أساسيان من مستقبلات الأذية ويُفرّقُ بينهما حسب قطر الليف العصبي الوارد منها وحسب المنبه الذي ينشطها، وتنشط المستقبلات الميكانيكية عالية العتبة High Threshold Mechanoreceptors بالتنبيه الميكانيكي القوي وتحمل محاويرها ألياف رقيقة التغليف المياليني (من نوع AÕ) تنقل بسرعة تتراوحُ بين 5-30 مترا في الثانية الواحدة، وأما المستقبلات متعددة الحاسَّات Polymodal Nociceptors فيمكن تنشيطها بالتنبيه الميكانيكي القوي، ودرجات الحرارة فوق حوالي 42ْ والكيماويات المهيجة للنسيج، وتُعَصِّبُ هذه المستقبلات (أي تحمل محاويرها) أليافٌ عديمة الميالين (من نوع C) تنقل بسرعة تتراوح بين نصف متر إلى مترين 0.5 -2 في الثانية، وأما الألم المحدد بدقة فيعتقد أنه ينقل عبر الألياف سريعة النقل بينما قد ينقل الألم غير المحدد بدقة عبر الألياف من نوع C.
وفي نظرية "بوابة السيطرة على الألم" اقترح الباحثان أن نوعين من الألياف العصبية الواردة بحس الألم (نوع سميك نوعا لأنه مغلف بالميلين هو الليف أ. دلتا Aδ Fiber وهو سريع النقل ومسؤول عن نقل الألم الحاد، ونوع رقيق هو الليف ج C Fiber وهو بطيء النقل ومسؤول عن نقل الألم المزمن نوعا) وكلا هذين يحملان معلومات الألم من موقع الأذية إلى القرن الظهري للحبل الشوكي حيث تنزل على خلايا الإرسال التي تحمل إشارة الألم إلى الدماغ، لكن نوعا سميكا آخر من الليف العصبي مسؤول عن أحاسيس اللمس والضغط والاهتزاز هو الليف أ. بيتا Aβ fiber يحمل المعلومات من موقع الأذية إلى القرن الظهري للحبل الشوكي لينزل على العصبونات البينية Interneurone المثبطة التي تعيق نشاط الخلايا الإرسال إلى الدماغ، أي أن نشاط الليف ج والليف أ. دلتا يثبطه نشاط الليف أ. بيتا.
ورغم أن مستقبلات الأذية هي هيستولوجيًّا ليست أكثر من نهايات عصبية حرة Free Nerve Endings إلا أن عملية التحاس (التحويل الحسي) في هذه النهايات المستقبلة عملية معقدة ومصحوبة بعدد من الوسائط الكيميائية للالتهاب أو الضرر النسيجي، وبالتالي فإن الأدينوسين ثلاثي الفوسفات (ATP) والبراديكينين والهستامين والبروستاجلاندينات كل منها يستطيع أن يُنَشِّطَ أو يُحَسِّسَ نهاياتِ المستقبلة، كذلك فإن بعض الناقلات العصبية في مسارات استقبال الألم هي نفسها تفرز محيطيا (مثلا المادة بي Substance P) لتسبب تحسيسا أو تنشيطا أكثر لنهاية المستقبلة المحيطية، وعملية تحسيس المستقبلة هذه تساعد في تفسير الإدراك المتصاعد للألم (فرط التألم الأولي Primary Hyperalgesia) في أماكن ضرر الأنسجة، لكنها لا تفسر تماما ظاهرة استقبال منبهات غير مؤلمة كمنبهات مؤلمة (فرط التألم الثانوي Allodynia or Secondary Hyperalgesia) في حالات الضرر العصبي، وبهذا الخصوص فإن الدلائل الحديثة توحي بأن كلا من فرط التألم الثانوي وبعض حالات متلازمات الألم المزمن (مثلا ألم الطرف الشبحي Phantom Limb Pain) إنما تنتج من تغيرات طويلة المدى في معالجة المعلومات عن المنبهات الضارة في القرن الظهري الشوكي.
وأما مستقبلات الأذية الحشوية فتسقطُ محاويرها إلى الحبل الشوكي عبر ألياف الجهاز العصبي المستقلي وهي ألياف عصبية صغيرة القطر بعضها مغلفة وبعضها غير مغلفة بالميالين، وتنزل عند المستويات الشوكية المشتركة مع الأعضاء الحشوية في المنشأ الجنيني، لذلك فإن حدوثَ ما يثيرُ الألم في عضوٍ حَشَوِيٍّ قد يُسَبِّبُ إدراكا لمنبه مؤلم في منطقة الجلد التي تعصبها الشدفة الشوكية وليس في العضو الحشوي، وتحدث هذه الظاهرة على الأقل في المراحل المبكرة للالتهاب وتسمى بظاهرة الألم الرجيع Referred Pain، وكمثال على ذلك نجد التهاب الزائدة في بدايته يسبب ألما يحس عند منطقة جلد الصرة.
مسارات استقبال الأذية (الألم) Nociceptive Pathways:
معظم محاوير مستقبلات الأذية والحرارة تدخل الحبل الشوكي عبر الجذر الظهري، وإن كان بعضها يمر عبر القرن البطني، وعند وصولها الحبل الشوكي تشارك في العديد من المشابك العصبية بأسلوب معقد في القرن الظهري. وفي هذا المكان يمكن أن تحدث تغيرات في التوصيل الشبكي، وفي الواقع فإن وصول المادة بي المنقولة عبر المحاوير إلى الطبقات السطحية من القرن الظهري يؤدي إلى زيادة مساحة الحقل القابل للمستقبلة وزيادة حساسية بعض عصبونات القرن الظهري، وأيضا يتوسط جزئيا في بعض هذه التغييرات الوظيفية تحرير الناقل العصبي الجلوتاميت في المشابك العصبية حيث يعمل هذا الناقل العصبي على مستقبلات الإن مثيل دي أسبارتيت (NMDA) خلف المشبكية، هذه التغيرات بعيدة المدى هي أمثلة على اللدونة العصبية، وحدوثها في القرن الظهري يشارك في آلية إحداث بعض حالات الألم المزمن.
وتصعد محاوير الخلايا خلف المشبكية حاملة معلومات الأذية في الحبل الشوكي عبر المسار الشوكي المهادي Spino-Thalamic Tract والمسار الشوكي الشبكي المهادي Spino-Reticulo-Thalamic Tract والمسار النخاعي البينمخي Spino-Mesencephalic Tract (لا يظهر الأخير في الشكل)، وتعبُرُ المحاويرُ إلى الجانب المقابلِ بالمرور حول القناة المركزية Central Canal في الحبل الشوكي، ويتم عبور المحاوير غالبا في مستوى أعلى بعدة قطع شوكية من مستوى دخول العصب الوارد في الجذر الظهري، وبالتالي فإن ضررا عند مستوى معين من القناة المركزية كما يحدث في حالات تكهف النخاع Syringomyelia يؤدي إلى فقد حس الألم والحرارة في قطاع جلدي تعصبه الشدف الأسفل بعدة مستويات من مكان حدوث الآفة.
وتستقبل الخلية خلف المشبكية والنهاية العصبية مستقبلة الأذية أيضا اتصالات مشبكية من أنظمة حسية جسدية محيطية أخرى كما تستقبل إسقاطات عصبية نازلة من جذع الدماغ ومن عصبونات بينية داخل القرن الظهري، وكثير من تلك العصبونات البينية تحتوي على مواد أفيونية داخلية المنشأ Endogenous Opiod Substances تسمى الإنكفالينات والإندورفينات وهي تنشط المستقبلات الأفيونية بأنواعها المختلفة (µ و Ќ وδ) وهناك بالتالي إمكانيةٌ هائلةٌ لتعديلِ نقل معلومات استقبالِ الألم عند مستوى القرن الظهري.
ولمسارات استقبال الأذية الصاعدةِ مشابك عصبية في عدد من أماكن الجهاز العصبي المركزي المختلفة، وتصعد المعلومات الخاصة بالمنبهات الضارة في المسار الشوكي المهادي (وتعطي تحديدا دقيقا لمكان الأذية) أو المسار الشوكي الشبكي المهادي (وينقل معلوما عن المكون الوجداني Affective Component للألم)، وبعض نوى جذع الدماغ التي تنزل فيها بعض ألياف هذه المسارات (كالنواة الرافية Raphe Nucleus والبقعة الزرقاء Locus Ceruleus) تسقط محاوير نازلة في الحبل الشوكي إلى القرن الظهري، ويمكن استغلال ذلك في التحكم في متلازمات الألم المزمن Chronic Pain Syndromes.
وينتهي المسار الشوكي المهادي في النوى المهادية البطنية الخلفية والنوى المهادية داخل الصفيحية Intralaminar Nuclei of the Thalamus بما فيها المجموعة الخلفية، وتُسْقِطُ هذه النوى المهادية بالتالي إلى مناطق قشرية متعددة خاصة المنطقة القشرية الحسية الجسدية الأولية SM I والمنطقة القشرية الحسية الجسدية الثانوية SM II، والقشرة الحزامية الأمامية Anterior Cingulate Cortex، ولكن مناطقَ أخرى تستقبل مدخولا من تلك النوى منها القشرة قبل الجبهية Prefrontal Cortex والنوى القاعدية والقشرة الجزيرية Insular Cortex، وحدوث آفة لأي من هذه الأماكن قد يغير إدراك الألم لكنه لا يسبب بطلان ألم Analgesia كاملا أو حقيقيا، بل هو في الواقع قد يسبب متلازمة ألم مزمن، وهذه المتلازمات ليست قليلة الشيوع مع الحادثات الوعائية الدماغية الصغيرة في المهاد.
كذلك تسقط مستقبلات الحرارة وإلى حدٍّ أقل مستقبلات الأذية أليافا للوطاء، وللوطاء دور مهمٌ في تنظيم درجة الحرارة والاستجابة المستقلية للمنبهات المؤلمة.
المراجع:
Melzack R, Wall PD. (1965): Pain mechanisms: a new theory. Science. 1965;150(3699):971–9.
Roger Barker, Stephen Barasi & Michael J. Neal (2003) : Neuroscience at a Glance. Paperback
* الصورة معربة عن كتاب نظرة سريعة على التشريح العصبي والعلوم العصبية Barker: Neuroanatomy and neuroscience at a Glance
ويتبع >>>>>>>: أنظمة الألم II العقاقير والمعالجة
واقرأ أيضًا:
تنظيم القشرة المخية / المجموع الحسي المستقبلات والمسارات الحسية / التحاس ( التحويل الحسي ) في الحواس الخاصة