الجريمة ورادار الصحة النفسية
وقف المتهم أمام القاضي في محكمة ويستمنستر في وسط لندن يوم ١٧ يونيو ٢٠١٦ في جلسة قضائية أولية لتوجيه التهمة وكان السؤال الأول: اسمك؟
الجواب: الموت للخونة والحرية لبريطانيا.
أعاد القاضي السؤال: اسمك رجاء ً؟
فكرر جوابه.
طلب القاضي إعادته إلى السجن والكشف عليه من قبل طبيب نفسي عدلي. عاد المتهم إلى سجن بيل مارش في لندن وسيكشف عليه استشاري من مستشفى أمني عالي يختص بعلاج المرضى الخطرين على غيرهم.
الحكاية أعلاه هي لجريمة قتل هزت بريطانيا يوم الخميس ١٤ يونيو وفي وضح النهار. السيدة جو كوكس هي نائبة في البرلمان البريطاني. درست العلوم السياسية والاجتماعية في جامعة كمبردج وعملت في السياسة ومنتمية لحزب العمال البريطاني. دخلت البرلمان العام الماضي في عمر ٤١ عاما وهي أم لطفلين دون السادسة من العمر. كانت رحمها الله معروفة بنشاطها ومناصرتها للمستضعفين وانتهت رحلتها فجأة وبدون سابق إنذار.
رد فعل الجمهور:
كان رد فعل الجمهور والإعلام والمواقع الاجتماعية بأن هذه جريمة إرهابية ورائها تنظيم يميني نازي متطرف. طالبت الأقلية الإسلامية بتصنيف الجريمة بفعل إرهابي والكف عن لوم المسلمين بارتكاب الجرائم. تخوض بريطانيا حملة تصويت يوم ٢٣ يونيو حيث سيقرر الشعب البقاء أو الخروج من الاتحاد الأوربي وجميع المناصرين للبقاء أسقطوا اللوم على الجناح الآخر. أودعته الشرطة في سجن معروف باستقباله مرتكبي مثل هذه الجرائم ثم مثل أمام محكمة أولية يمثل أمامها كل متهم بعمل إرهابي.
أما الإعلام فلم يخفى عليه بأن المتهم له تاريخ طبنفسي سابق ويعيش في عزلة عن المجتمع لأكثر من عقد من الزمان. راجع مركزا للصحة النفسية قبل يوم من الجريمة شاكيا من ارتباك في التفكير والمزاج. لم يكشف عليه طبيا نفسيا وإنما معالجا نفسيا ولم يستنتج بأن هناك حاجة لكشف من قبل طبيب نفسي. بعدها بأربعة وعشرين ساعة حدث ما حدث.
لم يبرز موقع إعلامي واحد الحقائق الأخيرة واكتفى بالإشارة إليها بصورة مختصرة وفي آخر المقال. أشار البعض إلى أن هذه الجريمة لا تختلف عن جريمتين حدثت خلال ١٥ عاما والاحتمال الأكبر هو إصابة المتهم باضطراب عقلي جسيم. حينها اعترض الكثير بأن وجود أو عدم وجود الفصام أو أي اضطراب جسيم لا أهمية له ويجب عقابه حال أي مجرم آخر.
تعاطف الجمهور والإعلام مع المرضى المصابين باضطراب نفسي جسيم والمتورطين في جريمة ما تعاطف متأزم على أكثر تقدير ولا وجود له أحيانا. أما القضاء والشرائع فعكس ذلك وتوصي بإيداع المريض إلى مصحات نفسية آمنة لعلاجه وتقييم المخاطر. يتم مراجعة القضية بصورة منتظمة ومن يرتكب جريمة قتل لا يحق له تقديم طلب قبل عامين. يتم سماع القضية من محكمة خاصة أعضاؤها في بريطانيا حاكم واستشاري في الطب النفسي وعضو آخر لا علاقة له بالطب أو القانون. هذه المحاكمات تختلف عن غيرها بأنها سرية ولا يتم نشر تفاصيلها وأحكامها علنيا حفاظا على سرية المريض. هذا الأمر بالطبع لا يساعد على توعية الناس حول علاقة الاضطرابات النفسية بالجريمة.
قبل ثلاثة أعوام نشرت صحيفة شعبية بريطانية (الصن Sun) مقالا على الصفحة الأولى بعنوان يغطي الصفحة بكاملها يشير إلى أن ١٢٠٠ مواطنا قتلهم مرضى الصحة النفسية خلال عشرة أعوام ولم تكتفي بذلك وإنما نشرت العديد من صور الضحايا وأسقطت اللوم على مراكز الصحة النفسية بعدم مراقبتهم وحجزهم المرضى. اعتمدت الصحيفة على تقرير نشرته جامعة مانشستر المكلفة بدراسة كل قضية انتحار أو جريمة في بريطانيا (معهد الدماغ والسلوك والصحة العقلية). التقرير يشير إلى أن في١٢٠٠ جريمة كانت هناك أعراض نفسية في المتهم أو له اتصال بمراكز الصحة النفسية ولم يتطرق إلى أن مرتكبي الجرائم الأخيرة جميعهم يعانون من اضطراب نفسي جسيم. الرقم الصحيح يقارب ٧٠٠ خلال عشرة أعوام وفي بلد يصل فيه عدد الذين يتم علاجهم من قبل هذه المراكز إلى أكثر من مليون مواطن.
ما هي الحقيقة
يتحرج كل طبيب نفسي في الحديث عن علاقة الجريمة بالاضطرابات النفسية الجسيمة ويحاول هو ومعظم العاملين في المنظمات الخيرية التي تعني بالطب النفسي عدم الإسراف في الحديث والتركيز على أهمية العلاج ومتابعة المرضى. وحين نتحدث عن جرائم القتل والصحة النفسية فالحديث في الغالبية العظمى من الحالات هو عن الفصام لا غيره. علاقة الاضطرابات الوجدانية بجرائم القتل نادرة والشخصية الحدية لا تثير اهتمام القانون ويدين مرتكب الجريمة حاله حال أي إنسان آخر وأن تزور مصحة نفسية آمنة عالية التي تستقبل مرتكبي جرائم القتل فلا تجد أمامك سوى المريض المصاب بالفصام.
ولكن كيف تقرأ الأرقام والإحصائيات؟
الغالبية العظمى من المصابين بالفصام لا يرتكبون جريمة تذكر والحقيقة هي أن١٠ - ١٥٪ منهم يقتلون أنفسهم ولا يزيد عليهم إلا المصاب بالاكتئاب الجسيم.
معظم الجرائم في العالم لا علاقة لها بالأمراض النفسية وخريطة العالم أدناه توضح ذلك. اللون الغامق يشير إلى ارتفاع جرائم القتل بعكس اللون الأزرق الفاتح. يرتكب المصابون بالفصام ٨.٧٪ فقط من مجمل جرائم العنف ونصفهم تحت العلاج والنصف الآخر بدون علاج. نصف عدد ضحايا الجريمة التي يرتكبها المصاب بالفصام هم من أعضاء أسرته4 أو المقربين منهم والنصف الآخر من الغرباء.
ولكن يمكن أن تنظر إلى الأرقام من زاوية أخرى ومن خلال دراسة فنلندية1 وهي أن احتمال أن يرتكب المريض المصاب بالفصام جريمة ما هو عشرة أضعاف إنسان لا يعاني من هذا المرض. يرتفع هذا الرقم إلى ١٧٪ مع استعمال الكحول.
الدراسات أيضا تشير إلى أهمية العلاج. يرتكب واحد من كل ٧٠٠ مريضاً مصاب بالفصام جريمة والأكثرية منها في بداية المرض وينخفض الرقم إلى واحد في كل ٩ آلاف مع استمرار العلاج2،3.
هذه الأرقام المشتقة من دراسات عادة تشير بصورة قاطعة إلى أن مسؤولية ارتكاب المصاب بالفصام جريمة تقع على عاتق الخدمات الصحية النفسية. هناك من المرضى من هم خارج رصد رادار الصحة النفسية ولا يمكن إسقاط اللوم على الخدمات الصحية عكس من هو تحت رصد رادار الصحة النفسية.
تقييم المخاطر في الصحة النفسية عملية لابد من تكرارها بصورة منتظمة وخاصة مع انتكاس المريض. لابد من الاستماع إلى أي شكوى من قبل الأهل أو المقربين حول سلوك المريض وتقييم حالته العقلية بأسرع وقت ممكن. ولكن تقييم المخاطر بحد ذاته لا يكفي أحيانا ولا يعتمد على سلوك المريض في الماضي ومن جراء ذلك لا يمكن التنبؤ بوقوع الحدث في الكثير من القضايا.
رغم أن المريض المصاب هو أكثر خطورة على نفسه مقارنة بالآخرين ولكن ذلك لا يمنع من القول بأنه أكثر خطورة من غيره على الآخرين. متابعة المرضى المصابين بالفصام هي متابعة مدى الحياة بصراحة وهذه حقيقة يجب أن يستوعبها كل عامل في الصحة النفسية والتمسك بها بدلا من خداع النفس أحيانا بدراسات هزيلة تتحدث عن الشفاء من الفصام ولا تعلم ما هي الشريحة وكيف تم جمع العينة وكيف تم الاستنتاج بحدوث الشفاء من الفصام المزمن.
المصادر:
1- Erone M, Jarl Tllhonen J, and Hakola P (1996). Schizophrenia and Homicidal Behavior. Schizophrenia Bulletin 22: 83-89.
2- Nielssen O, Bourget D, Laajasalo T, Liem T, Labelle A, Häkkänen-Nyholm H, Koenraadt F , Large M(2011) Homicide of Strangers by People with a Psychotic Illness. Schizophrenia Bulletin 37: 572-579.
3- Nielssen O, Large M (2010) Rates of Homicide During the First Episode of Psychosis and After Treatment: A Systematic Review and Meta-analysis. Schizophrenia Bulletin 36: 702-712.
4- Nordström A, Dahlgren L , Kullgren G(2007) Victim relations and factors triggering homicides committed by offenders with schizophrenia. The Journal of Forensic Psychiatry & Psychology 17: 192-203.
واقرأ أيضًا:
النزاعات الوجودية والشباب العربي / معالم الأخلاق والطب النفسي / حرية الرأي في العالم العربي والإسلامي
التعليق: a