يعاني الطب النفسي من حالة جمود لا يمكن غض النظر عنها. في الوقت الذي تسمع عن طفرات متعددة في فروع الطب البشري الأخرى لا يلفت نظر الناس طفرات في الطب النفسي وإنما يلفت نظرك كثرة الانتقاد الموجه إليه.
تغير الطب خلال ربع قرن من الزمان. علاج ضغط الدم وعجز القلب غير علاجه قبل 30 عاما. العلاج المناعي Immunotherapy غير مسار العديد من الأمراض المزمنة والعقاقير التي يستعملها أطباء المفاصل هذه الأيام غير عقاقير السبعينيات. كذلك الحال مع التداخل الجراحي الذي تطور بصورة ملحوظة وحتى أصبح هناك اختصاص طبي يعني بصحة الجنين وهو لا يزال في رحم الأم. كتاب الطب يصبح قديما يوم يتم طبعه بسبب الزخم الهائل من البحوث العلمية الجديدة. يمكن تشبيه الفروع الطبية بسباق في الساحة وهناك دوما عدَّاء في المؤخرة وهذا العدَّاء بصراحة هو الطب النفسي.
العلاج الطبي للاضطرابات النفسية
خير ما يوضح موقع العداء في ساحة العلوم الطبية هو استعمال العقاقير المختلفة لعلاج الاضطرابات النفسية. لم يولد عقار أكثر فعالية من التخليج الكهربائي Electroconvulsive Therapy في علاج الاكتئاب منذ أكثر من 80 عاماً. تم نشر أول بحث علمي عن فعالية عقار الأميبرامين Imipramine عام 1957 وبعد ذلك ولدت مجموعة العقاقير الثلاثية الحلقة Tricyclic Antidepressants وانتهى عصر التحليل النفسي. ولكن منذ ذلك اليوم إلى الآن لم يولد عقار مضاد للاكتئاب أكثر فعالية من هذه المجموعة من العقاقير ولا يزال أحد أعضاء هذه العائلة المعروف بالأنفرانيل أو الكلوميبرامين Clomipramine العقار الذي يلجأ إليه الطبيب في علاج الاكتئاب المقاوم للعلاج.
كذلك الحال مع العقاقير المضادة للذهان. لا يوجد دليل مقنع بأن الجيل الثاني من العقاقير المضادة للذهان أكثر فعالية من عقاقير الجيل الأول التي ولدت قبل عقار الإميبرامين بسبعة أعوام مع اكتشاف الكلوربرومازين 1950. عقار الإميبرامين تم اشتقاقه من العقار الأخير أصلاً. أثبت عقار الكلوزابين Clozapine بأنه أكثر فعالية من غيره منذ نهاية السبعينيات ولكن قائمة أعراضه الجانبية لو كان يستعمل لمرض غير الفصام لتم حظره ولكن ذلك لم يحدث لعدم وجود عقار لعلاج الفصام المقاوم للعلاج.
لا يزال ملح الليثيوم Lithium Salt هو المعيار الذهبي لعلاج اضطراب الثناقطبي والهوس ورغم استعارة عقار الفالبرويت Valproate من اختصاص أمراض الصرع إلا أن فعاليته في منع الانتكاس في الثناقطبي ما تزال بعيدة عن الكمال.
أما علاج القلق مع ولادة عائلة البنزوديازيبن (عقاقير الزاء) Benzodiazepines والفاليوم قبل أكثر من 55 عاما فقد انتهى الآن بإصدار التعليمات المتكررة عن تجنب وصف هذه العقاقير حتى أصبح قياس كفاءة الطبيب تتناسب عكسيا مع عدد وصفات هذه العقاقير الموقعة باسمه. عاد الطب النفسي واستنجد بعقاقير مضادة للصرع لعلاج القلق وهي البريكابلين Pregabalin الكابابينتين Gabapentin وهذا العام انتبهت الصحة العامة بأن هذه العقاقير تسير على نفس طريق عقاقير الزاء.
أما العلاج النفسي فهو يستهدف شريحة من الناس تعاني من اضطرابات لا تقترب في شدتها من الاضطرابات الجسيمة في الطب النفسي والكثير منها يتم تكريره بين الحين والأخرى في إطار جديد وبدون بحوث علمية يتم السيطرة على عواملها بحزم. ذلك لا يختلف تماما عن تغيير العلامة التجارية لمادة كيمائية أو سلعة كمالية.
الية الاضطرابات النفسية
آلية العلاج في الطب النفسي منذ القرن التاسع عشر إلى يومنا هذا تركز على اضطراب فعالية الشبكات الخلوية العصبية في الدماغ والناقلات الكيمائية العصبية بين الخلايا العصبية المختلفة. لكي تعالج الفصام تحاول تثبيط الدوبامين ولكي تعالج الاكتئاب تزيد من تواجد السيروتنين ولكي توازن المزاج تستعمل الآليتين في نفس الوقت مع استعمال أكثر من عقار. البحث عن والعثور على ناقلات عصبية كيمائية وشبكات خلوية جديدة لم يؤدي حتى اليوم إلى إحداث طفرة وثورة في علاج الاضطرابات النفسية.
يمكن تفسير هذه المسيرة بصعوبة اختراق حواجز الدماغ بسهولة ونماذج الاضطراب النفسي في الحيوان التي يتم عملها في المختبرات العلمية بعيدة عن نماذج الاضطرابات النفسية في الإنسان. لا يوجد نموذج للفصام والاكتئاب والهوس مشابه في الحيوان على عكس الأمراض الجسدية المختلفة التي تعتمد على علامات وإشارات في الخلية والنسيج يمكن من السهولة توليدها في البحوث العلمية.
الطفرة الحقيقية التي حدثت في الطب النفسي كانت مع اكتشاف العقاقير المضادة للذهان والتي أفرجت عن المرضى المحتجزين في مستشفيات الطب النفسي المعزولة عن المجتمع. بعد ذلك تم التركيز على رعاية المريض وحمايته وتأهيله في المجتمع عن طريق سن قوانين الرعاية الاجتماعية. مصطلح الشفاء في الطب يعني القضاء على المرض ولكن في الطب النفسي يتم استعمال هذا المصطلح في الحديث عن عافية المريض وتأهيله ولكن يظل خطر الانتكاسة يلاحقه بين الحين والآخر ناهيك عن التأثيرات الجانبية للعقاقير الطبنفسية.
هذه العوامل أعلاه دفعت العلم نحو البحث عن آلية جذرية جديدة لتفسير الاضطرابات النفسية الجسيمة وفي مقدمتها الاكتئاب والفصام.
جهاز المناعة والطب النفسي
نظريات الاكتئاب ومنذ فترة طويلة وإلى الآن تركز على علاقة الإنسان وتفاعله مع الآخرين، ولكن هناك من بدأ يبحث عن جذور تفاعل الإنسان مع بيئته منذ العصور القديمة(3). تكيف الإنسان مع بيئته المحاطة بالحيوانات المفترسة والجراثيم عن طريق تحفيز جهاز المناعة وإصدار رد فعل التهابي يبدأ بالخلية وينتهي بارتفاع إنتاج هورمونات متعددة ومنها الكورتيزون. هذه الاستجابة تسعى إلى حماية الإنسان والحفاظ على كيانه والدفاع عنه. هذه الاستجابة الالتهابية تؤدي بدورها إلى تحفيز مناطق متعددة في الدماغ تؤثر على سلوك الإنسان فهناك من يشعر بالقلق وهناك من يصبح أسير الاكتئاب.
تطور الإنسان وتقلص عدد الجراثيم التي تهاجمه ولكن جهاز المناعة المسؤول عن الاستجابة الالتهابية لم يتغير. يستجيب الإنسان إلى الخطر الموجه إليه بسبب الضغوط الاجتماعية والمهنية والبيئية بنفس الأسلوب فترى ارتفاع العديد من المؤشرات الالتهابية عند شعور الإنسان بالقلق والاكتئاب(1). استمرار هذه الاستجابة الالتهابية لفترة طويلة يؤدي بالنهاية إلى إصابة الفرد بالاكتئاب الجسيم والقلق المتعمم. هذه النظرية تفسر تأخر ظهور علامات الاكتئاب الجسيم لعدة أشهر بعد ظروف اجتماعية قاهرة وارتفاع نسبة الاكتئاب والقلق في الإناث بعد سن البلوغ.
أما الفصام فهناك إجماع علمي منذ أكثر من قرن من الزمان بانه اضطراب الجهاز العصبي وهناك علاقة وثيقة بينه بين جروح الدماغ المتعددة منذ الولادة. أما آلية ظهور المرض فقد تعثر تفسيرها وتم استبعاد جهاز المناعة لفترة طويلة على فرضية أن دماغ الإنسان محاط بأسوار دفاع تحميه من جهاز المناعة. تغيرت هذه الفرضية الآن وتأثير جهاز المناعة على فعالية الدوائر العصبية المختلفة أصبح أكثر وضوحا(2).
الاستنتاج
يلعب جهاز المناعة دوره الآن في علاج الكثير من الأمراض المزمنة التي كان يتعذر علاجها في السابق. انتباه الطب النفسي لأهمية هذا الجهاز في آلية الاضطرابات النفسية الجسيمة ينذر بربيع جديد للطب النفسي واكتشاف آلية جديدة للأمراض النفسية وعلاج قد يؤدي إلى الشفاء التام منها يوما ما.
المصادر:
1- Bufalino C, Hepgul N, Aguglia E , Pariante C (2012). The role of immune genes in the association between depression and inflammation: a review of recent clinical studies. Brain Behav. Immun. 31, 31–47
2- Khandakar G, Cousins L, Deakin J, Lennox B, Yolken R, Jones P (2015). Inflammation and immunity in schizophrenia: implications for pathophysiology and treatment. Lancet 2(3): 258-270.
3- Raison C & Miller, A (2013) the evolutionary significance of depression in Pathogen Host Defense (PATHOS-D). Mol. Psychiatry 18, 15–37.
واقرأ أيضًا:
تعتعة نفسية: الشذوذ والنبوغ والطب النفسي/ اعتذار إلى أساتذتي المرضى الطيبين/ تعتعة نفسية: المجنون لا يفعل مثل هذا!!!/ الطب النفسي الكيميائي