التعلق واحد من أهم المفاهيم النفسية في علم النفس، ولا يكفي أن يستوعب هذا المفهوم المختص بعلم نفس الأطفال فقط وإنما كل من يعمل في مجال الصحة النفسية منذ الطفولة إلى مراحل الشيخوخة. لا يقتصر مفهوم التعلق على علاقة الأم بالطفل، ويتجاوزه إلى علاقة الطفل بكل من يتولى رعايته. رغم شكوك البعض في إطار المفهوم ومحتواه، ولكنه دخل واستوطن علوم النفس والطب النفسي وأصبح يستعمل مجازيا وإعلاميا وعلميا. هناك إجماع على أن أهمية المفهوم تتجاوز رعاية الطفل من قبل من يتولى رعايته والمساعدة في نضوجه النفسي، إلى الحفاظ على تركيبته العضوية ورعاية جيناته من أجل البقاء. فائدة التعلق تكمن أيضاً في مساعدة الطفل على ضمان انفصاله عن الوالدين واعتماده على نفسه ماضياً في اكتشاف بيئته ودراستها.
ولد مفهوم التعلق بعد أن نشر جون بولبي John Bowlby مقالته الأولى عام ١٩٥٨ في تحريه عن طبيعة العلاقة بين الأم وطفلها. أضاف إليه وفصله في ثلاثية عن المفهوم والتي تم نشرها ما بين عام ١٩٦٩ إلى عام ١٩٨٢. أضافت إليها أينزورث في عام ١٩٧٣، ومن خلال مراجعة جميع هذه المصادر يمكن تعريف المفهوم كالتالي:
التعلق هو رابط عاطفي، عميق ودائم، يربط إنساناً مع آخر، عبر الزمان والمكان. التعلق بين إنسانٍ وآخر ليس بالضرورة تعلقاً متبادلا، وهذه النقطة في غاية الأهمية لاستيعاب أهمية المفهوم في دراسة سلوك البشر.
مراحل التعلق
يمكن دراسة التعلق من خلال ثلاثة مراحل هذه الأيام:
المرحلة الأولى (تشمل مرحلة قبل التعلق ومرحلة تكوين التعلق): الطفل الحديث الولادة يتميز بكفاءته الحسية دون المعرفية، ويتعلم عن طريق استلام هذه الأحاسيس من الذي يتولى رعايته والبيئة التي يتربى فيها. لا يعرف الطفل في هذه المرحلة سوى الخوف، وفي المقابل فإن الخوف عليه هو ما يشغل فكر من يتولى رعايته. يكثر الذعر والصراخ فيه نتيجة تجاربه الحسية، وتدريجيا تدخل الطمأنينة داخل أعماقه ويبدأ بالتفاعل مع الوالدين ضمن روتين لا يولد الارتباك فيه من خلال تلبية احتياجاته وتنظيم بيئة خالية من المفاجآت. هذه المرحلة تؤدي إلى ولادة قاعدة ذكريات من بيانات حسية.
المرحلة الثانية (وتشمل مرحلة تكوين التعلق ومرحلة التعلق الواضح): يبدأ تعلق الطفل بالكائنات التي تتولى رعايته، وتلبي احتياجاته بانتظام، وعبر هذه المرحلة يولد الإحساس بالانتماء إلى مجموعة تتولى رعايته، وثقته بها. تختلف هذه المرحلة عن المرحلة الأولى في أن إشارات الشعور بالألم والقلق لا تتوجه بصورة عشوائية وإنما تستهدف من هو متعلق به، سواء كان ذلك الأب أو الأم، ومن خلال ذلك يضمن الشعور بالطمأنينة والحصول عليها فقط من الذي هو متعلقٌ به.
المرحلة الثالثة (وتشمل مرحلة التعلق الواضح ومرحلة تصحيح هدف الشراكة): يتم جمع البيانات الحسية والتجارب من خلال المرحلتين الأولى والثانية وتولد منها قاعدة تؤهل الطفل لاستكشاف البيئة التي يعيش فيها، ودراستها والتعلم منها من خلال قرب وجود من تعلق به. هذه العملية تؤدي بدورها إلى شعور الطفل بالبهجة والأمان سوية وهو في عملية استكشاف البيئة.
التعلق عملية حركية، ولا يمكن فصلها تماما عن رابطة الأم بالطفل وتتأثر بعوامل عدة وقد تعرقل أو تعزز مسيرتها ومنها:
١- سلوك الأم.
٢- نمط مزاج الطفل.
٣- البيئة.
٤- الكائنات الأخرى في البيت.
٥- وجود عاهات مرضية.
٦- قوة عامل الشعور بالخوف في الطفل.
٧- الإسراف في تخويف الطفل.
وفي نهاية المطاف يمتلك الطفل، من جراء عملية التعلق، نموذج عمل داخلي إطاره معرفي بحت فيه تمثل عقلي لفهم العالم ونفسه وبقية البشر.
أنواع التعلق
هناك تعلق تجنبي وغير آمن (نوع A)، وتعلق آمن (نوع B)، وتعلق مقاوم ومتردد (نوع C).
التعلق الآمن هو الطبيعي الذي يضمن صحة الطفل النفسية وتطوره النفسي الاجتماعي. دون ذلك هناك عدة أصناف من التعلق غير السليم كالآتي:
1- اللامتعلق Unattached
هذا الطفل هو مثال الإهمال من الأم والأب، والعيش في بيت يستوطنه العنف المنزلي، وبالتالي لا تسنح الفرصة للطفل بالتعلق مع كائنٍ مهما كان. لا يستطيع الطفل تمييز ذاته، ولا يستهدف سوى حماية نفسه من البيئة التي يعيش فيها. يمارس سلوكاً متكرراً، ولا يتصل بالآخرين، ويظن البعض بأنه مصاب بالتوحد. يستهدف سد احتياجاته من الآخرين بصورة ميكانيكية عن طريق جذب انتباههم.
2- المنفصل Detached
يختلف هذا الطفل عن الغير متعلق بأنه تعلق بكائنٍ ما في بيئته وانفصل بسبب تربية متقلبة غير منسجمة، ويصاحب ذلك فترات من تخلي الآخرين ورحيلهم عنه. البعض منهم هو ضحية الأذى الجسدي والتوبيخ العاطفي، وهم من أكثر الأطفال الذين يتعرضون للعقاب المنتظم. هذه العقوبة مصدرها أحيانا هو تضارب مزاج الطفل مع مزاج الأم. ينفصل الطفل ويصبح كثير الاعتماد على نفسه وليس من النادر أن تنتقل رعايته من عائلة إلى أخرى. لا يصعب عليه التفاعل مع الآخرين، ولكنه لا يشعر بالانتماء إلى أحد. يتكرر هذا المشهد في البلوغ وبعد الزواج، وكثيراً ما تشكو الزوجة من زوجٍ يعيش في عالم خاص به.
3- التجنبي Avoidant
يتميز هذا النوع من التعلق بسلوك في الطفولة، بل وحتى بعد البلوغ، يتصف بالقلق والهلع عند مواجهة ضغوط بيئية لا تولد رد فعل مماثل في أغلبية البشر. ولكن ما دامت البيئة هادئة وخالية من الضغوط والتحديات، فإن سلوك الطفل لا يختلف عن بقية الأطفال. يولد هذا النوع من التعلق، ويستوطن الطفل، بسبب رد فعل الأم في رعاية ابنها والذي بدوره يتميز بالقلق والخوف والهلع. تكثر ملاحظة مثل هذا التعلق في الطفل المصاب بأمراض مزمنة منذ الطفولة مثل الربو والإكزيما بسبب إسراف الأبوين في حمايته.
4- الاتكالي Dependent
الطفل الاتكالي لا يقوى على فراق من تعلق به، ويصبح مشلول الحركة وغير قادرٍ على استكشاف بيئته، ويحمل في داخله طاقما فكريا بأنه غير مؤهل للاعتماد على نفسه دون الآخرين. هناك تاريخ عائلي لاضطرابات القلق، والطفل مرآة لقلق الأم وسلوكها.
5- المتردد Ambivalent
الطفل المتردد يضيع بين الولاء للأم أو الأب أو غيرهما بسبب عدم تجانس الاتصال العاطفي والفكري مع من يتولى رعايته. تكثر ملاحظة المشاكل الزوجية في البيت، والحديث عن الطلاق وكثرة التهديد والوعيد بين الزوجين. من جراء ذلك يصبح الطفل نقطة صراع بينهما، ويتنافس الوالدان في جذب انتباه الطفل لواحدٍ منهما دون الآخر. يتأثر الطفل بالحالة العاطفية لأي منهما، ولا يقوى على التعامل معها. كذلك يتم ملاحظة مثل هذا النوع من التعلق في الطفل مع إصابة الأم باضطراب الثناقطبي، وتحول حالتها الوجدانية من قطب اكتئاب شديد إلى قطب من الهوس يثير الارتباك في الطفل.
6- المعكوس Reversed
ينشأ هذا الطفل مع أم تتميز بعزلتها عن بقية البشر، وضعيفة التعلق بزوجها، وتعاني من أعراض جسدية متعددة. يتحول الطفل تدريجياً إلى طاقة لرعاية الأم، ومصدر قلقه هو حالة الأم الصحية. يصيب الطفل من الإهمال ما يصيب الطفل غير المتعلق أحياناً، وتكثر ملاحظة تغيب الطفل عن المدرسة بسبب مرض الأم دون مرض الطفل.
7- الشهواني Erotic
يميل الطفل أو المراهق، بل وحتى سن الشباب، إلى الإسراف في استعمال سلوكٍ وحديث إطاره جنسي شهواني في التواصل مع الآخرين. يولد طاقم فكري عند الإنسان بأن التواصل مع الآخرين لا نتيجة له دون قيام علاقة جسدية. هذا السلوك أكثر شيوعاً في الذكور، ولكن تكثر الإشارة إليه عند حصول علاقة جسدية بين المعلم وطالبته. هذا السلوك كثير الملاحظة في ضحايا التحرش الجنسي في الطفولة خاصة إذا كان المعتدي هو أحد أقارب الطفل. يميل الذكر أو الأنثى إلى الدخول في علاقات جنسية سادية مازوشية الإطار في المستقبل.
8- الخبيث Malignant
هذا الطفل هو ضحية التربية الفوضوية، والحياة في بيت زوجية يتميز بحرص الأم أو الأب أو كليهما على سد احتياجاتهم الشخصية النرجسية دون الطفل. عدم تلبية الطفل لرضى الوالدين في جميع المراحل ينتهي بعقابه، وعليه أن يصل إلى مستوى تعليمي وسلوكي يتوازى مع توقعاتهم. يتحول هذا الطفل إلى مشاكس يعاقب غيره من الأطفال، وأحيانا يخطط لإيقاع غيره من الأصحاب وطاقم التعليم في مشكلة. يهوي ممارسة ألعاب خطيرة، ويتعمد أحياناً إلحاق الأذى بغيره أثناء الرياضة. يصعب التعامل مع الطفل أحياناً وتنتقل حضانته من بيت إلى آخر. رغم أن المشهد أعلاه (الشهواني) هو المعروف، ولكن مثل هذا التعلق قد يُلاحظ في ضحايا التحرش الجنسي في الطفولة أيضاً.
الأسئلة
I دخل مصطلح التعلق معجم المصطلحات النفسية عام ١٩٥٨ لبحث نشره Bowlby ومن ثم فصله في ثلاثيته المعروفة بالتعلق والفقدان وتطور المفهوم منذ ذلك الحين. ما هي المراحل الثلاثة للتعلق؟ وضح ذلك بالتفصيل.
II في عام ١٩٧٠ نشرت Ainsworth ٣ أنماط من التعلق. ما هي؟
III هناك عدة أصناف من التعلق المضطرب Dysfunctional Attachments يمكن حصرها هذه الأيام كالتالي:
١- غير متعلق Unattached
٢- منفصل detached
٣- انطوائي Avoidant
٤- اتكالي Dependent
٥- متردد Ambivalent
٦- معكوس Reversed
٧- شهواني Erotic
٨- خبيث Malignant
أدناه جمل وعليك أن تربط كل واحدة منها بأحد أنواع التعلق المضطرب أو أكثر.
(أ) المشاركة في لعبة وصراع ينتهي بإلحاق الأذى بالطفل وكثرة البكاء. يصاحب ذلك الولع بألعاب فيديو عنيفة وسادية المحتوى.
(ب) كثير الملاحظة في ضحايا التحرش الجنسي.
(ج) فتاة مقبلة على الزواج مترددة في قبول الزواج برجل قوي الشخصية وفي منصب مهم.
(د) طفل يعيش في بيت يكثر فيه الحديث عن الطلاق ورحيل الأم إلى أهلها والمصالحة بين زوجين أكثر من مرة.
(ه) طفل يكاد يكون سلوكه في المدرسة شبيه بطفل مصاب بالتوحد. وسلوك هذا الطفل يتميز بكثرة الاعتماد على نفسه ويرفض مساعدة وعون الآخرين.
(ز) يتميز بوضوح رد فعل إطاره القلق مع الأزمات والابتعاد عن الأم.
(ح) يرتبط بقلق الفراق Separation anxiety.
(ط) قيام علاقة جسدية وعاطفية بين طالبة ومعلمها في المرحلة الثانوية.
(ي) يتغيب الطالب عن المدرسة بسبب إصابة الأم بالتهاب المجاري البولية.
(ك) يستوعب الآخرين كمجرد كائنات لجذب انتباههم بصورة ميكانيكية.
(ل) طفل تنتقل حضانته من بيت إلى آخر بسبب صعوبة التعامل معه.
الأجوبة الصحيحة:
(أ) ٨ (ب) ٧ و٨ (ج) ٧ (د) ٥ (ه) ١ (و) ٢ (ز) ٣ (ح) ٤ (ط) ٧ (ي) ٦ (ك) ١ (ل) ٨
الخلاصة
التعلق مفهوم يجب أن يستوعبه كل من يعمل في مجال علم النفس، الصحة النفسية، والتعليم بالإضافة إلى الرعاية الاجتماعية.
التعليق على تعلق الإنسان كثير الملاحظة، ولكن استعمال المفهوم يصل ذروته في تقييم علاقة الطفل بالوالدين، واتخاذ القرار في رعاية الطفل وحضانته من قبل الأب أو الأم أو غيرهما.
يتولى النفساني المتدرب على تقييم التعلق دراسة الأبوين كل على انفراد، وبعدها يتم تقييم الطفل على انفراد. بعد ذلك تتم دراسة تفاعل الطفل مع الوالدين.
ليس من المبالغة القول بأن إصدار الحكم على طبيعة تعلق الطفل بمن يرعاه هو الذي يدفع القضاء إلى اتخاذ القرار النهائي.
المصادر
1 Ainsworth M, Blehar M, Waters E, Wall S(1978). Patternsof attachment: a psychological study of strange situation. Hillsdale, NJ: Erlbaum.
2 Bowlby J(1958). The nature of child’s tie to his mother. International J of Psychoanalysis 39: 350-73.
3 Bowlby J(1969/82): Attachment and Loss: Vol 1. Attachment. New York: Basic Books.
4 Bowlby J(1973): Attachment and Loss: Vol 2. Separation. New York: Basic Books.
5 Bowlby J(1980): Attachment and Loss: Vol 3. Loss. New York: Basic Books.
6 Solomon J & George C(eds)(1999). Attachment Disorganization. New York. Guildford Press.
واقرأ أيضاً:
الولادة وما بعدها والتفاعل بين الأهل والرضيع / نفسي عاطفي: مشكلات التعلق Attachment Problems / التعلق Attachment