على مدار ستة عشر عاماً منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول وحتى اللحظة، عقب كل تفجير أو حادث تقوم به داعش أو القاعدة، سرعان ما يظهر من يستنكرون تلك الأفعال ويعلنون أنها بعيدة كل البعد عن الإسلام، وأن الإسلام بريء من ذلك، وعادة ما يستشهدون بآيات وأحاديث يتم تكرارها في كل مرة، ومن كثرة تكرارها تجد أن المسلم بسيط التدين بل وحتى المسيحي قد حفظ تلك الآيات والأحاديث عن ظهر قلب، وتلك الآيات نعلمها جيداً مثل:
* "وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ" (البقرة: 190).
* "لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ" (البقرة: 256).
* "لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ" (الممتحنة:8).
وحتماً يجعلك ذلك تتساءل في حيرة: لماذا يقدمون على تلك الأفعال والهجمات رغم ترديد هذه الآيات على مسامع المسلمين مراراً وتكراراً؟ ألا يعلمون بهذه الآيات أم أنهم جهلة ضعاف الفهم يتم استغلالهم؟ والحقيقة أنهم على دراية كاملة بتلك الآيات، لكن المشكلة لا تكمن في جهلهم بالدين وآياته ولم تكن يوماً كذلك؛ بل تكمن المشكلة في تفسيرهم وتأويلهم لتلك الآيات وغيرها مما سنسرده الآن.
إن تفسير داعش ومثلها من الجماعات الأخرى لهذه الآيات على أنها آيات منسوخة، أي أنها نزلت في مرحلة معينة من حياة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لتبين أحكام تلك المرحلة فقط، ثم تم نسخها آنِفاً بآيات تبين أحكاماً جديدة لمرحلة أخرى، ومثال على ذلك لتقريب الفكرة هو مثال آيات تحريم الخمر بالتدرج.
فأول ما نزل في الخمر قول الله تعالى: "يسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا" (البقرة: 219)، ثم نزل قول الله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ" (النساء: 43)، حتى نزلت: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ" (المائدة: 90).
كذلك فإن الآيات، التي يستدل بها على إنكار نهجهم، هي عندهم آيات منسوخة أو آيات مرحلية وليست أحكاماً نهائية، وتم نسخها بآيات القتال في مطلع سورة التوبة؛ لتكون تلك الآيات هي التي تحدد الأحكام النهائية في التعامل مع غير المسلمين.
يقول سيد قطب في ذلك:
"إن المهزومين في هذا الزمان أمام الواقع البائس لذراري المسلمين - الذين لم يبقَ لهم من الإسلام إلا العنوان - وأمام الهجوم الاستشراقي الماكر على أصل الجهاد في الإسلام، يحاولون أن يجدوا في النصوص المرحلية مهرباً من الحقيقة التي يقوم عليها الانطلاق الإسلامي في الأرض لتحرير الناس كافة من عبادة العباد، وردهم جميعاً إلى عبادة الله وحده، وتحطيم الطواغيت والأنظمة والقوى التي تقهرهم على عبادة غير الله، والخضوع لسلطان غير سلطانه، والتحاكم إلى شرع غير شرعه.
إن هذه النصوص التي يلتجئون إليها نصوص مرحلية تواجه واقعاً معيناً، وهذا الواقع المعين قد يتكرر وقوعه في حياة الأمة المسلمة. وفي هذه الحالة تطبق هذه النصوص المرحلية؛ لأن واقعها يقرر أنها في مثل تلك المرحلة التي واجهتها تلك النصوص بتلك الأحكام.
ولكن هذا ليس معناه أن هذه هي غاية المنى، وأن هذه هي نهاية خطوات هذا الدين، إنما معناه أن على الأمة المسلمة أن تمضي قدماً في تحسين ظروفها، وفي إزالة العوائق من طريقها، حتى تتمكن في النهاية من تطبيق الأحكام النهائية الواردة في السورة الأخيرة، والتي كانت تواجه واقعاً غير الواقع الذي واجهته النصوص المرحلية".
وفيما يلي سنسرد ما يعرف بآيات القتال في مطلع سورة التوبة وتفسيرهم وتأويلهم لتلك الآيات، والتأويل الآتي هو ليس تفسيراً مني للآيات، ولكن هو التفسير الذي يبني عليه أصحاب ذلك الفكر نهجهم.
فتقول الآيات في شأن المشركين:
"برَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١) فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهِ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (٢) وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهِ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولِهِ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3) إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٤) فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥) وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (٦) كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهِ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7)".
وتقول في شأن أهل الكتاب:
"قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)".
فأما الآيات التي في شأن المشركين فتبدأ بإعلان للمسلمين بالتبرؤ من العهود مع المشركين وإمهالهم أربعة أشهر حتى بدء قتالهم، إلا من تاب واعتنق الإسلام منهم، وأما الآية الرابعة تأتي لاستثناء فريق منهم وهم من عاهدهم المسلمون ولم يخلفوا بوعدهم معهم، فأمر الله المسلمين بإتمام عهدهم إلى مدتهم وإمهالهم حتى انتهاء مدة العهد.
ثم تأتي الآية الخامسة وفيها أمر للمسلمين -بعد انقضاء الأشهر الحرم (وهي الأشهر الأربعة التي أمهلوها للمشركين)- أن يقتلوا كل مشرك أنَّى وجدوه أو يأسروه أو يحاصروه إذا تحصن وأن يقعدوا له مترصدين، إلا إذا تاب واعتنق دين الإٍسلام.
والآية السادسة تأمرهم بإعطاء الأمان للمشرك الذي يطلب الجوار والأمان، حتى يسمع كلام الله ويتعرف على دين الإسلام لعله يسلم، وإن لم يستجب أوجب الله على المسلمين بإخراجه إلى بلده مرة أخرى بغير إلحاق الأذى به.
أما جملة "إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ" والتي تأتي في الآية السابعة، فهي إشارة إلى نفس الطائفة التي سبق ذكرها في الآية (4) أن يتموا إليهم مدتهم إلى عهدهم، وإمهالهم إلى نهاية مدة العهد طالما استقاموا في وعدهم وعهدهم.
وبتلك الآيات السابقة ينتهي تقرير الأحكام النهائية الجديدة للتعامل مع المشركين، وهي إنهاء حالة التعاهد والمهادنة معهم جميعاً، فبعضهم بعد مهلة أربعة أشهر، وبعضهم بعد انتهاء مدة عهدهم، ثم يؤول أمرهم بعد إنهاء هذه المهلة إلى حالتين؛ إما التوبة والإسلام، أو قتال وأسر وحصار.
ثم تستمر الآيات في سرد الأسباب لإنهاء حالة المهادنة مع كافة المشركين وصولاً للآية (29) التي تقرر الأحكام في التعامل مع أهل الكتاب، فتقول الآية: "قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ".
وتبين الآية التعديل الجديد في التعامل مع أهل الكتاب، وهو الأمر بقتال أهل الكتاب الذين انحرفوا عن الدين الصحيح حتى يعطوا الجزية وهم صاغرون ذليلون، وأنه لم يعد يقبل منهم عهود مهادنة إلا على ذلك الأساس.
إذاً كما رأينا من ذلك التأويل والتفسير لتلك الآيات فإنه يقسم غير المسلمين إلى مشركين يباح قتالهم أينما كانوا، وإلى أهل كتاب يُقاتَلوا حتى يعطوا الجزية للمسلمين.
ويقول ابن القيم في ذلك:
شارحاً تدرج آيات القتال في حياة النبي صلى الله عليه وسلم "أول ما أَوحى به تبارك وتعالى، أن يقرأ باسم ربه الذي خلق، وذلك أُولى نبوته، فأمره أن يقرأ في نفسه ولم يأمره إذ ذاك بتبليغ، ثم أنزل عليه "يا أيها المدَّثِّر * قم فأنذر"، ثم أمره أن ينذر عشيرته الأقربين، ثم أنذر قومه، ثم أنذر من حولهم من العرب، ثم أنذر العرب قاطبة، ثم أنذر العالمين، فأقام بضع عشرة سنة بعد نبوته ينذر بالدعوة بغير قتال ولا جزية، ويؤمر بالكف والصبر والصفح.
ثم أُذِن له في الهجرة وأذن له في القتال، ثم أمره أن يقاتل من قاتله، ويكفَّ عمن اعتزله ولم يقاتله، ثم أمره بقتال المشركين حتى يكون الدين كله لله، ثم كان الكفار معه بعد الأمر بالجهاد ثلاثة أقسام: أهل هدنة، وأهل حرب، وأهل ذمة (أي أهل الكتاب).. فأُمر بأن يتم لأهل العهد عهدهم، وأن يوفى لهم طالما استقاموا على العهد، فإن خاف منهم خيانة نبذ إليهم عهدهم، ولم يقاتلهم حتى يُعْلِمهم بنقض العهد، وأُمر أن يقاتل من نقض عهده.
ولما نزلت سورة براءة نزلت ببيان حكم هذه الأقسام كلها: فأُمر أن يقاتل عدوه من أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية، أو يدخلوا في الإسلام، وأمره فيها بجهاد الكفار والمنافقين والغلظة عليهم، فجاهد الكفار بالسيف والسنان، والمنافقين بالحجة واللسان، وأمره فيها بالبراءة من عهود الكفار ونبذ عهودهم إليهم..
وجعل أهل العهد في ذلك ثلاثة أقسام: قسماً أمره بقتالهم، وهم الذين نقضوا عهده، وقسماً لهم عهد مؤقت لم ينقضوه ولم يظاهروا عليه، فأمره أن يتم لهم عهدهم إلى مدتهم، وقسماً لم يكن لهم عهد ولم يحاربوه، أو كان لهم عهد مطلق، فأمر أن "يؤجلهم أربعة أشهر، فإذا انسلخت قاتلهم".
وأخيراً في ما يتعلق بنهجهم من قتل للمدنيين من النساء والأطفال والشيوخ فيستندون في ذلك لتأويلهم لقول الله تعالى: "فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمَثَلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ" (البقرة: 194)، فإذا كان العدو يقتل مدنيين غير محاربين كان لهم أن يقتلوا المدنيين غير المحاربين من العدو.
والحقيقة أن من منطلق هذه التأويلات والتفاسير لتلك الآيات تكمن المشكلة والسبب الرئيسي وراء تشريعهم لأفعالهم، وإن لم تتم مناقشة الأمور من تلك الزاوية، فإننا على الأرجح سنكون ندور في حلقة مفرغة لا تأتي بأي ثمار.
واقرأ أيضًا:
سري للغاية.. الهيكل التنظيمي لحماس / إيران وحزب الله والقاعدة / عقب ليلة مع أمير داعش