تَوهُّم الإصْلاح عبر المواعظ والنُّصح فقط، نابِع في نظري من خلل استقرائي للمجتمع الإسلامي وتاريخه، بل هو قصور في فهم طبيعة البشر نفسِها، وقد نقسّم الخلل إلى ثلاثة عناصر:
1- إسقاط توجيهات الله تعالى والنبي صلى الله عليه وسلم على الواقع الحاليّ، وافتراض أنّ مجرّد النّصح والتذكير يُمكن أن يغيّر عامّة الناس وأوضاعَهم. والحقيقة أنّ الأمر والنّهي كانا في إطار نموذج حضاريّ فعليّ، يقدّم بدائلَ ويعيش به الناس تجاربَ إصلاحيّة حقيقية تُعيد للنفوس الأمل وتغيّر القناعات بالتّجارب وليس بمجرّد الكلام الذّي لم يستجب له إلا صفوةٌ ونخبة، فضلا عن طراوة الفكرة وسهولة تمييزها عن واقع مخالف تماما لمْ تختلط فيه الأمور وتشتَبِه فيه المرجعيّات.
هذا مع تغافل عن نماذج الإعراض والرفض لتلك الالتزامات والتوجيهات وجعْلِها مجرّد استثناء لا يمثّل الطبيعة البشرية، التي ستقبل الحق في نظرهم بمجرّد سمَاعِه! أو بعرضِها كحالات للتنكيل والشماتَة على أساسِ مآلها، ممّا يوهِم أنّ حياةَ تلك النّماذج الفردية منها والمجتمعيّة، هي أيضا معرّضة للهلاك والسخريّة والضّعف والهزيمة! وهذا يترتّب عنه تصوّر مغلوط للحياة المخالفة لتلك التعاليم، وأنّها لن تكون صالحة إطلاقا وفي كلّ المجالات! علاوة على ترقّبات مثالية يمتثِل فيها جميع الناس بلا استثناء للفكرة الإصلاحيّة، ويبقى الرّفض مجرّد شذوذ ماضٍ للأفول.
2- تقديم نمط محدّد للتديّن والإصلاح، كان للتقلبات الاجتماعية والسياسية دور مهمّ في بنائه، عكس الواقع الآن الذي يُراد له أن يحْتويَ هذا النّمط، معتقدين أنّ التنظير يَخلُق النّمط مستقلاّ عن المُلابسات وحيثيّات الواقع المعاش، مع أنّ تداخل التنظير والظروف ضرورة كونيّة. وأيضا افتراضٍ أنّ الحقّ يعلو ولا يُعلا عليه، تنظيريّا وحتى واقعيّا! في تجاهل تامّ للإكراهات التي يُواجِهُها من يريد تطبيق ذلك النّمط، عكْس من عاش في كنَفِ تجربة واقعية (تجدون معينا على الخير ولا يجدون... الحديث) لدرجة أنّ مجرّد إحساس المرء بتناقض وعراك نفسيّ ومنطقيّ يصير مستهجَنا وغير مفهوم ولا حتّى مقبولا، كيف وقد صُوّر له أنّ التغييرَ معادلةُ مبسّطة بين "سماع واستجابة" بغضّ النظر عن معيقات الاستجابة النفسيّة والمجتمعية في كثير من الأحيان.
3- إنكار الحقائق "المُرِعبة" وإغماض الأعين عن تمرّد وسخط المسلمين على الخطاب الدينيّ ووضع المجتمعات الإسلاميّة، والاكتفاء بمظاهر الولاء والبركة والتبجيل من الطائفة المتّبِعة وأفراد الصّحوة الدينية، والذين هُم أنْفسهم لا تخلو صدورهم من اعتراضات لا يجرؤون على البوح بها، عمَلا بقاعدة "أميتوا الباطل بالسكوت عنه"! وسُكِت عنه ظاهرا ودندَنة به النفوس باطنا! أو خوفا من تبعات البوح والسؤال والبحث. مع إغفال لإنذارات الواقع والعصر، وحاجيات الطبقات على مختلف مستوياتها، من تجديد تربوي وتعليمي ومعرفيّ وسلوكيّ، كلّ حسب ما يعيه ويعاتِب عليه.
ونعتَبر تلك الظواهر مجرّد بلاء وتدافع للباطل مع الحق، عِوَض اعتبارها الباطل الذي اختلط بالحق الذي نرفعُ لواءه ملطّخا به ونحن لا ندري! أو نسمعها مجرّد صيحَات من "جسد متألّم" لا يعبّر عنّا من قريب أو بعيد! ونبقى في مجرّد شعارات رنّانة نذكُر معها آيات وأحاديثَ لنقول بعدها "إسلامُنا عظيم" ذلك الإسلام الذي نهَشَت التصورات الممسوخة في جسده، ولم نرَ فيه (إلا قليلا) تطبيقات عمليّة تعيد الأمل وتبدّد الشكّ في "النموذج الإسلاميّ".
ليَكون غِيابُ النّقد الذاتيّ والإحْجام عن فتْح الجُرح المتقيّح نذيرا بالشّؤم. مع اتّهام مبالغ فيه لأيّ حركة أو محاولة إصلاحية بالعمَالة والضّلال، فلا نحن أصلحنا ولا تركنا من يُصلح، في ركود مترقّب.
الإصلاح عمليّة معقدة ينبغي أن تحترم طبيعة النفوس وضعفها المنتَظم كَمّا وكَيْفا، وأن تعتبر الواقع بطريقة شموليّة بعيدا عن اختزال الظواهر والتحقير من الإكراهات بقولنا "نحن أمّة منصورة" وكفى! وأيضا، الحذَر الشديد من إغفال تلك التغيّرات الطفيفة التي نميل لتصنيفها في إطار أعمّ منها، وهي في الحقيقة منفصلة عنْها ولها تأثيرُها الخاصّ بِها، كذاك الخلطِ التلقائي بين ما هو عربيّ وإسلاميّ، الذي يترتّب عليه دسّ تقاليد وعقليات في "العقلية الإسلاميّة" أو سعي لتطلّعات إسلاميّة من مصادر عربيّة لتكون في الأخير منبع الداء! أو اعتقاد أنّ انتشار مظاهر التديّن فقط علامة على انتشار المعنى الصحيح له.
والأهمّ هو معرِفة كيف نحافظ على نَفَس طويل للعملية الإصلاحية، فما أسهل أن تفور وتنبثق المياه، ولكن جريانها بشكل دائم قد يكون مؤقّتا. ولا يُكمن ذلك إلا إذا أعملنا عقولنا في أسباب انقطاع الماء أو فساده حتّى لوْ كرِهت النفوس تلك الحقائق.
وربّما سيُقال لي: ماذا قدّمت كبديل بعد كلامك المُجْمل هذا؟ فأقول أنّ مجرّد تقبّل الخلل واعتبارنا مسؤولين عنْه دون استثناء أكثر الأشخاص قداسة، يُعدّ خُطوة مهمّة للغاية، إذ نعتِقد أنّنا مُستعدّون لتقبّل الإصلاح متى بدَتْ معالمه في الأفق، ولكنّ الحقيقة أنّ الكثير منّا يُطالب بإصلاح على مقاسِه الخاصّ، أو مصالحه أو تصوّره المثاليّ للعالم، في عمليّة شبيهة جدا بمصادرتِنا على الواقع وتفسيره حسب ما نراه، لا ما يحتاجُه من قراءة موضوعيّة! وهكذا نفترض أيْضا في عملية الإصلاح، إذ نُزيحُ قوانينه لمجرّد صعوبةٍ في تقبّلها، ونضع قوانينَ "متخيّلة" بديلا عن القوانين الفعليّة، فلا الإصلاحَ أدرَكنا ولا الواقعَ فهمنا، في تخبّط سرمديّ.
ولعلّ من الطُّرافة أنْ يكون اعتراضُ "أيْن البديل"، هو نفسُه من التّجلّيات الخفيّة لرفض الإصلاح، كدعوةٍ للُزوم الصّمتَ إلى حين انبِعاث الإصْلاحَ مُعجزةً دون مقدّمات نقديّة مؤلِمة!
واقرأ أيضًا:
حول حقوق المرأة في اللباس/ سيكولجية الإلحاد (تأمل)/ سذاجة بعض القصص الوعظية/ خطيب الجمعة والانتحار/ نقاط منهجية حول حالة بعضهم الفكرية/ سؤال الشر 2- الشر الطبيعيّ/ رمضان والعبادة
التعليق: جزاك الله خيراً أستاذ حسن على هذا المقال المهم،
جذب اهتمامي وخاصة أن موضوعي في الدكتوراه عن (ضوابط الإصلاح في الفقه الإسلامي)، ويمكنني أن أقول لك باختصار للأسف كثير ممن يعملون في هذا المضمار لم يقرؤوا فقه العمل فيه، ولو قرؤوه وفهموه لاختفى كثير من الأخطاء التي تذكرها، وأما الذين يعلمون ويفقهون، فأمامهم عوائق كثيرة جدًا، وهم مع ذلك يبذلون جهدهم ويتركون الباقي على الله، وفعلًا تخرج الثمار طيبة يانعة... وواضح جداً أن المقال ثمرة معاناة وتأمل طويل وبحث حثيث عن الصواب.