يحتاجُ الإنسان إلى العديد من العناصر لكي يعيشَ ويستمر على قيد الحياة، وكما نعرف مدى أهمية العناصر الغذائية الأساسية والفيتامينات مثل فيتامين B12 على سبيل المثال في حفظ التوازن الداخلي الحيوي، فيجب أن نتعرف على مجموعة فيتامينات الحاجات النفسية - إن جاز التعبير عنها بهذا الوصف - في حفظ التوازن النفسي ودعم البنية النفسية والتغذية الصحية الخاصة بالتفاعل مع الذات والحياة والآخرين. الحاجة للانتماء هي فيتامين النفس البشرية عالي الأهمية مقارنة بغيره من الحاجات النفسية، من دون التقليل طبعاً من أهمية باقي الحاجات النفسية. وتعتبر أهمية وجوده ضمن شبكة من التوازن مع باقي الحاجات، فوجود حاجة بغياب بعض الحاجات الأخرى من الممكن أن يسبب فقداناً للتوازن النفسي بشكل خطير.
ومن لحظة ولادتنا يبدأ مشوار الحاجات النفسية، وكلما كبرنا سنة كلما حاولنا بكل جوارحنا أن نجد أرضاً خصبة لنجني من زرعها حاجاتنا، وكلما تطورنا أكثر تعلمنا كيف نزرع بذور الانتماء، فننتمي للأم، ثم كلا الأبوين، ونبقى في صعود سلم النمو الجسدي والنفسي، فنبحث كيف ننتمي للمدرسة وأصدقائنا، وتتطور حاجتنا لننتمي لمجموعتنا ومواطنينا ووطننا وديننا، ثم مهنتنا وزملاء المهنة، وتبقى الحاجة للانتماء الغرسة القوية التي تضرب جذراً راسخاً في الأرض وأغصاناً وارفة ترفع رأسها إلى العنان.
ولم تعد استرتيجيات الدول المتقدمة معتمدة على تطوير الآلات والتكنولوجيا والتعليم فقط، بل صارت تعطي قدراً كبيراً من الأهمية لبناء توازن الإنسان الحيوي النفسي، وخاصة إحياء الانتماء، والذي صار مدار العمل في الساعة واليوم ضمن برامج الدول التي تريد أن تكفل وجود أفرادها وبالتي وجودها واستمرارها، واستمرار هويتها، ورفع مستوى جودة الحياة فيها. فهذه الصين في القديم، تبني أمتن سورٍ عظَّمه التاريخ، لكن أعدائها اشتروا حراسه بالمال فما أفادهم سورهم، وهذه الدول التي حاولت بناء منظومتها الفكرية بناءً على الاشتراكية والشيوعية والنازية والفاشية، ثم ما لبثنا أن رأينا انهيارها. فأنظمة الإقصاء تضرب شرخاً عميقاً في عمق الانتماء، فقتلوا وسفكوا دماء شعوبهم، وتاريخ روسيا والصين الشيوعية وألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية يثبت لنا ذلك، فبعد أن رفضوا الدين لتخلّفه على حد زعمهم، كانت بدائلهم الثورية كما وصفوها، سماً زعافاً وخنجراً حاداً سفك دماء القاصي والداني، فبعد أن مات في عهد تطرف الكنيسة الآلاف كما زعموا، نحروا بإجرامهم الملايين في غضون بضع سنوات، فأي فكر أو تفكير هذا الذي يدفع الدولة لقتل مواطنيها ضمن إرهاب رسمي ومنظم لا يتم إدانته لطوق المصالح المشتركة بين الدول.
إن التطرف الديني الحديث هو عبارة عن مناصفة بين الأنظمة الثورية التحررية، والتأويلات الدينية الشخصية، لكن أصل التطرف لا يكمن في ذات الدين، بل هو سمة نفسية أو نزعة اجتماعية. فالمتطرف في الأصل سيكون متطرفاً في كل ما يفعل، ومهما كان ما يتبناه من اتجاه علماني أو شيوعي أو حتى ديني، فستظهر سمات تطرفه فيما يعتقد به أو يفعله، لذلك فكل الأنظمة الثورية تتفق بفكرة الانقلاب على السلطة وتجريم الحاكم، تارة بوصفه بالاستبداد وتارة بوصفه بالكفر. والتكفير ليس حكراً على دينٍ واحد، فهنالك الجماعات التكفيرية في النصرانية واليهودية وحتى البوذية، حيث تتبنى كل تلك الجماعات أنظمة الكراهية لغير المنتمين لها، مع إقصائهم واستحلال دمائهم وأموالهم وأعراضهم.
وكما يُغرس الانتماء، فهنالك في هندسة الفتن من يَغرس (التخلي)، فعندما تُشقّ الصفوف وتُفرّق الجماعة، يبدأ بُستان الانتماء بالجفاف وينتشر التخلي، فيخرج علينا في الإعلام مؤخراً دعاة عدة للتشهير في دين الإسلام والتشكيك فيه، وبث الشُبهات والطّامات حوله، وتكبر الكذبة، ويُنفخ في بُوقها ويُكرّسها يومياً بعض الإعلاميين، من باب أكل العيش تارة أو من باب خيانة العيش تارة أخرى. فيقترحون العلمانية بديلاً تارة، ويَزِجّون بإيمان الناس في قفص الاتهام تارة أخرى. وتُدَق طبول الحرب، فيجد من ينتمي لدينه نفسه قد أصبح بين مطرقة الاتهام وتشهير الإعلام، وإن حدث وحاول توضيح الصورة بموضوعية رُميّ بالرجعية والحزبية والطائفية والتوارثية. ثم يقام عليه حد الانتماء، فبينما تعمل الدول ليل نهار لتبني انتماء أفرادها وعدالة مجتمعها، يأتينا من يريد شطر الانتماء وتعزيز الإقصاء، وحجته في ذلك أن المنتمي لدينه مُتّهم حتى يَرتد عن ذلك. وفي دعوة العلمانية "العبثية"، تجد هؤلاء المنتمين لحزب العبثيين يريدون أن يعيدونا لمربع قديم، ثبت بالنظر للتاريخ والحاضر الواقع فشله، فتحتار منهم وهم من يدّعون الثقافة والعلم، فهل يريدون إحياء تجربة أتاتورك التركية العلمانية، حيث أنتج بثورته الآلاف من الغانيات والمحطات الإباحية، وأعاد تركيا من دولة خلافة إلى دولة تخلف، بحجة الحريات التي جعلت من أهدافها قمع حرية المرأة في وضع غطاء للرأس، عداك عن الحجاب. أم التجربة الشيوعية السافكة للدم، والتي تبيح القتل وبدل التكفير تمارس التجريم وتعدم الملايين من أبناء الوطن. نعم حقيقة، فبدل تهمة التكفير التي تسبب طفحاً فكرياً للعلمانيين، قاموا بابتكار تهم التجريم والتخوين، وبحجة الدعوة للحرية بتروا حرية المتدين، وبحجة الانفتاح أقصوا المتدين ووصفوه بالتخلف والتوارثية. وبحجة أنهم الأعلى ثقافة والأرفع معرفة وتقدم وجهوا كل أدوات ثقافتهم المفلسة لانتقاد المشايخ ورجال الدين.
إن محاولات العبثيين الذين كان الإعلام والصحافة والثقافة والتربية والتعليم والسياسة والحزبية والبرلمانية والاتحادات والنقابات والساحات والشوارع كلها مقرّاتهم لسبعين عاماً أو يزيد، لا يريدون الاعتراف بأن أدواتهم ومشاريعهم وبرامجهم، غير مجدية وفاشلة. فبدعوات التحرر انتمى الأبناء للأعداء أكثر من انتمائهم للوطن، وبدعوى الانفتاح تم إقصاء فئة لا بأس بها من أبناء الوطن المتدينين، وبتصنعهم للثقافة نشروا الإباحية في المسلسلات والدعايات وامتهنوا المرأة ليعود جسدها طاولة العرض للسلع الاستهلاكية. فما حققوا انتماء المواطن، وضُيّعت مُقَدّرات الوطن. ثم تعود دائرة الإفلاس ذاتها في البحث على من يعلّقون عليه أسباب فشلهم، وفتات فكرهم الهجين المستورد، والذي ثبت بأنه لا يصلح للاستهلاك المجتمعي، فيقومون بانتقاد المشايخ والمنتمين لدينهم.
وهؤلاء المنتقدون لم يكن بين أيديهم أيٌ مصادر للسلطة أو القوة أو النفوذ أو الإعلام أو التمويل، وكل ذلك ليرفع العلماني العربي عن كاهله حقيقة أثر ما فعله منذ سبعين عاماً في الأوطان العربية، فهو يريد الفرار من مواجهة مسؤوليته وحقيقة مشروعه الذي شطر الانتماء، وزاد من الظواهر الاجتماعية السلبية. فانتشرت المُسكِرات والمخدرات والسلاح والجريمة ونوادي امتهان المرأة وشرفها، ليحولها لراقصة وغانية ومغنية. ثم يريد أن ينتج جيلاً يحمل الوطن وينتمي إليه!.
إن الدعوة الإسلامية السمحاء هي أصل تعزيز الانتماء والنمو، فما رأينا سوراً قوياً لصد دعوات التكفير والتجريم مثل مشايخنا وعلمائنا الراسخين في العلم، إن الدعوة لتعليم الناس الدين القويم وحقيقة التوحيد وتعزيز التعليم الديني، هو الأصل والأساس في الحصانة الفكرية والعقائدية، سواءً من أفكار التكفير أو التجريم أو الإقصاء. وإذا كان هنالك جيلٌ سينتمي لمبادئ التطرف، فهذا لضعف أدوات الثقافة التي صنعها العلمانيون، ولضعف المناهج التربوية الحالية التي وضعها العلمانيون ثم أنكروها. فلم يضعوا فيها محتوىً لتدريس الإسلام وأسسه وحقيقته، وإلا فكيف وجد فِكرُ التكفير والتجريم مساره لرؤوس الشباب لو كانوا يفهمون هذا الدين العظيم ويفقهون فيه. والذي تم اختزاله في المناهج بكتاب الثقافة الاسلامية، وهو منهاج لا يغني ولا يسمن من جوع.
إن الأمن الفكري والحفاظ على شبابنا وثقافة مجتمعنا الإسلامي، تشير إلى أهمية بالغة لإضافة مناهج إسلامية قوية وعميقة ضمن المنهاج التربوي، مع تعزيزٍ لدور المسجد والخطباء، وإعادة الاعتبار والظهور للعلماء الكبار، وتعزيز تقديرهم واحترامهم، وتعزيز العقيدة الإسلامية في وسط قوات الأمن والجيش. وإلا فكيف سنحارب الإجرام والتكفير، لأن من بعض من قد يكفرونا أو يجرمونا هم أيضاً من أبناء جِلدتنا وبلدنا، فقبل قطع رؤوسهم، فالأولى أن ندرس كيفية وصول هذا النوع من الفكر وتمكنه منهم، والذي قلنا بأنه مناصفة بين الأفكار الثورية والتأويلات الشخصية، ولنا أن نتخيل عندما نجعل تأويلاتنا الشخصية بقالب ثورة.
لقد آن الأوان لأن يتحمل العلماني العربي مسؤوليته في كل ما يقوم به، فهم من يحاولون الآن الإيحاء لنا بأن أشياخنا ومنهج ديننا هو السبب في تراجعنا ليبرأ نفسه من سبعين عاماً من الفشل، فلا نريد أن يصبح الحل قتل أبنائنا المُغَرّر بهم، وليكون لدينا منهجاً وقائياً تعمل على أساسه كافة مؤسساتنا لتعميق فهم الدين والانتماء للعقيدة والوطن والمواطن.
نحمل في داخلنا الحاجة إلى الانتماء، وإذا لم نوجهها للنمو بشكل منهجيٍ صحيح، فسوف تنمو أشواكها لتؤذي صاحبها ومحيطه، فليس للعدو حاجة لهزيمتك ما دام يقوم بذلك أبناء جِلدتك، وان كانت إمكانياتنا الوطنية فيها ضعف لتطوير التكنولوجيا، فالانتماء يُمَكّنُ بناءه حتى في أفقر المجتمعات وأقلها تقدماً علمياً. فكل ما تحتاجه لذلك، هي رؤية ثاقبة وعقيدة راسخة، حيث أن الانتماء للأفكار الهُلامية والعبثية المصطنعة سريعة الزوال لا يُسمن ولا يغني من جوع، فإما أن نبدأ اليوم، فلا يجوز لمن يركبون السفينة الواحدة أن يخرقها أحدهم بحجة أن هذا موضع قدمه، وإلا فستغرق السفينة في الجميع.
ويتبع >>>>>>>>>>>>: نحمل في داخلنا: (2) الحاجة للأمان
واقرأ أيضأً:
المحاكمة / التوقعات / التدرج / المحاكمة (1) / ما هو الغضب؟!