وسواس التلوث والغسل: أنواع الغسل القهري1
وتظهر وساوس التلوث في حوالي نصف مرضى الوسواس القهري (Rachman & Hodgson, 1980) كما أظهر بحث حديث أن الوقاية من التلوث بمادة تثير اشمئزاز المريض هو أحد أهم أهداف مرضى الوسواس القهري (Mancinia, et al., 2009) كما تعتبر الحساسية للاشمئزاز واحدة من السمات المميزة لمرضىالغسل القهري (Olatunji & McKay, 2006) ويعتبر انفعال القرف أو الاشمئزاز عامل إدامة مهما في هذه الحالات.
أفعال الغسل القهرية في المسلمين:
فيما يتعلق بالمسلمين وبعض اليهود يمكن النظر إلى النجاسة أو الشعور بالنجاسة كشكل ديني للتلوث الذي يحظر على المؤمن بعض العبادات اليومية الأساسية ما لم يتطهر منه إلا أن من المهم التفريق بين أشكال الغسل الخاصة بالمسلمين -وهم أغلب من أرى من مرضى الوسواس القهري-، وفي هؤلاء نستطيع رؤية أشكال مختلفة من الغسل:
1-الغسل بقصد إزالة النجاسة (حقيقية واقعية أو متخيلة) من على الجسد أو من على شيء آخر وتنتمي إليه وساوس الاستنجاء وإزالة آثار المني من على أي شيء، وعادة ما تكون طقوس الغسل هنا في دورة المياه.
2-الغسل بقصد التهيؤ للعبادة كالوضوء وهو شرط لرفع الحدث الصغير (تبول أو تغوط أو إخراج ريح) أو كالغسل وهو شرط لرفع الحدث الكبير أو الجنابة في حال نزول المني أو التقاء العضوين الجنسيين (الختانين) بين الرجل وزوجه، وفي هذا النوع أيضًا عادة ما تتم طقوسالغسل في دورة المياه، ولابد من التفريق بين الغسل هنا والذي لا يزيل نجاسة ما من على الجسد منالغسل في حالة الاستنجاء.......... ولابد من التفكير في صلاحية هذه الفئة للتصنيف ضمن وساوس التلوث لأنها ليست حقيقة لإزالة تلوث وإنما يقصد بها التهيؤ للعبادة.
3-الغسل بغرض التخلص و/أو التحرز من نجاسة انتشرت انتشارا سحريا لأن مصدرها متحرك كأن يكون المصدر كلبا أو مصدر نقلها متحرك كأن يكون شخصا آخر ينقل النجاسة أو يكون المريض نفسه، وفي هذا النوع لا توجد حدود معتادة للمكان الذي يمكن أن تشمله طقوس الغسل، كما أن من النادر أن يقتنع المريض أنه تم التخلص منها تماما مهما فعل بسبب انتشارها السحري اللامحدود.
ومن الأشكال المتقدمة من مرضى وساوس التلوث من لا تشمل أفعالهم القهرية أفعال الغسل لأنهم لا يقنعهم الغسل أصلا في قدرته على إزالة التلوث أو حتى تعطيل أثره لفترة ... وهؤلاء لا يكون الحل القهري الذي يختارون إلا تجنب (أو تحاشي) كل ما تلوث من أشياء و/أو أماكن و/أو أشخاص أو التخلص منه (برميه أو إعطائه لمحتاج عبر جمعية خيرية مثلا،) أو تكديسه في مكان مخصص في المنزل كغرفة مغلقة تجدها ملأى بالملابس والأحذية وحقائب اليد وربما الساعات والهواتف الخلوية.. وأغلب المكدسين من المتعمقين الذين يرون خلقيا أو دينيا أن التخلص من هذه الأشياء الملوثة قد يضر من يستخدمها وهو لا يعلم ما فيها.... وبعضهم يستنكف التصدق بها لأن المفترض أن يتصدق الإنسان بأفضل ما عنده وليس بشيء يعتبره ملوثا بشكل أو بآخر.
وقد أظهرت الأبحاث (Feinstein, et al., 2003) و(McKay et al., 2004) إمكانية تقسيم مرضى الغسل القهري حسب الدافع للغسل إلى مجموعتين:
مجموعة "أ": تلك التي تغسل للحد من الانزعاج دون مخاوف من الضرر؛ وهؤلاء يميلون إلى الانخراط في عدد أنواع أقل من الأفعال القهرية، لأن ما يهمهم ويشغلهم هو التلوث وغسله بشكل مفرط للحد من الشعور بالتلوث.
مجموعة "ب": تلك التي تغسل لمنع وقوع الأضرار في النفس أو للآخرين نتيجة للتلوث وهؤلاء ينشغلون بالعواقب المهددة المرتبطة بالتلوث.
بعض الأبعاد المعرفية المهمة في حالات الغسل القهري:
تتفاعل أربعة أبعاد أو خصائص معرفية في حالاتالغسل القهري لتؤثر في الصورة المرضية وهذه الخصائص هي فرط تقييم التهديد أو تهويل التهديد Over-Estimation of Threat والكمالية Perfectionism والشعور بعدم اكتمال الفعل Incompleteness of Action وأخيرا فرط الشعور بالمسؤولية Exaggerated Responsibility فمثلا في المجموعة "ب" من مرضى الغسل القهري قد نرى طقوس الغسل أو التفحص أو التحقق من أجل تقليل/ تحاشي التهديد المتصور(Feinstein, et al., 2003). ولا ننسى هنا ما أثبتته الأبحاث منذ ثلاثة عقود من أن مرضى الغسل القهري كثيرا ما يميلون إلى فرط تقييم التهديد أو تهويله في موقف ما (Lelliott et al., 1988)؛ وربما يكون ذلك الميل لتهويل التهديد أوضح في أفراد هذه المجموعة. إلا أن تهويل التهديد ليس من الخصائص المعرفية المميزة لمرضى وسواس التلوث والغسل فقط فهي كذلك مهمة في الوساوس المتعلقة بالعنف والجنس والمواضيع الدينية.
وكنت في مقالة : وسوسة النظافة... هل تتعلق بالكمال؟ والمنشور على مجانين يوم 25 أغسطس 2007 قد وصفت حالة مريضة وسواس قهري بوسواس التلوث والغسل من المجموعة الثانية وتساءلت عن تواكب بعض الخصائص المعرفية في نوع من هؤلاء المرضى مثل الكمالية والتقييم المفرط للخطر فقلت (وأما التواكب بين وسوسة النظافة والتنظيف ووسوسة الكمال والتمام -وغالبا التشاؤم- فكثيرا ما لحظت تواكبهما معا في نفس المريض وما وسوسة النظافة أصلا إلا أحد أشكال الرغبة في كمال الأمان...... عادة مع تقييم مفرط للخطر...... فهل يشاركني الأطباء النفسانيون الرأي؟) .... لم أكن في ذلك الوقت على علم بدراسة لتاليس (Tallis, 1996) اقترح فيها أن بعض مرضى الوسواس القهري لا يغسلون لإزالة التلوث، ولكن لتحقيق حالة من النظافة أو مستوى نظافة يرتبط ارتباطا وثيقا بالكمالية. ولا كنت على علم بتوسيع نطاق هذا البحث على يد كولز (Coles et al. 2005) والذي اقترح أن مرضى اضطراب الوسواس القهري يؤدون الفعل القهري للحد من مشاعر أن شيئا ما فقط ليس مضبوطا كما يجبNot Just Right Perceptions أو غير مكتمل أي الحد من أحاسيس عدم الاكتمال. وقد ارتبطت هذه الخصائص المعرفية بأعراض مرضى الوسواس القهري، بما في ذلك مرضى الغسل القهري.
فعدم الشعور بالاكتمال Incompleteness أو العجز عن الشعور بالاكتمال هو إحدى السمات المعرفية التي ارتبطت بمرضى الوسواس القهري ورغم أن الشائع في أدبيات الطب النفسي هو أن أول من وصفها كان بيير جانيه سنة 1903، والواقع أن فقهاء المسلمين كانوا أسبق حيث نص على أن الموسوس لا يشعر باكتمال أفعاله في بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع: لعلاء الدين بن مسعود الكاساني وكتاب الهداية: برهان الدين علي المرغيناني، المهم وصفها بيير جانيه بأنها شعور داخلي بالنقص يرتبط باعتقاد أن المهمة المقصودة تفحصت بشكل غير كامل (Pitman, 1987) أو لم تتفحص بالشكل الكامل أو المطلوب أو المضبوط، ثم وصف كثيرون تلك الظاهرة في مرضى الوسواس القهري خاصة في فئةالغسل القهري ومنهم من سماها أسماء متعددة أو وصف ظواهر تشبهها تحت أسماء مختلفة مثلا وصفها بيتمان (Pitman, 1989) بأنها العجز عن الشعور باكتمال المهمة Sense of Task Completion وسماها آخرون خللا في الشعور بالمعرفة ‘Feeling of Knowing ’أو ‘yedasentience’ بإتمام المهمة وصولا للأمان (Szechtman & Woody, 2004) أو العجز عن الشعور بالصواب Feeling of Rightness كما سماها ماجنان (Mangan, 2001) أي صحة وصواب إنجاز المهمة، وهناك من وصفها بأنها "إدراكات ليس صحيحا تماما" Percptions Not Just Right أو خبرة أن الأداء "فقط ليس صحيحا"Not Just Right Experience كحافز للتكرار (Leckman, et al 1994)، كما وصفها كولس بأنها "شعور شخصي بأن شيئا ما ليس كما ينبغي أن يكون"، وهو شعور غير مستقر بسبب أن شيئا في الفرد أو في العالم من حوله لا يجري بالشكل الصواب (Coles etal, 2003).....إلخ ... وبالتالي فإن غياب هذا الإحساس يترك المريض عاجزا عن التوقف عنالغسل وتكراره لعدم شعوره بكفايته أو باكتماله.
والسؤال الذي حاول الباحثون الرد عليه هو سؤال لماذا يستمر مريض الوسواس القهري في إعادة الفعل القهري ولا يتوقف رغم علمه بلا منطقية ذلك؟ هل لأن هناك إثارة ذات كثافة مرضية عالية في الطاقم أو النظام العقلي الذي يبدأ بأفكار معينة أو إجراءات (أفعال) محددة، بحيث يتم توالد أو تعاقب تكرار تلك الأفكار أو الأفعال بسهولة جدا وبقوة (Oltmanns, & Gibbs, 1995)، ورغم وجاهة تلك الفكرة أي (الحث الوسواسي للاستمرار) والتي تعني أن الموسوسين لا يستطيعون التوقف عن التكرار لأنهم يشعرون بالحفز والحث على الاستمرار Urge to Continue أو التكرار للوصول إلى راحة معينة، إلا أن تعبيرات المرضى ووصفهم لخبراتهم لا تشير إلى حفز أو حث للاستمرار بقدر ما تشير إلى عجز عن أو فشل في التوقف Inability to Stop عن الفعل وتكرار الفعل، أي أن هناك عجزا في النظام الذي ينهي عادة هذه الأفكار أو الأفعال، بحيث تستمر لفترة طويلة جدا كما بين ريد (Reed, 1977).
ويبقى لنا الشعور المفرط بالمسؤولية (Salkovskis, et al., 1989) كواحد من الخصائص المعرفية المهمة في مرضىالغسل القهري من المجموعة "ب" فالمريض بوسواس التلوث غالبا ما يشعر بشعور بالمسؤولية عن حماية الآخرين من الملوثات. ولذلك فإنه يصر على أن الأصدقاء والأحباء يجب أن يتجنبوا الملوثات خشية أن تصيبهم أو أن ينشروها إلى المناطق التي ما تزال آمنة في البيت. وكثيرا ما يصر المريض على أن يقوم أفراد الأسرة بتطهير المنزل (أي تنظيف المنزل وفقا لطقوسه القاسية) وكذلك تغيير الأحذية والملابس قبل دخول المنزل. كما أنهم قد يحددون من الذي يمكن أن يدخل المنزل ومن يمنع من دخوله بسبب الخوف من تلوث ما يجلبه الآخرون مثلا قارئ عداد الكهرباء أو العامل الذي يغير أسطوانة الغاز...إلخ.
ولزيادة تعقيد صورة وساوس التلوث الإكلينيكية لدينا، هناك الحالات التي يتفاعل فيها الشعور المفرط بالمسؤولية عن الآخرين بحيث يخشى المرضى لا فقط من تلوثهم شخصيا وإنما أيضًا من نشر التلوث للآخرين. وأحيانا يكون الخوف من نقل التلوث للآخرين أكبر وأوقع أثرا في نفس المريض، وأنواع التلوث التي يمكن نقلها للآخرين هي تقريبا نفس تلك التي يخافها المريض. وبصفة عامة، نجد في قهورات التحاشي وإزالة التلوث. ليس فقط خوفا من احتمال إلحاق الضرر بالآخرين بل أيضا خوفا من الاضطرار إلى العيش بالذنب الناتج عن التسبب في تلوثهم.
وتشمل الجلسات العلاجية والواجبات المنزلية العديد من التجارب السلوكية الصغيرة لاختبار نظريات المرضى حول مخاطر نوع معين من التلوث. ويتم تصميم العلاج لكل شخص حسب أعراضه وحسب قدرته وسرعته واستعداده. فمثلا إذا كان من الصعب جدا بالنسبة للمريض مواجهة مادة أو حالة مخيفة في خطوة واحدة كاملة، فإنه يجري تناولها تدريجيا. مثلا هناك المريض الذي يمكن أن يلمس في البداية شيئا لامس المادة المخيفة أو الكائن الملوث أو النجس، ثم في وقت لاحق يلمس الشيء أو الكائن المخشي نفسه.
1- Rachman SJ, Hodgson RJ (1980): Obsessions and compulsions. Prentice Hall, Englewood Cliffs, NJ.
2- Mancinia, F Perdighea, C, Serrania F.M & Gangemia, A (2009): Current Targets in Obsessive-Compulsive Patients. Psicoterapia Cognitiva e Comportamentale, Vol. 15 - n. 3 • 2009 (pp. 353-363)
3- Olatunji, B., & McKay, D. (2006): Introduction to the special series: Disgust sensitivity in anxiety disorders. Journal of Behavior Therapy and Experimental Psychiatry, 37(1), 1-3.
4- Feinstein, S. B., Fallon, B., Petkova, E., & Liebowitz, M. R. (2003): Item-by-item factor analysis of the Yale Brown Obsessive compulsive Symptom Checklist. Journal of Neuropsychiatry & Clinical Neurosciences, 15, 187-193.
5- McKay, D., Abramowitz, J. S., Calamari, J. E., Kyrios, M., Radomsky, A., Sookman, D., et al. (2004): A critical evaluation of OCD subtypes: Symptoms versus mechanisms. Clinical Psychology Review, 24(3),283-313.
6- Lelliott, P. T., Noshirvani, H. F., Basoglu, M., Marks, I. M., & et al. (1988): Obsessive-compulsive beliefs and treatment outcome. Psychological Medicine, 18(3), 697-702.
7- Tallis, F. (1996): Compulsive washing in the absence of phobic and illness anxiety. Behaviour Research & Therapy, 34(4), 361-362.
8- Coles, M. E., Frost, R. O., Heimberg, R. G.,&Rheaume, J. (2003): “Not just right experiences”: perfectionism, obsessive–compulsive features and general psychopathology. Behaviour Research and Therapy, 41, 681–700.
9- بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع: علاء الدين بن مسعود الكاساني: دار الفكر-بيروت.
10- الهداية : برهان الدين علي المرغيناني: دار الأرقم بن أبي الأرقم- بيروت، ضبطه وعلق عليه: محمد عدنان درويش.
11- Pitman, R. K. (1987). Pierre Janet on OCD (1903): review and commentary. Archives of General Psychiatry, 44, 226–232.
12- Pitman, R. K. (1987). Pierre Janet on obsessive–compulsive disorder (1903): review and commentary. Archives of General Psychiatry, 44, 226–232.
13- Szechtman H, Woody E. (2004): Obsessive-compulsive disorder as a disturbance of security motivation. Psychological Review, 111 (1), 111-27.
14- Mangan, B. (2001): Sensation's ghost: The non-sensory "fringe" of consciousness. PSYCHE, 7(181- ).http://psyche.cs.monash.edu.au/v7/psyche-7-12-mangan.html.
15- Leckman, J.F., Walker, D.E. Goodman, W.K., Pauls, D.L., & Cohen, D.J. (1994): “Just right” perceptions associated with compulsive behavior in Tourette’s syndrome. American Journal of Psychiatry, 151, 675– 680.
16- Oltmanns TF, Gibbs NA:(1995): Emotional responsiveness and obsessive- compulsive behavior.Cognition & Emotion 1995, 9:563-578.
17- Reed GF (1977): The obsessional-compulsive experience: a phenomenological reemphasis. PPR 1977, 37:381-384.
18- Salkovskis, P. M., & Kirk, J. (1989): Obsessional disorders. In K. Hawton, P. M. Salkovskis, J. Kirk & D. M. Clark (Eds.), Cognitive behaviour therapy for psychiatric problems: A practical guide. Oxford medical publications. (pp. 129-168): Oxford University Press, New York, NY, US.
ويتبع >>>>>: وسواس التلوث والغسل: علاج الغسل القهري1
واقرأ أيضًا:
استشارات عن وسواس النظافة / وسواس النظافة وقاعدة الانتشار السحري