المرض النفسي: دور الإيمان والعلاج بالقرآن
السلام عليكم دكتور وائل
المقال جميل، خصوصا أنّه يفرق بين أنواع الاضطرابات التي تتحسن بالإيمان والتي لا تتحسن به، وأيضا لقضية مهمة يتناساها المسلمون عندما يقرؤون "الإيمان يساعد في المرض النفسي" فيهتفون بأن المسلمين أفضل حالا من الكفار، ولا يعلمون أنّ الأبحاث قامت على أي دين، فبُهت الذي تسرّع ! فعقليتنا تتعامل مع النّفع بشكل يرتبط دائما بالحقّ ! وبالباطل على أنه دائما شر وضرر (وهذا شبيه بما تحدّثتُ عنه في مقال الموسيقى والتعاسة) فإن قيل لنا بأن الإيمان يساعد في حالة المرض النفسي، نفترض بسرعة بأنّه الإيمان المقصود لا شك هو الإسلام وعقيدة الإسلام الصحيحة، ولا نتصور أنّ النفسية (بحيادتيها) تنتفع من عقيدة إن ظنّتها صحيحة وآمنت بها، فيرتبك "العقل المسلم" الذي يعتبر الحق هو المصدر الوحيد للنفع، والباطل هو المصدر الوحيد للضرّ النفسي. ومن هنا تنازع الفكرة كل من أراد محاربتها أو تصحيحها، لأنّ مجرد الاعتراف بأنّ الإيمان بأديان الباطلة يجرّ نفعا على أصحابها وكأنه اعتراف بأنّ ذلك الدين يمكن أن يكون حقّا ! فما دام فيه نفع فهو لا بد حقّ !
ولعلّ أمرا آخر يضع عقبة لا شعورية أمام الاعتراف بحيادية الجهاز النفسي، وهو أنّه لم يبق لنا سوى ما نتفاخر به من "معرفة أسرار النفس والقلوب" وأننا نملك الحلّ الربانيّ لمعالجة كل الاضطرابات النفسية والتي نتعالى به على "الكفار" والغرب المحتضر في ماديّته ! فإن نُزع منّا هذا الامتياز فكيف سنقوي الإحساس الجمعي بالتفوق على الغرب الذي سحقنا في كثير من الميادين، لكننا بحمد الله تفوقنا عليه في شيء لن يستطيع أن يبلغه حتى إن عاش في المريخ ! فالمشكل في طريقة تفكير البشر ذاتها، في الآليات المعرفية، في تلافيف الدماغ، وما جاءت التصورات الإسلامية الخاصة بنا إلا معززة لتلك التحيزات المعرفية والزلات المنطقية. فالقضية نفسية أكثر منها "علمية أكاديمية". ولا شك أن الخطاب الديني بمنهجيته السائدة له أثر كبير في تعميق أساليب التفكير الخاطئة، إلا من رحم الله.
ولا ننسى شيئا مهما للغاية، وهو ميول الناس لتقسيم الكون إلى ثنائيات، ومن ذلك "كيان الإنسان" ليعطينا ثنائية: العقل/الجسد أو الروح/المادة.. Mind-Body Problem وهذا إشكال فلسفي قديم وكل ما شهدته من اعتراضات على الطب النفسي وعلم النفس والتوجه الغربي "الماديّ" يصب بشكل أو آخر في هذه الثنائية، وبهذا تتساقط التفسيرات الميتافيزيقية على المجال النفسي، لتفسّر السبب بشيء خارج عن نطاق الجسد، وافتراض أنّ نفسية الإنسان لا تكفي لوحدها لإفراز كل الاضطرابات الخاصة بها ! وأنها مرتبطة بعالم علويّ رباني غيبيّ (كما فسّر الإغريق صعود النار بشوقها لعالم الآلهة الذي سُرقت منه) مع أنّنا نعرف أنّ كل "آلة أو نظام" إلا وله وجه آخر من النشاط، هو النشاط "غير السويّ" أو "المرضيّ" أو "غير العادي" بالنسبة للآلات والإنسان على حد السواء، لأن العمل والنشاط نفسه، يحمل في حركته احتمالية أن يقوم بمهمة بشكل خاطئ فيتحول من سيرورة "سليمة صحية" إلى "غير سليمة ومرَضيّة". مثل أن يصبح الخوف الذي هو محرّك للحفاظ على حياة الإنسان ومصالحه إلى رُهاب مرضيّ يُشلّ حركة الفرد ويعطّل عليه مصالحه. كما قد تتحول عملية التبريد في الثلاجة إلى عائق للتبريد عندما يغطي الجليد كل شيء فيصير هو نفسه عائقا لعملية التبادل الحراري. والأمثلة كثيرة.
وإني أتساءل أين يوجد هذا "الكيان النفسي" إن لم يكن وسط الجسد !!؟
ولعلّ هذا ما تبقى من مثالية أفلاطون الذي يرى أن جزء منا موجود في "عالم المُثل" ! كما نرى أنّ نفسياتنا (أو أرواحنا) متصلة بعالم إلهيّ تستمد منه القوة والضعف، المرض والصحة ! ثم ببعض النصوص التي نفهَمُها على ضوء هذا التصور المثالي، نقول هذا قول ربّنا وقول نبيّنا ! وما هو إلا فهمُنا نحن لعالمنا. فلا عجب أن يستنكر الناس على من قال لهم : (بل النفسية شيء يُدرس وله قوانينه ونستطيع مداواته) وكأنما القائل يكسّر المثالية والدين معها لارتباطهما الوثيق في عقولنا !
ولتعلم قدم الإشكالية يا دكتور وائل، وأنها في غير الطب النفسي حاضرة أيضا، أنظر إلى الخلاف الكلامي بين الأشاعرة وغيرهم في قضيّة الأسباب (وعقيدة العادة كما تُسمّى اصطلاحا). باختصار هو قول ينفي مبدأ السببية (العلمي والواقعي والديني أيضا) ويُفسّرون إحراق النار مثلا بمجرد التزامن وأنّه ليس في النار ذاتها سبب للإحراق.
وسبب إنكارهم لمبدأ السببية:
1- تجنّب الاعتراف بأن مع الله مؤثّرا (الأسباب) في المخلوقات إذ هو وحده المؤثر "المباشر".
2- القول بمجرد التزامن بدل السببية (المُحكمة) يسهّل الإيمان بالمعجزات التي هي كسر لقاعدة السببية، ولو كانت السببية شيئا ثابتا لأنكرنا المعجزات، أمّا لو قلنا بمجرد التزامن والعادة المشاهدة فيمكن بسهولة وقوع المعجزات لانفصال السبب عن المسبب ! (مع أن المعجزات هي أسباب أخرى، لكنها غير معتادة ولا نفهمها)
3- لسدّ الباب على من يقول باستقلالية العالم والمخلوقات عن الله تعالى، فكل شيء بسبب ومسبب يسير بنا لإنكار "دور الخالق !"
يبدو استدلالي بعيدا شيئا ما، لكن إن تأملنا قليلا في قضية "التأثير الإلهي المباشر" سنجِدُها الركيزة الأساسية لإنكار الاضطرابات النفسية وطرق علاجها، إذ نأتي بكلام الله أو التعبد المحض ونقدّمه على أنه علاج "بتدخّل مباشر" من الله تعالى، فكلام الله مباشرة يؤثر في الحالة النفسية ! والعلاقة التعبدية مع الله علاج مباشرة بسبب رضى الله عن تلك العبادات. ومن ثَمّ يُعتبر أي إثبات لأسباب وقوانين نفس-اجتماعية مستقلة عن الإيمان والطاعة والمعصية، نوعا من إنكار العقيدة والتحقير من شأن التدخل الإلهي المباشر الذي هو محض فلسفة، وليس من العقيدة في شيء، ولم يتكفّل به الله تعالى ولا أخبر به !
أنا لا أقصد أنّ الناس تتبنى العداء والاستهجان اتجاه العلوم النفسية بسبب الفلسفة الأشعرية، هذا مستبعد، لكني أشير إلى ميل العقل البشري لإفراز أفكار مثالية تُحافظ على تصوره المسبق والخاطئ عن الله تعالى ودينه، فذلك أسهل من مساءلة المسلمات العقدية الخاطئة، لأنّ ذلك عيب ! وللإنصاف يعجز الكثيرون على مساءلة منطقية رصينة، لكن هذا لا يشفع في محاربة من يقدم حلا للمعضلات واتهامه في دينه وعقله ! فضلا عن نشر الجهل بالصحة النفسية على أنّه قول الله ومراد نبيّه بهتانا، ومحاربة العاملين فيها، وإن كان في مواضيع دون أخرى.
وأحبّ أن أطرح سؤالا للنقاش مع الأساتذة الأفاضل والزوار الكرام.
إن كان التوازن دقيقا للغاية في هذه القضية، قضية الصحة النفسية والتصورات الشعبية والدينية عن الأمراض النفسية ، وفي ظلّ التشبّث بمفاهيم القرون الوسطى وأقوال الوعاظ المريحة والافتخار ببدائل خرافية وغير علمية بدعوى التديّن والتقوى وقوة الإيمان واتّهام كل من شكك فيها في دينه وعقله. في ظلّ كل هذا، هل من اللائق أن نتحدّث عن "أثر الإيمان الإيجابي في النفسية" دون التشديد على عدم التوسّع فيها وحصرها جيدا ؟ ولهذا أصل في ديننا الحكيم، لما فرح معاذ بحديث "حقُ العباد على الله ألا يعذبهم إن لم يُشركوا به" فمنعه النبي صلى الله عليه وسلم خوفا من تواكل الناس، ولم يخبر معاذ بالحديث إلا قبل مماته خوفا من إثم الكتمان !
طبعا لا أقصد إخفاء الدراسات، فهذا زمن لا يخفى فيه شيء، وسيُتّهم الذي أخفاها بالكذب والتآمر، ولا تنقُصنا التفسيرات التآمرية في الحقيقة. قصدي أن يكون ذكر ذلك في سياقات قليلة جدا، لأن قوله كجزئية، ستحمل من يعتقد بمفاهيمَ خاطئة على الإصرار على كل الجزئيات الخاطئة الأخرى ! فيقول: "ألم أقل لكم أن العلم سيتوصّل إلى أن الإيمان بالله خير من الطب النفسي وعلم النفس وأن الغرب المادي سيعود للإسلام لا شكّ" !
لذلك إن ذكرت تلك الدراسات تُرفق دائما بالتحذير من المفاهيم الخاطئة، وأنّ المقصود بالدراسات أي دين (كما في مقال الدكتور وائل) وليس شرطا أن يكون من الديانات السماوية فضلا عن أن يكون هو الإسلام. حتى نكبَح ذلك التهليل وتلك الاندفاعية والمسارعة للتقوقع من جديد على المفاهيم المغلوطة، كمن هو مصاب برهاب اجتماعي، يُطلّ من النافذة ليسمع أصوات شجار، ثم يعود بسرعة ليقول : "ألم أقل لكم أن خارج البيت مرعب وفاسد" ! وأظنّ أن كل المعالجين سيتفقون على عدم إخبار الرهابي بمثل تلك الحوادث إلا في إطار تقزيمها وجعلها استثناء.
وإن كنا نحاول معالجة فكر أمة بأكملها، لا شك أن الخطوات ستكون علاجية أكثر منها تعليمية فقط، لأن ما وقع للرهابي هو ما يحصل في الرّهاب المعرفي اتجاه العلوم التي لا تُنتُجها الأوساط الإسلامية منذ زمن، ليقول بعد إطلالة سريعة وحذرة وقاصرة طبعا : "ألم أقل لكم أن الغرب تائه وضال، ونحنُ من سنعلّمه كل شيء " ! لتعود حليمة لعادتها القديمة، ولا تكون المعلومة إلا وقودا آخر للتّعصب والإسنادات والأفكار النمطية السائدة. على الأقل حتى نتعافى مرحليا من هذه الحالة الفكرية، والتي لن أبالغ إن قلت أنها مستشرية جدا لدرجة أنها تشكّل المرجع الاجتماعي للتقييم والسلوكات.
وأخيرا أقول، اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رُشد، يُعزّ فيه العلم، ويُذل فيه الجهل.
واقرأ أيضاً:
المسلسلات التركية والحب / تحليل لفلم Emily Rose 2005 عن المس / كذبتان في المسلسلات والأفلام الرومانسية