الإيثار والاستسلام الإيثاري Altruism & Altruistic Surrender
مقدمة
يحصل الكثير من الارتباك في الحديث عن ثلاثة مصطلحات في الصحة العقلية والعلوم النفسية وهي:
١- التعاطف Sympathy.
٢- الإيثار Altruism.
٣ الاستسلام الإيثاري Altruistic Surrender.
التعاطف هو شعور وعاطفة يشعر بها الإنسان.
الإيثار سلوك يمارسه الإنسان بكل وعيه. والإيثار كذلك هو عملية دفاعية نفسية غير واعية.
هذا التمييز بين المصلحات الثلاثة أعلاه ليس بعملية سهلة٫ ومن الصعب أحيانا الفصل بينهم٫ ويجب القبول بوجود علاقة بين الثلاثة. ممارسة السلوك الإيثاري قد تحفز الإنسان للشعور بالتعاطف. التعاطف بحد ذاته كصفة شخصية يدفع الإنسان إلى السلوك الإيثاري واستعماله كعملية دفاعية غير واعية.
وهناك أخيراً الاستسلام الإيثاري كعملية دفاعية نفسية غير واعية.
الغاية من هذا المقال أولا التطرق إلى الإيثار كسلوك وعملية دفاعية نفسية وبعد ذلك توضيح مفهوم استسلام الإنسان إيثارياً وتخليه عن طموحاته وتوقيفه لعملية تطوره الشخصي في سبيل إرضاء الآخرين. يحدث كل ذلك برضى الإنسان المستسلم أو بعدم قناعة مقاومته لإيثاره رغم وضوح الطريق الذي بدأ يسلكه وعدم توقفه. بعدها يتم وضع مفهوم الاستسلام الإيثاري في إطار خاص به.
الحديث عن الاستسلام الإيثاري هو الحديث عن عملية دفاعية نفسية غير شعورية لا ينتبه إليها الإنسان ويستعملها بصورة تلقائية وتتميز بما يلي:
١- عملية غير واعية.
٢- عملية كبرى للسيطرة على الاندفاع الغريزي.
٣- متميزة عن غيرها من دفاعات نفسية لا واعية يستعملها الإنسان .
٤- قد تصاحب اضطرابات نفسية جسيمة.
٥- قابلة للانعكاس.
٦- قد تساعد الإنسان على التأقلم على محيطه.
الإيثار
الإيثار بحد ذاته عملية ناضجة ومثمرة وتلقائية. هناك أبعاد عاطفية٫ اجتماعية٫ معرفية٫ وبيولوجية وراء هذا السلوك. الإيثار كسلوك بيولوجي في مختلف فصائل الحيوان يستهدف حماية حيوان آخر وعدم الانتفاع من ذلك٫ وهو كثير الملاحظة في الحيتان وكلاب البحر. أما الإيثار من بعد نفسي فهو ببساطة السلوك المناقض للأنانية. هناك أمثلة لا عد لها ولا حصر لوصف سلوك الإيثار في الحياة اليومية إطارها منفعة الآخرين عن طريق مساعدتهم والتعامل معه باحترام ومقابل ذلك لا ينتظر الإنسان رد الجميل.
تركز المجتمعات هذه الأيام على سلوك الإيثار كمعيار لتقييم الإنسان في مختلف مراحل حياته وخاصة حين يقدم أوراقه للدخول إلى الجامعة والتنافس مع أقرانه. يحرص الإنسان على إضافة أمثلة من الإيثار في سيرته الشخصية٫ ولكن ذلك لا يعني بانه يستعمل ذلك كدفاع نفسي طوال الوقت ولا يتم تصنيفه كذلك في الصحة العقلية. عمل الأعمال الخيرية بمختلف أنواعها من أجل الحصول على الشهرة والمجد ووسام دولة لا يقترب هو الآخر من الإيثار الدفاعي النفسي ولا يخلو بحد ذاته من المراوغة والنفاق٫ ولا يستهدف سوى مصالح شخصية بحتة.
هناك نظريتان لتفسير سلوك الإيثار وهما:
١- اندفاع الإنسان للإيثار مصدره مشاعر التعاطف مع الآخرين.
٢- اندفاع الإنسان للإيثار مصدره سعي الإنسان للتخلص من مشاعر غير مرغوب فيها ومؤلمة.
خير مثال على ذلك استعمال صور المجاعة والمرضى وضحايا الحروب لجمع التبرعات لعمل الخير٫ وتغيير سياسات الدول. هذا النوع من الإيثار يرتبط بفعالية مناطق الدماغ القشرية وتحت القشرية٫ وهو أيضاً عملية غير واعية وتلقائية. كذلك الحال مع الإيثار من بعد نفسي حركي Psychodynamic فهو الآخر عملية غير واعية وتلقائية وليس هناك مما يمنع قبول التفسير البيولوجي الذي يركز على الجهاز الحوفي والفص الجبهي وربطه بالتفسير النفسي.
الإيثار أيضاً يتم استعماله لوصف العقاب Altruistic Punishment ويعود تاريخه إلى عهد حمورابي الذي يعتبر أقدم شريعة قانونية مدونة في تاريخ البشرية. وضح حمورابي قواعد السلوك الاجتماعي والعقاب لمن يخالف. يتم استعمال مصطلح العقاب الإيثاري علي عقاب الفرد المخالف حيث يتم تنفيذ العقاب من قبل إنسان آخر دون الضحية. العقاب الإيثاري حتى يومنا هذا من مهمة الدولة والسلطات ومهمتها المحافظة على حقوق المواطن وضمان سلامته.
الإيثار الاجتماعي والتعاون بين البشر الذي يستند على مصالح مشتركة يتناقض تماما مع نظريات التطور التقليدية. الإيثار والتعاون بين أفراد المجتمع يستهدف بقاء المجموعة بأكملها أما النظرية التطورية فهي تضع الكائن الحي ومنهم الإنسان في صراع دائم ضد غيره من أجل البقاء.
أما في الصحة العقلية فإن المصطلح اللاتيني المستعمل للحديث عن الإيثار مشتقٌ من الفرنسية Auturi ومعناه للآخرين. هذا الاستعمال للإيثار في المدرسة التحليلية النفسية وإلى الآن في الصحة العقلية ولا علاقة له بالتعاطف.
الاستسلام الإيثاري
أمثلة الحياة عن الاستسلام الإيثاري كثيرة والغالبية منها لا تصل إلى عيادات الطب العقلي. كما هو الحال مع الإيثار فإن هناك بعد خاصاً بهذا الدفاع النفسي كما يلي:
• هناك من يسخر حياته لرعاية اطفاله أو والديه أو حتى أقربائه٫ ولكن الكثير من هؤلاء ينتبه كذلك إلى احتياجاته الخاصة به. هذا هو الاستسلام المتوازن.
• هناك من يتعرض إلى ابتزاز عاطفي من الوالدين أو العائلة من عمر مبكر ويتم ترسخيه لخدمتهم بصورة تلقائية. هذا نتاج النرجسية الأبوية.
• هناك من يسخر نفسه لخدمة أطفاله أو عائلته أو غيرهم كعملية دفاعية نفسية غير واعية للتخلص من أزمة نفسية تلازمه بصورة مزمنة. هذا هو الاستسلام المدمر.
المجموعة الثانية والثالثة تتوجه تدريجيا إلى عدم إدراك ذاتها وطموحاتها وتستسلم لمن ترعاه كلياً. هذه المجموعة الأخيرة هي الكثيرة الملاحظة في الطب النفسي.
حالة سريرية:
سيدة عاملة تزوجت في بداية العقد الثالث من العمر. سيرتها الشخصية طبيعية ولا يوجد تاريخ سابق أو عائلي لاضطرابات نفسية. تغيرت العلاقة بينها وبين زوجها في العام الثاني من الزواج وانشغاله بعمله وإسرافه في تنظيم البيت وتكرر انتقاده. بدأت تعاني من القلق والاكتئاب في النصف الثاني من الحمل٫ وظهرت أعراض اختلال الإنية. لم تتحسن أعراضها التفارقية بعد الولادة وصاحب ذلك أعراض اكتئابية. رغم تحسن الاكتئاب بالعقاقير٫ ولكن العملية التفارقية (اختلال الانية) استمرت٫ ولم تتحسن العلاقة الزوجية. طلبت الطلاق من زوجها وسارع في تنفيذ رغبتها وزواجه من أخرى خلال أشهر من الطلاق.
استمرت العملية التفارقية معها وانتقلت إلى بيت أهلها وبعدها إلى بيت آخر مع ابنتها. تجنبت الدخول في علاقة عاطفية٫ ولاحظ الأهل رفضها لكل من هو مناسب لها. توقفت عن العمل بعد خمسة عشر عاماً واعتزلت الأصحاب والأهل. رغم إهمالها لنفسها ولكن ابنتها في كمال الصحة النفسية ومتفوقة تعليميا ولا تعاني من أزمات نفسية.
رغم أن الغالبية لا تصل إلى مراكز الصحة العقلية٫ ولكن الحالة السريرية أعلاه توضح السيرة الطبنفسية والذاتية لمريضة تعاني من أعراض نفسية مزمنة. توجهت المريضة نحو الاستسلام الإيثاري للتخلص من الذنب الذي تشعر به من جراء حرمان ابنتها من العيش مع الوالدين٫ وشعرت بأنها استسلمت مبكراً لنرجسية الزوج.
الاستسلام الإيثاري أشبه بمحرك ذاتي للإنسان يسير به إلى أهداف لا يدركها الراكب ولذلك الكثير منهم لا يتحدث عن أهدافه وطموحاته ولا يشكي من سوء حظه. ولكن هناك مرحلة يصل الإنسان فيها إلى تقاطع طريق ويصعب عليه تقييم ماضيه وحاضره ولا يعرف مستقبله. في هذه المرحلة تبدأ المعاناة من أعراض نفسية وأحياناً أعراض جسدية. هناك أقلية تعاني من أعراض نفسية تتطور أحياناً إلى أعراض عقلية واضطراب وجداني اكتئابي جسيم. البعض منهم يتعامل مع أزماته عن طريق استعمال عملية التفارق Dissociation عن واقعه ونفسه وذكرياته بل وحتى شخصيته. الحالات التي تصل إلى العلاج النفسي غالبيتها من الإناث لأسباب اجتماعية وعائلية٫ ولكن هناك أيضاً من الذكور الذي يستسلم لوالديه وإخوانه وأحياناً إلى زوجه.
الإيثار والمدرسة التحليلية
المدرسة التحليلية تعرف الإيثار من زاوية ضيقة جدا لا يتوازى مع السلوك البشري المتفوق٫ ووضعت جميع الأفعال الخيرية الإيجابية في إطار مرضي. يمكن تتبع ذلك في أدبيات المدرسة التحليلية منذ أن وصف سيغموند فرويد نظرية الغريزة والنرجسية Libido Theory & Narcissism. لكن عبقرية ابنته آنا فريد تنعكس في استحداثها لمصطلح الاستسلام الإيثاري حيث وصفت مجموعة من الناس يتميزون بوضوح الكبت فيهم الذي يدفعهم عصابيا بسبب تأزمهم لعمل الخير ومساعدة الآخرين على حساب أنفسهم.
جمعت المدرسة التحليلية الإيثار وربطته بالتلذذ عن طريق الاضطهاد(المازوشية) وكان الاستنتاج بان جميع أنواع الإيثار أزمة عصابية نواتها المازوشية. ورفض الكثير هذا التفسير للإيثار٫ واليوم يتم حصره في إطار النضوج العاطفي كما هو موضحاً أعلاه. لذلك يتحدث الكثير في علم النفس هذه الأيام عن الإيثار وتصنيفه كما يلي:
• الإيثار الأولي الفطري Protoaltruism الذي لا يصعب ملاحظته في الحيوان٫ وفي الإنسان يتمثل في رعاية الوالدين لأطفالهم.
• الإيثار التوليدي Generative Altruism وهو الشعور بالمتعة لنجاح إنسان آخر وغياب التأزم معه.
• الإيثار المتأزم Conflicted Altruism، وهو لا يختلف عن الإيثار التوليدي سوى أن الشعور بالمتعة مصدره أزمة نفسية مثل نجاح إنسان على حساب إنسان آخر.
• الإيثار الكاذب Pseudoaltruism يولد بسبب أزمة مع الآخرين ومصدره ميول سادية مازوشية. هذا النوع كثير الملاحظة في عالم السياسة والفن.
• الإيثار الذهاني Psychotic Altruism وإطاره الوهام ويتميز بسلوك حنان وعاطفة ورعاية مع إنكار للواقع والحقيقة.
المصادر:
1- Du E and Chang S (2015): Neural Components of altruistic punsighment. Front Neuroscie 9:26.
2- Feldmanhall O, Dalgleish T, Evans D, Mobbs D (2015): Epathic Concern drives costly altruism. Neuroimag 105: 347-356.
واقرأ أيضًا:
المرآة والطب النفسي / احتقان والتهاب البروستات والطب النفسي / الاضطرابات الوجدانية في الرشد المبكر / رحلة الإيمان الديني والطب النفسي