المعرفة والإنسان والصحة العقلية
لكل زمان ومكان علم ومعرفة. يحتاج الإنسان العلم والمعرفة من أجل أن يلبي احتياجاته الفردية والجمعية، والعثور على معنى لحياته وحماية البيئة التي يعيش فيها. لا يمكن للإنسان أن يعيش بدون المعرفة ولا يستطيع التعامل مع غيره وبيئته بل وحتى نفسه بغيابها.
معادلات المعرفة
١- يمكن تلخيص المعرفة في القرون الوسطى بمعادلة بسيطة وهي:
المعرفة = سجلات تاريخية × المنطق
انقر الصورة لترى حجما أكبر
هناك الكتب الدينية وصحائف التاريخ ومجلدات القدامى من العلماء يتم تفحصها وتفسيرها من قبل الإنسان نفسه للوصول إلى الاستنتاجات التي تشكل محتوى إطار المعرفة. لا يزال البشر يستعملون هذه الطريقة من المعرفة في شتى مجالات الحياة وفي جميع ثقافات المجموعات البشرية. استعمل الإنسان هذه الصحف للبحث عن العلاج للأمراض الجسدية والنفسية، صناعة الذهب، البحث عن أكسير الحياة ولا يزال البعض يستشير رجال الدين والعالمين في القضايا الروحية إلى الآن. يبحث البعض في سجلات التاريخ لتفسير سطحية أو كروية الأرض، وتفسير الروح والسلوك الإنساني.
فقدت هذه المعادلة قيمتها مع الثورة العلمية والصناعية مع نهاية القرون الوسطى، ولكنها إلى الْيَوْمَ المصدر الرئيسي للتشريع المدني مثل الزواج والطلاق، وكذلك الحال في التشريع الجنائي. انتهى استعمال هذه المعادلة في الوصول إلى استنتاجات واكتشافات علمية رغم أن هناك من يصر على اللجوء إليها لأسباب شخصية وأحيانا سياسية وتجارية.
٢- مع قيام الثورة العلمية ظهرت المعادلة الثانية وهي:
المعرفة = معلومات تجريبية × الرياضيات
انقر الصورة لترى حجما أكبر
بدأ الإنسان استعمال هذه المعادلة من أجل البحث عن الأجوبة الصحيحة التي تستند على دليل موضوعي. هذه المعادلة هي التي دفعت البشرية إلى التقدم والتطور بسرعة في العصر الحديث. مع استعمال هذه المعادلة تم فهم الأمراض وعلاجها، واكتشف الإنسان مواد كيمائية مختلفة وفهم الكسوف والخسوف وهبط على القمر قبل خمسين عاماً.
هذه المعادلة لا تجيب على الكثير من فضول البشرية فيما يتعلق بمعنى وقيمة الأحداث وسلوك البشر ولا تستطيع إصدار الأحكام الأخلاقية. لا يمكن تطبيق هذه المعادلة لتعريف الجريمة وسبل العقاب ولا تعين أحداً على تشريع قوانين الزواج والطلاق.
٣- وهناك معادلة ثالثة يتم استعمالها فرديا وجمعيا تتعلق بتفكير وحضارة المجتمع والأحكام الاخلاقية الجديدة وهي:
المعرفة = التجارب الفردية × الحساسية
انقر الصورة لترى حجما أكبر
ما تعنيه هذه المعادلة هو أن معرفة الإنسان والشعوب تعتمد على التجارب التي يمر بها الإنسان والحساسية التي يشعر بها من جراء الخوض في هذه التجارب.
التجربة هي ظاهرة ذاتية بحتة تتكون من ٣ أبعاد وهي:
١- الأفكار
٢- العواطف
٣- الأحاسيس
مع كل تجربة ينتبه الإنسان إلى هذه الأبعاد الثلاثة فهناك الفكرة الواعية أولا والأحاسيس المختلفة ثانياً والعواطف بأنواعها ثالثاً. أما حساسية الإنسان فالمقصود بها هو انتباه الإنسان للأبعاد الثلاثة من تجربته (الفكرة والإحساس والعاطفة) والسماح لها بالتأثير عليه. النتيجة هي معرفة الإنسان.
المراجع في الصحة النفسية
تكمن أهمية الحديث عن هذا الموضوع في صقل التواصل بين العامل في الصحة النفسية ومراجعه. هذا التواصل في الصحة النفسية يختلف تماما عن المراجع لطبيب الباطنية والجراح. المريض الذي يستشير طبيبه بسبب آفة مرضية معينة ينتظر الجواب والعلاج من الطبيب. الطبيب بدوره لا يستعمل إلا معادلة واحدة وهي الثانية التي تم استعمالها للوصول إلى معرفة علمية تحدد التشخيص والعلاج. سيعلم الطبيب مريضه عن التشخيص واحتمال نجاحه وفي غالبية الحالات يتم الحديث عن أرقام تعلم المريض عن فرص الاستجابة للعلاج وشفائه.
أما المراجع للصحة العقلية فالأمر غير ذلك. يتم اللجوء إلى معادلة القرون الوسطى الأولى من قبل المريض وأهله وذلك لا يقتصر على العالم العربي والثالث كما يتصور البعض ولكن تشاهده في جميع أنحاء العالم الغربي وإن كان نادر الحدوث بالمقارنة. يستشير البعض رجل الدين وتسمع عن رقية "شرعية" وغير شرعية وعلاج الجن واسترجاع الأرواح. رغم أن الطبيب النفساني لا يستعمل هذه المعادلة ولا يُؤْمِن بها، ولكنه لا يتجرأ أيضاً على الإسراف في انتقادها احتراماً لمراجعه وخلفيته الثقافية. يجب أن يكون الطبيب على بينة من هذه الأمور لأن ذلك يساعده على التواصل مع مراجعه ورحلة علاجه.
المعادلة الثانية هي التي يتمسك بها الطبيب النفساني ومن خلالها يدرك تشخيص المرض العقلي ومساره ومضاعفاته وعلاجه. يستعمل الطبيب الأرقام كما يستعملها غيره من الأطباء ليعلم من يراجعه عن الاستجابة لهذا العلاج أو ذاك واحتمالات الشفاء.
أما المعادلة الثالثة فإن استيعابها في غاية الأهمية من قبل من يعمل في الصحة العقلية. هذه المعادلة توضح للطبيب النفساني بأن لكل مريض معرفته التي اكتسبها من خلال رحلة حياته والمعاناة التي مر بها وبالتالي تلعب دورها في رحلة شفائه. هناك أمثلة عدة من مختلف أصناف الأمراض العقلية التي يمكن دراستها في ضمن هذا المفهوم.
المرض العصبي النفسي
معرفة المريض الذي يعاني من مشاكل في التركيز والذاكرة العملية بسبب عجز في الانتباه هي نتاج تجاربه المختلفة وأحاسيسه وأفكاره وعاطفته تختلف عن غيره. حساسية البشر وقابليتهم على التواصل مع أعماق الشعور الذاتي تختلف بسبب صحة الجهاز العصبي وتكامله وتطوره.
الفصام
معرفة المريض هي نتاج تجارب شخصية تختلف جذرياً عن غيره. الأفكار التي تصاحب التجربة تتميز بغرابتها والعاطفة التي يشعر بها عكس ما يشعر به غيره والأحاسيس التي يستقبلها يصعب وصفها. حساسية المريض المصاب بالفصام قد تتميز بتطرفها وأحياناً بضعفها الشديد. العملية الفصامية عملية مزمنة وبالتالي المعرفة التي يمتلكها الإنسان غير ما يمتلكها غيره وتكاد تكون متصلبة في ثباتها.
الاضطرابات الوجدانية
الحالة المزاجية أو الوجدانية (من اكتئاب أو هوس) للمريض تلعب دورها في تجاربه بصورة مكثفة، وحساسيته للتجارب المختلفة تتأثر بمزاجه.
الاضطرابات النفسية الأخرى
مفهوم المعرفة الشخصية كثير الملاحظة في اضطرابات القلق، كرب ما بعد الرضح والحصار المعرفي (الوسواس القهري) واضطرابات الشخصية المختلفة. التجارب التي يمر بها الإنسان قد تفسر حالته النفسية، والمعرفة التي اكتسبها عبر هذه التجارب لا يتم التخلي عنها بسهولة أو تحويرها بعد جلسات يتحدث فيها الإنسان عن نفسه.
الاستنتاج:
لابد للطبيب النفساني والمعالج النفساني ان يكون على بينة من مصادر المعرفة الإنسانية الثلاثة التي تلعب دورها في استيعاب الخلفية الثقافية للمريض وتواصله مع خدمات الصحة العقلية. الأهم من ذلك أنه يجب على الطبيب النفساني التمسك بالأمانة العلمية والتركيز على المعادلة العلمية الثانية من أجل التخطيط للخدمات الصحية وتقديمها.
واقرأ أيضًا:
البركة أم اللعنة ؟! الدين ومجتمع المعرفة / نحو مجتمع يدعم المعرفة في زمن الضغوط / لماذا يفشل العرب في تأسيس مجتمع المعرفة؟ / الفرق بين العلم والمعرفة والفهم