في أغلب حالات اضطراب الوسواس القهري عند المسلمين يكون الغسيل القهري بغرض التطهر أو التطهير من النجاسة ويفوق بكثير الغسيل القهري بغرض التنظف أو التنظيف من الوسخ وقد قدمنا مقالين في شرح وسواس التلوث والتنظيف وأنواع الغسيل القهري للقذر أو المعدي بشكل عام، وأشرنا في المقال الثاني إلى أفعال الغسيل القهرية في المسلمين، كما وعدنا أثناء شرحنا لكيفية إعداد قائمة المهمات السلوكية في الع.س.م (علاج سلوكي معرفي) لمرضى وساوس التلوث بأن نفرد مقالا خاصا لشرح علاج الحالات التي تتعلق كل بنود قوائمهم بالطهارة والنجاسة، فلما أردنا لهؤلاء مقالة خاصة بهم، وجدنا الأمر يحتاج إيضاحا وشرحا في البداية لعناصر الصورة الإكلينيكية لهؤلاء المرضى كما يعيشون في بيوتهم قبل وربما أثناء العلاج..... ومكان العرض لابد يكون ملف اضطرابات الطيف الوسواسي.
وساوس وقهور غسيل النجاسة في المسلمين :
يمكن النظر إلى النجاسة أو الشعور بالنجاسة كشكل ديني للتلوث الذي يحظر على المؤمن بعض العبادات اليومية الأساسية ما لم يتطهر منه إلا أن من المهم التفريق بين أشكال الغسيل الخاصة بالمسلمين -وهم أغلب من أرى من مرضى الوسواس القهري، وهناك طقوس تطهر بشكل أقل عند اليهود والمسيحيين الملتزمين-، وفي هؤلاء نستطيع رؤية أشكال مختلفة من الغسيل :
1- الغسيل بقصد إزالة النجاسة (حقيقية واقعية أو متخيلة) من على الجسد أو من على شيء آخر وتنتمي إليه وساوس الاستنجاء وإزالة آثار المني من على أي شيء، وعادة ما تكون طقوس الغسيل هنا في دورة المياه.
2- الغسيل بقصد التهيؤ للعبادة كالوضوء وهو شرط لرفع الحدث الأصغر (تبول أو تغوط أو إخراج ريح) أو كالغسل وهو شرط لرفع الحدث الأكبر كالجنابة في حال نزول المني أو التقاء العضوين الجنسيين (الختانين) بين الرجل وزوجه، وفي هذا النوع أيضًا عادة ما تتم طقوس الغسيل في دورة المياه، ولابد من التفريق بين الغسيل هنا والذي لا يزيل نجاسة ما من على الجسد من الغسيل في حالة الاستنجاء... ولابد من التفكير في صلاحية هذه الفئة للتصنيف ضمن وساوس التلوث لأنها ليست حقيقة لإزالة تلوث وإنما يقصد بها التهيؤ للعبادة.
3- الغسيل بغرض التخلص و/أو التحرز من نجاسة انتشرت انتشارا سحريا لأن مصدرها متحرك كأن يكون المصدر كلبا أو مصدر نقلها متحرك كأن يكون شخصا آخر ينقل النجاسة كمسنًّ يعاني من سلس البول أو مسن كفيف، أو حائض لا تحكم التحفض، أو يكون المصدر هو المريض نفسه، وفي هذا النوع لا توجد حدود معتادة للمكان الذي يمكن أن تشمله طقوس الغسيل، كما أن من النادر أن يقتنع المريض أنه تم التخلص منها تماما مهما فعل بسبب انتشارها السحري اللامحدود.
لا يمكننا الإلمام بكافة أشكال هذا الطيف الواسع من الأعراض الوسواسية القهرية مهما تخيلنا إلى أين يمكن لتحاشي النجاسات أن يصل بالمريض الموسوس، ليس فقط من أجل الحيل والتدابير البعيدة التي يصل إليها أو يلجأ لها المرضى وإنما أيضًا من حيث مصادر النجاسة كما يراها المريض... وكيفية انتقال النجاسة كما يوقنها المريض وهو لا يتبع إلا ظنا لكنه يتصرف كأنه يقين..... لكن أكثر أشكال وساوس العبادات إضاعة لوقت المريض وتسببا في خلل أدائه شخصيا وأسريا واجتماعيا هو هذا النوع من الوساوس ... وإجمالا يصل كثير من المرضى إلى الدرجة التي يصبح الإجراء العلاجي بالتعريض لعين النجاسة لازما مبدئيا أو في مرحلة من العلاج ... صحيح أن هناك من يكتفى في علاجه بالتعرض فقط للشك في وجود النجاسة وتجاهله لكن المفرطين في التحاشي والمفرطين في التفكير الخرافي المرتبط بانتشارها ... هؤلاء غالبا ما يحتاجون التعرض لصريح أو عين النجاسة.
أولا : نجاسة تتعلق بمفرازات السبيلين:
المقصود بالسبيلين هو القُبل والدبر؛ أي مخرج البول والبراز، وهما المفرزان الرئيسان إضافة للمفرازات المهبلية للنساء بما فيه دم الحيض، ثم يضاف إلى ذلك المَذْي والوَدْي والمَنِي، وفي أحكام السوائل الثلاثة الأخيرة الفقهية اختلافات بين الفقهاء بما يمكن أن يوقع الموسوس في غيابات الشك والحيرة؛ فالمني طاهر عند الشافعية والحنابلة، نجس عند الحنفية والمالكية، وتطهير الثياب والجسد منه واجب عند من قال بالنجاسة، ومستحب عند من قال: إنه طاهر، وربما ينقل المعالَج الشك والحيرة بالتالي إلى المعالِج، ما لم يمتلك الأخير من المعرفة الفقهية والخبرة في العمل مع الموسوسين ما يحول بينه وبين ذلك، وللمبالغة في التطهر من النجاسة (46.4%) أشكال متعددة منها:
1. ما يتعلق بكيفية الاستنجاء ومداه ومدته والشك فيه وتكراره، بل وكثيرون منهم يستخدمون الصابون أو الشامبو في الاستنجاء... إلخ، واستخدام المنظفات والمطهرات في الاستنجاء ليس نادرًا أن يحدث التهابات كيميائية في قناة المبال أو حتى الشرج بسبب الإفراط في استخدام الصابون و/ أو المطهرات في الاستنجاء للتطهر.
2. منها ما يسبق الاستنجاء من انتظار واستحضار لمزيد من البول أو البراز أو الريح قبل الاستنجاء، وبكل ما يمكن تخيله من أشكال الضغط والعصر على البطن والمثانة وعضلات الحوض، وسوف نفصل في ذلك لاحقًا عند الحديث عن بدع الموسوسين في الاستنجاء.
3. منها ما يتعلق برذاذ البول الذي يصيب جزءًا من الجسد أو من الثياب، وعليه تُبنى طقوس التطهير أو الغسيل،
4. منها ما يتمثل في صورة وساوس وقهورات استباقية أو احترازية Anticipatory Compulsions أو قهورات اجتنابية Avoidance Compulsions، وهو مفهوم استنتجته أثناء عملي المعرفي السلوكي مع المرضى ثم حين قرأت عن احتياطات التأمين لسالكوسكس وكلارك وراكمان وجدت أنها اسم آخر للمفهوم نفسه؛ أي اتخاذ تدابير معينة للحيلولة دون وقوع الوسوسة قدر الإمكان، (بتحاشي النجاسات في هذا المقام)؛ ومنها على سبيل المثال:
- تخصيص ثياب معينة للصلاة (بخلاف الإسدال).
- عدم الصلاة في ثوب (طاهر) لمجرد أنه كان يُلبس أثناء فترة الطمث.
- ارتداء قفازين تحاشيًا لنجاسة الأشياء (طوال الوقت أو فقط بعد الوضوء).
- الامتناع عن لمس أي شيء أو شخص أو أشياء أو أشخاص معينين أثناء الوضوء... إلخ.
- أفعال مثل ضرورة خلع الثياب أثناء التغوط أو التبول، ضرورة غسل نصف الجسد السفلي بعد التغوط أو التبول.
- عدم القدرة على استخدام الحمام التركي خوفًا من الرشاش المتطاير أثناء التبول أو أثناء الاستنجاء، وأيضًا عدم القدرة على استخدام الحمام الإفرنجي خوفًا من ارتداد الرذاذ من الماء الموجود عند ارتطام البول أو البراز به أو استخدامه كما يستخدم الحمام التركي؛ أي بالجلوس القرفصاء على قاعدة الحمام الإفرنجي، أو وضع مناديل ورقية على سطح الماء لمنع ارتداد الرذاذ... إلخ، وعلى العكس عدم استخدم الحمام الإفرنجي بالطريقة العادية قبل تطهيره بالمنظفات.
المبالغة في الاستبراء من البول : بدع الموسوسين في الاستنجاء:
يصعب على بعض الموسوسين الاستبراء من البول وغيره من مفرزات السبيلين بما يدفع إلى طقوس تكرار وربما طقوس حضٍّ على الإخراج لذلك من المهم السؤال باستفاضة عن تفاصيل طقوس المريض في الحمام، وطريقة تعامله مع ما يخرج من السبيلين.. وإذا كان أغلب ما يمكننا تخيله عن وساوس وقهور التطهر في الحمام سيدور غالبا حول المبالغة في الغسيل بتكراره الغسيل وزيادة مساحات المغسول من الجسد، وربما حول التحفض وفي الحالات المزمنة الشديدة تجد من يتحاشي الأكل و/أو الشرب حتى يصلي العشاء ! كي لا يضطر لدخول الحمام ! فإننا يفاجئنا نص أورده ابن القيم حيث يصف الفقهاء 10 أشكال من البدع في استنجاء الذكور هي: السلت والنتر والنحنحة والمشي والقفز والحبل والتفقد والوجور والحشو والعصابة والدرجة، فالسلت والنتر ليستخرج ما يخشى عوده بعد الاستنجاء، والنحنحة ليستخرج الفضلة، وأما المشي والقفز فيمشي خطوتين ثم يرتفع عن الأرض شيئًا ثم يجلس بسرعة، والحبل يتخذ بعضهم حبلاً يتعلق به حتى يكاد يرتفع ثم ينخرط منه حتى يقعد! وأما التفقد فيمسك الذكر ثم ينظر في المخرج هل بقى فيه شيء أم لا؟ والوجور يمسكه ثم يفتح الثقب ويصب فيه الماء، والحشو يكون معه ميل وقطن يحشوه به كما يحشو الدمل بعد فتحها، والعصابة يعصبه بخرقة، والدرجة يصعد في سلم قليلاً ثم ينزل بسرعة. (مصطفى السعدني، 2007) هذا النص لم نقرأ مثله في أدق البحوث الغربية الحديثة.
ومن أشكال المبالغة في الاستبراء من مفرزات السبيلين بكل أنواعها وليس قصرا على البول نجد أيضًا تغيير الملابس الداخلية أكثر من مرة يوميًّا، ورغم حدوثه في المرضى الذكور إلا أن هذا السلوك شائع بشكل مفرط في الموسوسات الملتزمات بالوضوء والصلاة، وإن لم تزد نسبته عن 10.9% من عينة بلغ عددها 570 مريض وسواس قهري ديني .. لسبب بسيط هو أنه مسألة أنثوية خاصَّة جدًّا، وقد لا يعرفها إلا صاحبتها التي تحمل في حقيبتها عادة عدة نسخ من اللباس التحتي الداخلي؛ لأنها تحتاج تغييره مع كل وضوء وصلاة، ولا أستطيع ادعاء أني سألت كل موسوسة عالجتها عن هذا الأمر، فربما بدأتُ ذلك منذ سنتين لا أكثر أي منذ 2007، ولكنني كلما تقدم بي العمل مع الموسوسات أشعر بأهمية السؤال المباشر عن عدد مرات تغيير الملابس التحتية الداخلية؟... ويتعلق الأمر غالبا بالشك في نزول نقطة أو إفرازات بما يعني تنجس الملابس الداخلية وضرورة تغييرها قبل الوضوء.
5. وساوس انتشار الجنابة أو نجاسة المني وفي هذا النوع من المرضى كثيرا ما يظهر فيها التفكير الخرافي في صورة قانون الانتشار السحري Law of Contagion؛ فتجد المريض يفكر هكذا : "مجرد حدوث التلامس بين شيء وشيء أصاب بولاً أو منيًّا ينقل النجاسة إلى الشيء الطاهر"، وفي بعض الأحيان يستمر ذلك الانتقال من شيء لشيء إلى ما لا نهاية!، ولوسواس الجنابة أو أثر المني أشكال عديدة؛ منها الزوجة التي تفرط بعد جماع زوجها في التعامل مع كل ما قد يكون أثرًا للمني (واقعيًّا أو متخيلاً) على أنه تنجس، وتبقى تطهر وتبدل وتغسل وتطهر، ومنهن من تصبح عاجزة عن جماع زوجها أكثر من مرة أو مرتين في الشهر بسبب ما ستجد من قهور بعد المعاشرة الزوجية.
وأما وساوس الجنابة في الذكور فكثيرًا ما ترتبط بالتفكير السحري والعواقب التي تنتج من انتشار المني؛ بداية من نجاسة الأشياء بمجرد اللمس، وانتهاء بحدوث الحمل للأخت أو الأم... إلخ.... وأحيانا نجد الزوجة التي تنتظر الحمل وتخاف أن تحمل من حيمن لغير زوجها أو الحامل التي تشك هل هو من زوجها أو سواه وكلهن يمارسن أشكالا من التحاشي والتطهير والتنظيف ويعبث بهن التفكير السحري في انتقال الحيمن.
6. خروج المني والشك في خروجه: ويرتبط الأمر هنا بالشك والاشتباه في خروج المني أثناء النوم وما يستتبعه ذلك من ضرورة الاغتسال عند المسلمين، وإن خبرات النائمين الجنسية خبراتٌ كثيرةٌ، وإن كنا لا نعرف إلا ما يذكره من يتذكرون، وهذه الخبرات تختلف كثيرًا فيما بينها وتبقي مجالاً واسعًا للفروق الفردية بين الناس، واختلافات والتباسات خبرات النائمين الجنسية يمكن جدًّا أن تدفع المهيأ للوسوسة إلى براثن وسواس الشك في الجنابة، والفعل القهري المباشر هنا عادة ما يكون الاغتسال مبنيًّا على الشك أو أخذًا بالأحوط، وهو ما يصل بكم كبير من هؤلاء المرضى إلى الاغتسال عقب كل نوم، لكن كذلك منهم من يضطر لأفعال قهرية كالتفحص وتحري أثر المني في الثياب أو الجسد أو حتى الفراش، ومن المؤسف أن أغلبهم يلجأون أخيرًا بعد قهورات التفحص والتحقق إلى الاغتسال القهري؛ لأن التحقق فشل في طمأنتهم، بحيث تبدو قهورات التفحص والتحقق مرحلة تنتهي بقهورات الاغتسال... مثلما نجد من يلجأون لقهورات تحاشي المني أو مفرزات الجماع فمن غير المتزوجين من يحاول تجنب النوم بين الصلوات في اليوم الواحد أو مثلاً لا ينام ليومين، ومن المتزوجين من يضع قيودًا لا حصر لها مع الزوج/ الزوجة، مصرحًا بما يستوجبه ذلك من قهورات تنظيف وتطهير واغتسال... إلخ.
المراجع:
1- مصطفى السعدني،(2007) : تاريخ اضطراب الوسواس القهري(10) منشور على موقع مجانين.كوم
2- إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان: محمد ابن قيم الجوزية: المكتبة التوفيقية-القاهرة، تحقيق: عبد الحكيم محمد عبد الحكيم.
ويتبع>>>>> : وسواس النجاسة التطهر التطهير القهري2
واقرأ أيضًا:
استشارات عن وسواس الوضوء / استشارات عن وسواس النجاسة / استشارات عن وسواس التطهر / استشارات عن وسواس الاستنجاء