"....ومنكم مَن يُرَدُ إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علمٍ شيئا..."22:5
حضرني ذات يوم هذا السؤال وأنا أعاين عددا من المرضى المسنين الذين أخذت الأيام من ذاكرتهم الكثير، وما أبقت لديهم القدرة على تذكر ما فعلوه قبل بضعة ساعات وربما دقائق، والبعض منهم لا يذكر شيئا، وكم يؤلمني ويرعبني أن أرى صورا لمسيرة حياة الشخص معلقة على الجدران وعندما أسأله عنها لا يعرفها، ولا يعرف صورته ولا يستطيع أن يخبرك بقصة أو حدث يرتبط بالصورة، بل لا يمكنه القول بأنها صورة، وإنما يتسمر أمامها مذهولا وقد انمحى كل شيء كان حيا في رأسه. إنه الخرف الآفة المرعبة التي تفتك بالدماغ البشري وتلغي ما فيه من المعلومات والذكريات والصور والحالات، وتتركه موجودا برأس بلا ذاكرة ولا قدرة على التفاعل مع حاضره ومستقبله.
وبين جمع من الناس التي أصاب ذاكرتهم ما أصابها من الوهن والذبول والانمحاق، وجدتني أقارن أحوال الأمة بالمُسن الذي عاش حياة ذات قيمة ومعنى لكنه في موقف لا يذكرها ولا يعرفها ولا يدري مَن هو وإلى أين سيمضي.
أمة انطلقت وقدمت ما هو أصيل ومتميز وقادت البشرية نحو آفاق سماوية وفضاءات كونية، وأخرجت العقول من الظلمات إلى النور، وتفاعلت بأنوار الأفكار العلوية الكبرى، وبعد أن دارت بها القرون وجدتها هامدة جامدة منذ بدايات القرن العشرين وحتى اليوم، وكأنها لا تمت إلى الحياة بصلة، وأن ذاكرتها قد أصابها الانمحاق والمرض المهين.
ومن عجائب الخرف خصوصا في بداياته يحدثك المريض عن الماضي بدقة وتفاصيل، وينغمس فيه لأنه الشيء الوحيد الذي بقي في ذاكرته، ومع اشتداد المرض يفقد الكثير من ماضيه، وربما يأتيك بقصص مختلقة (إذا بقيت لديه مفردات كافية) ليواصل حكاياته ويبدو على أنه صاحب ذاكرة ونباهة، وبعض الذين يؤثر فيهم الخمر ويصيبهم بالخرف يميلون إلى اختلاق القصص لكي يملئوا بها فجوات الذاكرة وما يصيبها من محو وفراغات أو انقطاعات.
وهذا السلوك ينعكس على أبناء الأمة فيترجمونه بوضوح، فتجدهم منغمسين بالتأريخ والإمعان في أحداثه المدونة والمنقولة، وكأنهم يعيشونه ويتوطنون فيه ولا يعنيهم من حاضرهم ومستقبلهم شيء، ولهذا تسود الكتابات الماضوية والتحليلات والتفسيرات التي لا تمت للعصر بصلة، ولو أجرينا مسحا لما يُكتب ويُنشر ويُقال في الخطب والمجالس لتبين أن أكثره ماضوي الطباع ومن وحي الإغراق في الغابرات.
ولو بحثت عما يخص الحاضر والمستقبل لتعجبت من ندرته وقلة الإشارة إليه، وهذا يعني أن الأمة تعيش في محنة عسر الذاكرة التي هي من مميزات أرذل العمر، فالأمة لا تفكر بمفردات الحاضر والمستقبل وإنما بعناصر ورموز الماضي البعيد، ولأن أجيالها لم تعشه وإنما تتصوره، فإن الميل للاختلاق والتهويل والتقديس والتعظيم صار سلوكا مهيمنا ومؤثرا في الحياة.
فالماضي مقدس ورموزه قد تم نقلهم من كونهم بشر إلى آلهة أو موجودات فوق البشر، وبهذا تحقق بناء المعوقات والمصدات أمام الأجيال وطمرها بما لا يمت بصلة إلى الحياة، وكأن نهر الأجيال قد تم تعويقه ببناء السدود الكبيرة التي تدفعه للتركد والانحباس في مستنقعات الويلات والتداعيات، والتصارعات التي تفضي إلى مزيد من التراكمات السلبية المساهمة في دفع الجموع إلى الماضي البعيد جدا.
ووفقا لهذا الحال تبدو الأمة وكأنها في أرذل عمرها، وتحتاج إلى أطباء ألباء لمداواتها ووقاية الأجيال الصاعدة من تأثيرات هذا العمر الرذيل.
فهل من وعي لحقيقة حال الأمة وجوهر علتها؟!!
واقرأ أيضاً:
الأمة أمة والهمة همة!! / البارحَوية!! / طالبوا أنفسكم أولا يا عرب!! / أموال مهدورة وعقول مكدورة!! / السودان والبركان!! / أين " الله أعلم"؟!!